“الفلسفالوجيا” فن إنتاج الفلسفة علميًا

Views: 392

حسن عجمي

(مفكِّر لبناني)

 الفلسفالوجيا مركَّبة من “الفلسفة” و”لوجيا” بمعنى عِلم. وبذلك الفلسفالوجيا هي عِلم الفلسفة. من هذا المنطلق، تهدف الفلسفالوجيا إلى تقديم الفلسفة علمياً وطرح نظريات فلسفية علمية قابلة للاختبار. لذا تعبِّر الفلسفالوجيا عن نظريات الفلاسفة وتصوغ نظرياتها الفلسفية من خلال معادلات رياضية ما يمكّننا من اختبارها فيضمن علميتها.

 مثلٌ على الفلسفالوجيا تقديم نظرية أفلاطون حيال المعرفة القائلة بأنَّ المعرفة اعتقاد صادق مُبرهَن عليه على أنها معادلة رياضية ألا وهي التالية: المعرفة = الاعتقاد × صدق الاعتقاد (أي مطابقته للواقع) × البرهنة على صدق الاعتقاد. هذا يعني أنه من الممكن تقديم نظرية أفلاطون في المعرفة على أنها معادلة تقول بأنَّ المعرفة تساوي الاعتقاد مضروباً رياضياً بالصدق (أي مطابقة الواقع) المضروب رياضياً بالبرهنة على صدق الاعتقاد. ومن ثمَّ على ضوء هذه المعادلة تجري دراسة فضائل هذا الطرح العلمي المعادلاتي لنظرية أفلاطون. فهو طرح علمي لأنه مُعبَّر عنه من خلال معادلة رياضية من الممكن اختبارها رغم أنه طرح فلسفي في آن.

 تهدف الفلسفالوجيا إلى دراسة فضائل المعادلات الفلسفية والعلمية التي تبنيها. فمثلاً، بالنسبة إلى الفلسفالوجيا، نظرية أفلاطون في المعرفة هي معادلة قائلة بأنَّ المعرفة = الاعتقاد × صدق الاعتقاد × البرهنة على صدق الاعتقاد، وبذلك إذا ازداد الاعتقاد بمعتقد معيّن وازداد احتمال صدق هذا الاعتقاد وازدادت البراهين المقبولة على صدقه فحينئذٍ تزداد درجة المعرفة وإلا تناقصت. وبذلك تقديم الفلسفالوجيا لنظرية أفلاطون من خلال معادلة رياضية يتضمن أنَّ المعرفة مسألة درجات فمن الممكن أن تزداد أو تتناقص. وبهذا تنجح الفلسفالوجيا في التعبير عن أنَّ المعرفة مسألة درجات فتزداد أو تنقص. وهذا النجاح دليل على مشروعية الفلسفالوجيا ومنفعتها.

 

معادلة رياضية قابلة للاختبار

 بالإضافة إلى ذلك، بما أنَّ المعرفة = الاعتقاد × صدق الاعتقاد × البرهنة على صدق الاعتقاد، إذن نستنتج رياضياً بأنَّ الاعتقاد = المعرفة ÷ صدق الاعتقاد والبرهنة على صدقه، وصدق الاعتقاد = المعرفة ÷ الاعتقاد والبرهنة عليه، والبرهنة على صدق الاعتقاد = المعرفة ÷ الاعتقاد وصدقه. وبذلك ثمة أنواع متعدّدة ومختلفة من المعرفة ألا وهي : أولاً، معرفة مبنية على الاعتقاد وازدياد درجته (أي معرفة على أساس الاعتقاد الراسخ) وإن تناقص صدق الاعتقاد وتناقصت البراهين على صدقه، وثانياً معرفة متكوِّنة من ازدياد احتمالية صدق الاعتقاد وإن تناقص الاعتقاد والبرهنة عليه، وثالثاً معرفة متشكِّلة من تزايد البرهنة على صدق الاعتقاد وإن تناقص الاعتقاد واحتمالية صدقه. هكذا تنجح الفلسفالوجيا في التعبير عن تنوّع المعارف واختلافها حين تقدِّم نظرية أفلاطون السابقة على أنها معادلة رياضية فلسفية قابلة للاختبار.

 إن لم تكن المعرفة متنوّعة على النحو السابق فحينئذٍ المعادلة الرياضية الفلسفية المُعبِّرة عن نظرية أفلاطون هي معادلة كاذبة لأنها تتضمن التنوّع المعرفي السابق. من هنا، من الممكن تكذيب هذه المعادلة ما يجعلها معادلة قابلة للاختبار على ضوء الواقع (أي على ضوء وجود التنوّع المعرفي السابق أو عدم وجوده) ما يمكّنها من أن تكون معادلة علمية. على هذا النهج، تحوِّل الفلسفالوجيا النظريات الفلسفية إلى نظريات علمية قابلة للاختبار من خلال تقديم تلك النظريات الفلسفية على أنها معادلات رياضية. من جهة أخرى، المعارف متنوّعة على النحو السابق ما يعزِّز احتمالية صدق نظرية أفلاطون.

 مثلٌ على تنوّع المعارف هو نظرية الأوتار العلمية التي تشكِّل معرفة بالفعل رغم عدم إمكانية اختبارها اليوم. يعتقد العديد من العلماء بصدق نظرية الأوتار العلمية التي تؤكِّد على أنَّ الكون يتكوّن من أوتار وأنغامها، ولكن لم يتمكّن العلماء من اختبارها علمياً وبذلك تتناقص البراهين العلمية على صدقها. وهذا لم يمنع العديد من الفيزيائيين من الاعتقاد بصدقها. من هنا، المعرفة المتكوِّنة من مضامين نظرية الأوتار معرفة قائمة على الاعتقاد الراسخ بها (غير القابل للشك حالياً) وإن تناقصت آليات البرهنة على صدقها. وبذلك هذه المعرفة تشكِّل نوعاً معيّناً من المعارف يختلف عن المعرفة المتكوِّنة على أساس امتلاك براهين علمية قوية دالة على صدق الاعتقاد كالمعرفة المتكوِّنة من نظرية أينشتاين النسبية التي يمتلك العلماء أدلة علمية على صدقها لتمكّنهم من اختبارها علمياً. فنظرية النسبية لأينشتاين تمّ اختبارها والبرهنة على صدقها كاختبار أنَّ الزمن يتسارع أو يتباطأ على أساس سرعة الأجسام المادية فإن تسارع الجسم المادي (كأن تتسارع سرعة الطائرة) تباطأ الزمن بالنسبة إلى الجسم المتسارع. من هنا، تشكِّل نظرية أينشتاين معرفة متكوِّنة من البرهنة على صدق الاعتقاد بمضامينها فتشكِّل معرفة مختلفة عن معرفة نظرية الأوتار التي لم تُختبَر علمياً ولم يُبرهَن على صدقها. هكذا تختلف المعارف وتتنوّع.

 

الحضارة = إنتاج المعارف × إنتاج العدالة

 بالإضافة إلى ذلك، تطرح الفلسفالوجيا نظرياتها الفلسفية الخاصة وتقدِّمها على أنها قابلة للاختبار وعلمية بفضل صياغتها على أنها معادلات رياضية. فمثلاً، من منطلق الفلسفالوجيا، من الممكن تحليل الحضارة على أنها المعادلة الرياضية التالية: الحضارة = إنتاج المعارف × إنتاج العدالة. ولكن المعارف كامنة في الفلسفات والعلوم والآداب والفنون والأديان (فإن لم تصدق معتقداتها في عالَمنا الواقعي صدقت في أكوان ممكنة مختلفة ما يجعلها معارف بتلك الأكوان) بينما العدالة تتضمن بالضرورة الأخلاق والحريات والمساواة (فبزوال الحرية والمساواة والأخلاق يخسر الإنسان إنسانيته ما يشكِّل غياباً جوهرياً للعدالة). وبذلك تتضمن المعادلة السابقة أنَّ الحضارة هي المُنتِجة للفلسفات والعلوم والآداب والفنون والأديان والأخلاق والحريات والمساواة. ولذلك إن وُجِدت حضارة بلا عنصر من تلك العناصر (أي بلا فلسفات وعلوم وآداب وفنون وعدالة إلخ) فحينها معادلة الحضارة السابقة معادلة كاذبة. من هنا، من الممكن اختبار هذه المعادلة ما يجعلها علمية. ولكن لا حضارة بلا علوم وفلسفات وآداب وفنون وأديان وأخلاق وعدالة. لذا معادلة أنَّ الحضارة = إنتاج المعارف × إنتاج العدالة معادلة صادقة. هكذا الفلسفالوجيا منهج في صياغة النظريات الفلسفية القابلة للاختبار كصياغة أنَّ الحضارة = إنتاج المعارف × إنتاج العدالة.

 كما من فضائل الفلسفالوجيا قدرتها على التوحيد بين المذاهب الفلسفية المتصارعة فحلّ الإشكاليات والخلافات الفلسفية حيال تحليل المفاهيم وتفسير الظواهر وذلك بفضل اعتمادها على صياغة النظريات من خلال معادلات رياضية. مثل ذلك تحليل الكون وتفسيره على أنه مادي ومثالي في آن من خلال المعادلة الرياضية التالية : الكون = المادي × المثالي. فبما أنَّ الكون = المادي × المثالي، إذن من الطبيعي والمتوقع أن تنجح النظريات العلمية التي تحلِّل الكون وتفسِّره على أنه مادي كأن يكون متكوِّناً من ذرات مادية ومن الطبيعي والمتوقع أيضاً أن تنجح النظريات العلمية التي تحلِّل الكون وتفسِّره على أنه مثالي كأن يكون متكوِّناً من معلومات مجرّدة (كما يقول الفيزيائي جون ويلر) أو معادلات رياضية مجرّدة (كما يصرّ الفيزيائي ماكس تغمارك). هكذا تنجح معادلة الكون = المادي × المثالي في تفسير لماذا تنجح النظريات العلمية المادية والمثالية معاً رغم اختلافها. وبذلك تكتسب هذه المعادلة الفلسفالوجية فضيلة امتلاك قدرة تفسيرية ناجحة ما يدلّ على صدقها.

 

 بما أنَّ المعادلة تقول إنَّ الكون = المادي × المثالي، إذن هذه المعادلة تتضمن المذهبيْن المادي والمثالي معاً فيصدق بالنسبة إليها المذهب الفلسفي والعلمي المادي ويصدق أيضاً المذهب الفلسفي والعلمي المثالي. وبذلك توحِّد هذه المعادلة بين المذهبيْن المادي والمثالي فتحلّ الخلاف الفلسفي والعلمي بينهما. من هنا، تتفوّق الفلسفالوجيا في مقدرتها على التوحيد بين المذاهب المختلفة والمتنافسة فحلّ الخلافات الفلسفية والعلمية بفضل طرح نظرياتها من خلال معادلات رياضية تماماً كطرحها لمعادلة أنَّ الكون = المادي × المثالي. وهذه المعادلة الفلسفالوجية معادلة علمية لأنه من الممكن اختبارها. فبما أنَّ الكون = المادي × المثالي، إذن إن لم تنجح النظريات العلمية المادية ولم تنجح النظريات العلمية المثالية أيضاً فحينئذٍ معادلة الكون = المادي × المثالي معادلة كاذبة. وبذلك من الممكن اختبار هذه المعادلة ما يجعلها علمية. ولكن النظريات العلمية المادية والمثالية ناجحة معاً ولذلك هذه المعادلة صادقة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *