فستان العيد

Views: 599

لطيفة الحاج قديح

 

كلما هلّ هلال عيد الفطر، استيقظ فيًّ الحنين إلى الماضي،  واندلقت علي الذكريات غزيرة كبواكير المطر بعد صلاة الاستسقاء. وما أجملها من ذكريات إن قورنت بالسنين العجاف التي نعيشها اليوم تحت عباءة الفاسدين، الذين حرمونا لذة العيش..

كنت أصغر أخوتي، ولم أكن قد بلغت التاسعة من عمري بعد، نحيلة العود، خفيفة الوزن، ومع ذلك فقد كنت أصرّ على صيام رمضان، أسوة بأخوتي، ومحبّة بالخالق العظيم الذي يقول: “الصيام لي وأنا أُجزي به”، ولطالما زاغ بصري وانهدّ حيلي في أعصر  أيام شهر آب اللهاب، من شدّة الجوع والعطش، ولطالما صمدت أمام المغريات كي لا أقطع صيامي قبل أن يضرب مدفع الإفطار ..

 وأراد والدي مكافأتي، فاشترى لي قماشاً من المخمل الكرزي اللون، الحريري الجميل، وانكبّت والدتي على خياطته بيديها الماهرتين. وكانت فرحتي لا توصف وأنا أراها تُدخِلُ بالإبرة والخيط حبّات اللؤلؤ والخرز اللمّاع  لتزين بها فستاني.

 

وطالما  سألتها: “متى ينتهي العمل به؟”

فتجيب: “إن أردت أن تلبسيه يوم العيد، عليك القيام عني بأعمال البيت كي أتفرغ له…!”

وهكذا كنت استيقظ يومياً وقت السحور ، وبخفة الفراشة ومثابرة النحلة، انقضّ على أعمال البيت بعد صلاة الفجر مباشرة، وعندما أنتهي أرابط قرب والدتي ملبّية جميع أوامرها كي يتسنى لي تعليق ثوبي الجديد في خزانتي صبيحة يوم العيد..      

وما إن تصدح  مكبرات الصوت ب “الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.. ”   حتى أكون قد أنهيت ما طلبته مني والدتي، التي لا تلبث أن تناولني الفستان التحفة وتساعدني على  ارتدائه، معلّقة على كتفي محفظة صغيرة من نفس قماش الثوب وزينته، فانكبّ على يدها أقبّلها شاكرة ومعايدة، والفرحة تغمرني ولا تجد  لها مطرحاً كافياً من شدة سعتِها..   

وبعد أن أكمل زينتي، واستشير مرآتي أكثر من مرة، أسارع إلى معايدة من حولي: والدي  وأخوتي وجدي وجدتي…

وسرعان ما تنهال علي المعايدات السخية من  الليرات الورقية والعملة المعدنية النحاسية الصفراء، فيمتلىء” جزداني” ويصير بإمكاني مرافقة أترابي إلى “حرش العيد” كي نمضي هناك أجمل وأمتع الأوقات…  

ولا يلبث “أبو محمد الجزار”  أن يأتي لينجز عمله الذي اتفق بالأمس مع والدي على القيام به، فيهرع إلى الخروف المسكين المربوط في زاوية الحديقة، فيسوقه إلى مكان معدّ مسبقاً، فيقوم  بنحره على سنة الله ورسوله، ثم يعلّقه على غصن قوي من أغصان شجرة التوت العملاقة التي  تتوسّط حديقة منزلنا، ويروح يعمل فيه سلخاً وتقطيعا ..

وما هي إلا ساعة حتى تكون والدتي وأخوتي الكبار  قد أعدوا في الحديقة، طاولة الإفطار التي لا تلبث أن تستدعي إليها البطون الجائعة، من أفراد عائلتنا الكبيرة وبعض الجيران الذين يتحلّقون حولها فرحين بذلك اليوم المبارك..

سقى الله تلك الأيام الجميلة وأعادها علينا وعليكم وعلى جميع المؤمنين بالرخاء والأمن والآمان…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *