عمتي وفيقة
زياد كاج
جمعت عمتي وفيقة الرقيقة والخفيفة الظل، خلال إقامتها الطويلة نسبياً في باريس، بين الثقافة الفرنكوفونية والثقافة البيروتية (الرأس بيروتية تحديداً) حتى صارت تمتلك مزيجًا من المفردات والعادات والتعابير “الفرنكو-رأس بيروتية”. فهي تمكنت بفطنتها العفوية وبديهتها من “ركل” كل ما لم يرق لها من الحياة الباريسية الصاخبة والاحتفاظ بكل عزيز على قلبها من سنوات عمر مديد أمضته بين تلة الخياط وبيتها الزوجي في عائشة بكار. من شخصيتها المميزة والمنتقدة لجيل اليوم المتأثر بالمظاهرالغربية أكثر من المضمون، وبالقول أكثر من الفعل، ظهرت شخصية “كوكو ماك ماك”(كريمتها الصغيرة) بوجوهها المتعددة على السوشال ميديا (يو تيوب) للتحول الى شخصية مشهورة ولها الآلاف من المشاهدين كأم منتقدة لانتها كوكو التي عاشت وكبرت في فرنسا.
عمتي وفيقة كانت ولا تزال صاحبة حضور “ياسميني” في الوسط العائلي. جدتي الحاجة ام مصطفى كانت دائمة الحضور في بيتها لقرب آخر العنقود الى قلبها ولقرب بيت عمتي من بيت جدي. اُولى مشهداتي لها وأنا ولد برفقة جدتي كان في بيتها المرتب والنظيف ( يمكن وصفه بالبرجوازي في تلك الأيام ) بشكل ملفت. كانت تلفتني بقامتها النحيفة، بأناقتها، مشيتها وطبقة صوتها “الرنانة” التي لم تكن تخلو بشيء من الوعي البورجوازي الملطف الذي لا يلبث أن يتلاشى بضحكة رنانة تذكر مجايليها بالجلسات البيروتية الشعبية القديمة وبزمن البحبوحة وراحة البال وليالي رمضان وأيام عيد الفطر.
حضورها في الوسط العائلي كان ولا يزال براقاً وبلورياً . انطباعي كان أنها نالت بعض من الغنج مقارنة مع بقية أخوتها (أعمامي) والمرحومة اختها (عمتي رهيفة) رحمها الله. كان جدي الحاج أبو مصطفى “يعطيها اُذنه” (حسب وصف شقيقتي)، أي أنه كان يسمع نصائحها وتوجيهاتها من وقت لآخر وعندما تطلب منها جدتي التدخل لتعديل مسار تفكير “أبو العيال” الحلبي العنيد المهاجر الى بيروت من الكلاسة (هرب من زواج مدبر في ليلة عرسه).
حظ وفيقة مع “بطيخة الزواج” كان عسلاً. بذورها السوداء كانت نادرة جداً. هنا أذكر البطيخة التي كان يضعها كبار العائلة في المياه الباردة في منطقة ملتقى النهرين خلال نزهة يوم أحد ورائحة المشاوي يحملها الهواء العليل ونحن “زودة البياع” في سيارة أحد الأقارب. تزوجت من المرحوم محمود المكاري، مخترع ومطور الكلاج اللبناني، فأنجبت منه بنات وشاب. ظروف الحرب الأهلية حملت العائلة مجبرة الى باريس حيث كبر الأولاد وتعلموا ..وكرت سبحة الايام قبل العودة مجدداً الى بيروت .
في الوسط العائلي، يظهر وجه عمتي وفيقة ضاحكاً بشوشاً بين كثرة ضيوف صالونها المفتوح وصينية القهوة تتنقل وتتمايل كأنها راقصة شرقية. شرفة بيتها كان لها دور مميز وتاريخ. شهدت جلسات عائلية وصلحات كأنها مجلس أمن العائلة. وشهدت أهم مباريات ومبارزات لعبة طاولة الزهر حامية بين لاعبين كثر: جدي ، المكاري، أبو رياض(أبي)، القلعجي، وبين عمتي وفيقة وعمتي رهيفة وغيرهن. لا يزال صوت الزهر وحركة نقل أحجار الطاولة وعبارات “التزريك والشماتة” عالقة في ذاكرتي. وأيضاُ الأصوات الصاعدة من الشارع تحت وصوت آذان الجامع القريب.
عمتي وفيقة راوية من العيار الثقيل. تتقن فن نقل التفاصيل وذاكرتها فولاذية لا تخسر. ترسم أمامك تفاصيل بيت جدي القديم الذي كان مكان حديقة عائشة بكار. ترى الحجارة القديمة التي جمعها جدي وأبوه وبركة المياه والجنينة حيث الورود والشتول على أنواعها مزروعة في علب التنك على الطريقة البيروتية التقليدية ببركة وعناية جدتي كي لا يشعر جدي بغربة عن أجواء حلب القديمة. ذاك الحلاق البارد والحكيم والذي عاش الحياة كأن بينه وبينها عشرات الأمتار. هي الحافظة لأمزجة ونوادر وخبريات إخوتها كما تحفظ التلميذة النبيهة لقصيدة وطنية ستلقيها في احتفال مدرسي. تعطي كل ذي حق حقه وكل صاحب نصيب نصيبه. في جلساتها نستمتع بسردها عن أقارب وأناس عرفناهم صغاراً، فتكون متعة الاكتشاف من جديد. عمتي وفيقة تعرف لماذا ترك أبي بيت الأهل قاصدا فلسطين، وتضحكنا لمرجلات وصولات عمي المرحوم، وتستعيد بحسرة بيروت أيام زمان..يوم كان التراب الأحمر يغطي طرقات عائشة بكرا ورأس بيروت المليئة بالصبير. فطريق عائشة بكار الرئيسية عرفت الزفت أيام الرئيس كميل شمعون.
استعادت الفترة التي جرى فيها إافتتاح مبنى القناة 7 حيث تم فرش الرمل الأبيض أمام المبنى الشاهق الجديد. فرشوا الأرض الواسعة أمام المبنى بالرمال الذهبية وجلبوا كميات كبيرة من الكراسي الخشبية وضعوها بشكل صفوف متراصة أمام المبنى. خلال النهار كان كميون مثبت عليه مذياع يصول ويجول بين الشوارع والأزقة داعياً الناس من كل الأعمار لحضور حفل الافتتاح:”يا أهالي عائشة بكار..يا أهالي تلة الخياط..سيحضر المطرب الكبير وديع الصافي والحفلة مجانية”.
وفي الأمسية المحددة، ذهبت عمتي مع أمها وجدي وأولاد الجيران وكل أهل الحي الى مكان الاحتفال. غص المكان بالحضور ورجال الدرك منتشرون لحفظ الأمن والنظام. بدأ عريف الاحتفال بقراءة كلمته والناس في حالة فرح وانتظار لبدء البرنامج الفني. أخذ العريف يرحب بالرئيسين شمعون وسلام، فتلفت الحضور الى الوراء بعد الوقوف في لحظات لمشاهدة الرئيس شمعون بالبلذلة البيضاء والرئيس صائب سلام يمشيان يداً بيد، والقرنفلة تزين صدر الزعيم البيروتي. جلسا وسط الحضور وليس في الصف الأمامي المخصص للمسؤولين من الصف الأول! لم تكن موضة المواكب الأمنية دارجة في ذلك الزمن. ولم تكن المسافة بعيدة بين الزعيم وعموم الناس. بعض النسوة اُعجبن بطلة الرئيس سلام وبذلته وضحكته العفوية. وبعضهن رحن يتهامسن لوسامة الرئيس شمعون وشعره الأبيض وأناقته الملفتة. حتى عمتي أعجبها شمعون أكثر من سلام!
كانت ليلة لا تنسى ، تقول عمتي وفيقة وقد امتدت السهرة حتى وقت متأخر من المساء فأبدع المطرب وديع الصافي وألهب الحضور بأغانيه الوطنية وصوته الجمهوري. في تلك الأمسية تابع الحضور المطرب شخصياً وهو يعزف على عوده أمام الميكروفون، جالساً على كنبة كبيرة . وفي نفس الوقت كانوا يشاهدونه على شاشة تلفزيون وضع بالقرب منه. كانت المرة الأولى التي يرى فيها الناس هذا الجهاز العجيب.
في كتابي “محمود المكاري يتذكر: حلونجي بيروتي قصة الكلاج اللبناني” الصادر عن دار نلسن 2017، رويت قصة زوج عمتي في نضاله ومسيرته الطويلة لتحقيق حلمه بفضل إرادة وتصميم لا ينكسران أمام الصعاب. واليوم أجد أن عمتي توأم آخر لزوجها حيث جمعهما حب نادر وصفات مشتركة ، وهي حضرت وتابعت معي المقابلات التي كنت اُجريها مع الراحل في بيته لأسباب صحية.
تزور عمتي اليوم بيروت وعائشة بكار كأنها في زيارة وداعية رغماً عنها. الأولاد والعائلة كلها صارت مستقرة في باريس. وفيقة تحب بيتها في بيروت، تفضل “هنا” على “هناك”..لا تبهرها الأضواء الباريسية ولا عطورها وصرعاتها. فرائحة ياسمينة تذكرها ببيت جدي ودفء بيتها حيث ذكريات العمر مع شريك العمر ونسيم بحر رأس بيروت أجمل وأقرب الى قلبها.
تستعيد عمتي ذكرى افتتاح القناة 7 في عائشة بكار بفخر وفرح. وتضحك كيف أن جدي الحاج أبو مصطفى أصابته الغيرة فاشترى قطعة قماش أبيض وقصد خياط المحلة لتفصيل بذلة بيضاء ! ” إستمرينا نحكي لشهور عن تلك السهرة”، تقول.” حتى تعاونا أنا وأخوتي على شراء أول تلفزيون يدخل البيت وكنا نستمتع بمتابعة القناة المصرية التي كانت تعرض أفلامًا ووصلات رقص شرقي”.
حين تزوج أبي خطيفة من أمي المسيحية وجلبها الى بيت العائلة في عائشة بكار، جمعت جدتي الحاجة أولادها الشباب. حملت شحاطتها البلاستيكية بيمينها مهددةً :” من يغلط معها بكلمة كأنه غلط معي وسيكون حسابه عسيرًا”.
” يا ابني في ذلك الزمن الجميل”، تقول عمتي وفيقة بحسرة،”ما كنا نعرف الفرق بين سني وشيعي. كنا نعيش الدار الى جانب الدار..” تشعل سيجارة وتقول شاردة :
” ما بعرف شو صار!”