أمي….أم رياض

Views: 631

زياد كاج

لا أستطيع أن أكتب عن أمي في عيد الأم لأنها ببساطة كانت أكثر من ذلك بكثير.

كانت أمًا وأبًا ومصدر رزق البيت وصمام أمان منع  انفجار عائلتنا مرات عديدة . أم رياض- أو نيلي إيليا الهبر-على الهوية، كانت ولا تزال جسر عبورنا الى الناس ، كل الناس، وحياة المدينة الصاخبة المعقدة والقاسية.كانت بساط البساطة الذي سهل علينا حفظ أبجدية البشر دون تصنع أو فذلكة، أو دونكيشوتية لبسها كثر من حولنا .

كانت كمبخرة تترك عطر الأمان وتخرج لكسب قوت العيش خارج البيت ونحن في الدار في سلام وطمأنينة وحلم؛ معنا الكتب والدفاتر والأقلام والأحلام نفترش الأرض. منذ أن وعيت وأنا أعرفها عاملة في الخارج: في شركات ومكاتب وأحيانا في منازل الأغنياء. وأيضاً عاملة في البيت مساء حيث صومعتها: المطبخ. فهو محبستها المفضلة المكونة من ماء و”تايد” للجلي وقرقعة صحون وأشواك كثير منها كان من قدر رماها على أقدام المدينة . كانت أم رياض من البروليتاريا المسحوقة دون أن تدري. رهانها كان على ثلاثة: أخي وأختي وأنا. وهي أصابت بالحدس وغريزة الأم القاصدة المدينة من ضيعة طيبة القلب لكن قاسية جداً مع كل من يخالف الأعراف والتقاليد.

نعم .. بدأت أمي حياتها المهنية خادمة لدى عائلة بورجوازية. كانت تنام في “التتخيتة” مع الصراصير والفئران. ثم ابتسم لها الحظ وانتقلت لخدمة عائلة متحضرة في منطقة الحمرا. صارت الحياة أكثر وردية بالنسبة لها. تعرفت الى أبي الذي قصد المقاهي أكثر من الجوامع وهربت معه خطيفة الى الكويت. عادت معه بعد سنوات ومعهما صبي وبنت. أنا ولدت هنا في بيروت، في عائشة بكار على يد القابلة فاطمة عساف في بيت جدي القديم حيث كانت الحديقة القريبة من مبنى القناة 7. تقول عمتي إن أبي لم يكن يرغب بتعليمنا بسبب ضيق حاله. لكن بفضل مساعدة أقارب أبي ومكنسة أمي وممسحتها.. وصلنا الى الجامعة فالوظيفة وفرضنا أنفسنا في وسط الطبقى الوسطى وصرنا محسوبين على أهل الثقافة والعلم. حتى اليوم، أحمل إحساسًا بالذنب تجاه عمال وعاملات التنظيفات عندما يدخلون مكاتبنا في الصباح للقيام بواجباتهم.

أم رياض مشروع حب متكامل. بل محيط من الحب. بحثت في كل الناس من حولنا، بين كل الأقارب، بين الجيران، في صفحات القواميس والموسوعات..فلم أجد لها عدوًا واحدًا! غريب أمر هذه المرأة! ولا حتى خصومة!

ولا حتى ثأر  قديم !

هي اليوم زيت الشفاء والبركة لكل العائلة. تقع وتتعثر كثيرا والحمد لله يمر القطوع “ع سلامة”. تقول ببراءة وإيمان “إن العدرا عم تستلقاها (أي تمنعها من الوقوع أرضاً). أضحك لإيمانها الفطري الصافي كصفاء قلبها النقي وروحها الشفافة كقطرة مطر عالقة على ورق عريشة عنب بعد يوم ماطر في ضيعتها..في بحمدون.

لم تقل لنا يوماً إنها “مسيحية” ولا حاولت شدنا الى عقيدتها. لم تضع صليباً على عنقها بل في قلبها وأغلقت الباب. لم تجاهر يوماً بطائفتها .أمي الأمية تعرف أن الايمان هو بالممارسة وليس بالمظاهر، ليس بالرموز. رغم أن أبي كان علمانياً بالممارسة. كنا نقصد الضيعة صغاراً. كنا نزور بيت جدي وبيت خالتي وأخوالي ولا نشعر بالاختلاف أو بضيق لأن فراشات الحب والقبلات والقبول كانت دائماً تحوم فوق رؤوسنا. والفضل يعود لأم رياض وخالتي ناديا وروزيت وأخوالي مخائيل ويوسف.

   الضيعة كانت ولا تزال نصفنا الآخر..شيء فينا من فوق رغم أننا أبناء مدينة. شيء من الانتماء والحنين يشدنا الى فوق، الى كل ذلك الجمال والخضار وعرايش العنب وأشجار العناب والتوت. كثير منطيبة ونقاءطبيعة جبالنا اكتسبناه من أمي دون كلمة منها!

أخبرتني عمتي في جلسة استعادة للذكريات قبل سفرها الى باريس كيف جمعت جدتي الحاجة أم مصطفى( تعلمت الخياطة في دير للراهبات) أولادها وبناتها في حديقة البيت القديم وهي تهدد وتتوعد والشحاطة البلاستيكية في يمناها كل من يغلط ولو بكلمة مع عروسة أبنها “المسيحية”. وكيف أنها اكتشفت صدفة سلسال ذهب معه صليب صغير كانت أمي قد خفته بين الفرش واللحف في بيت العائلة القديم.

الغريب في الأمر أن أم رياض، اي نلي الهبر، معروفة في رأس بيروت ووسط عائلة أبي أكثر من دائرة الضيعةا فوق. فبعد رحيل كثر من الأخوة والأخوات شعرت أنها لم تعد ترغب بالصعود الى فوق. فإلى جانب وضعها الصحي، ألحظ في داخلها شيء من الخوف من فوق..شيء من الملل من الحياة والتعب وفهم الأشياء. فقط تريد أن ترى أولادها وأحفادها…اُشيح بنظري عن عيناها حين تتأمل أولادي وتعب الزمن ترك آثاراً واضحة على وجهها وجسدها. أحسبها تسرق النظرة الأخيرة، الفرح الأخير، والأمل الأخير. هم الخيط الرفيع المتبقي لها بين الوعي واللاوعي على هذه الفانية. عيناها ينسحبان رويداً رويداً الى الخلف وتنام. تنام على السرير الذي نام عليه أبي آخر مرة.

لا أذكر أمي إلا وهي في عطاء وتضحية وحركة دائمة من أجلنا والجيران والأقارب. تحملت من أبي الكثير ومن ظلم الحياة أكثر. وصلت الأخبار الى الضيعة. البعض شمت، البعض تمنى لها الصبر، والبعض وجد فينا خشبة خلاص. لم تطلب منا ما تريد لها في المستقبل!لم تكن إشارة سير أو صاحبة أوامر أو سلطة. مملكتها الصمت وعالمها من حركة ونشاط لا يكل . نشاط الفلاحين في قرانا الذين يصادقون الشمس منذ الصباح ويغدون الى بيوتهم برفقة القمر. حتى أبي الذي ربى القمل في شعر جدتي الصبورة والمحبة من خوفها عليه، تمكنت أم رياض بصمتها ولاعنفيتها من ترويضه وتدجينه وإعادته الى بيت الطاعة بعد اكتشافه مع تقدمه في السن أنه لم يكن يعرف قيمة ذلك الحائط المخملي والروحي الذي حمى أولاده وبيته من السقوط. أحبها “ع كبر” …وندم.

تجلس أم رياض متعبة على الكنبة في صالون دارنا. ترعاها وتهتم بها أختي عايدة التي تحفظ عن ظهر قلب  تفاصيل أدويتها وحاجاتها ووضعها الصحي. تشبك أمي يديها وتسرح في شاشة التلفزيون ولا تفهم ما تقوله المذيعة عن الحروب وما يجري في البلد من فساد وإفلاس وفوضى وخراب ودمار وخسارة للأرواح.

“نيالك”، أقول لنفسي. سلامها رغم تعب جسدها وآلامها آت من انقطاعها عن أحوال وأهوال البلد. نظراتها توحي بأنها لا تزال تعرف وتقرأ وجوهنا..وهذا أكثر من كاف.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *