العميد أنور يحيى يوثّق إنجازات الشرطة القضائية

Views: 227

 سلمان زين الدين

   حين يكتب الوقائع المشاركون في صنعها أو الشاهدون عليها أو المنخرطون فيها لا بدّ أن تكتسب الكتابة مصداقية كبيرة. وهذا ما ينطبق على العميد أنور يحيى، الرئيس الأسبق للشرطة القضائية، في كتابه “الشرطة القضائية في لبنان / حقائق وإنجازات”، الصادر حديثًا عن الدار العربية للعلوم ناشرون، في أربعة أقسام وستمائة وأربعين صفحة، توثّق أعمال هذا الجهاز الأمني، منذ تأسيسه بصيغة البوليس العدلي في العام 1861 في بيروت يوم كانت ولاية عثمانية حتى إحالة العميد على التقاعد في العام 2010. وبذلك يغطي الكتاب قرنًا ونصف القرن، بين بداية العقد السادس من القرن التاسع عشر ونهاية العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، وهي مدّة طويلة تشمل الحكم العثماني والانتداب الفرنسي والاستقلال والحرب الأهلية  اللبنانية ومرحلة ما بعد الطائف، وتحفل بكمٍّ كبير من الوقائع والإنجازات، وتنطوي على العديد من الدروس والعبر، يعمد الكاتب إلى توثيقها واستخلاصها لعل الماضي يفيد المستقبل. والكتاب هو الأول من نوعه على هذا الصعيد.

   لم يكن أنور يحيى قد تجاوز الحادية عشرة من العمر في العام 1963 حين داهمت قوة من التحرّي، فجرًا، بلدة عرمون، في سيارة فولكسفاكن، لتطلب من والده المختار حينها مرافقتها للقبض على مطلوب في منزله، فأُعجِب الصبي بأداء القوة المداهمة وما تعكسه من هيبة وشكيمة، حتى إذا ما أزف العام 1971 يلتحق بالكلية الحربية بصفة تلميذ ضابط في قوى الأمن الداخلي ويتخرّج منها ملازمًا في 1 / 8 / 1974. وتكون مسيرة طويلة في خدمة الأمن طيلة أربعة عقود، يتقلّب فيها في مواقع شتى وصولاً إلى رأس الهرم في الشرطة القضائية. ويكون خلالها شاهدًا أو مشاركًا أو منخرطًا في كثير من الوقائع والإنجازات. وتأتي مشاركته في عضوية لجنة كتابة تاريخ قوى الأمن الداخلي التي تمخّضت عن كتاب “صفحات من تاريخ قوى الأمن الداخلي” في العام 2007، ورئاسته الشرطة القضائية بين العامين 2005 و2010، لتتيحا له الاطلاع على الكثير من الوثائق والتوقّف عند الكثير من الأسرار والمشاركة في صنع الكثير من الوقائع، وتدوين ما اطّلع عليه وتوقّف عند وشارك في صنعه، ما شكّل مادة الكتاب الذي نحن بصدده. ولعل مزاولة العميد عادة الكتابة اليومية لكلّ ما يحدث معه جعلت هذه المادّة على قدر كبير من الموثوقية، لا سيّما أنّها تسمّي الأشياء المتعلّقة بالواقعة بأسمائها، وتحدد مكان وزمان حصولها والتفاصيل الدقيقة العائدة لها.

  “الشرطة القضائية في لبنان” كتاب توثيقي أكثر منه كتابًا تاريخيًّا، وهو إلى علم التاريخ أقرب منه إلى فلسفته، ذلك أنّ الكاتب غالبًا ما يكتفي بتدوين الوقائع بدقّة علمية وأمانة مشهودة، ممّا يدخل في علم التاريخ، وقلّما ينخرط في تحليلها وتفسيرها ممّا يتّصل بفلسفة التاريخ. وبهذا المعنى، يشكّل الكتاب مادّة أوّلية للبحث التاريخي بما يشتمل عليه من حقائق ووقائع وأحداث ومعلومات، مستقاة من داخل الجهاز ووثائقه وأرشيفه. على أن عدم انخراط الكاتب في التحليل لم يحل دون قيامه بإبداء الرأي والتعليق على الواقعة المروية مستخلصًا العبرة أو موجّهًا النقد أو محمّلاً المسؤولية. فهو، على سبيل المثال لا الحصر، وفي معرض تعليقه على واقعة مطاردة الشرطة القضائية مطلوبين في بريتال ومصرع أحدهم في آب 2007، يقول: “المهمّ سلامة عناصر التحرّي وعدم نشر العداوة مع المجتمع الأهلي والفعاليات في القرى وتنفيذ القانون وفقًا لمهامّ الشرطة القضائية”، قارنًا بين تنفيذ القانون وأنسنته (ص 454). وهو، في معرض تعليقه على ظاهرة التعاقد الوظيفي في قوى الأمن الداخلي بذريعة التخفيف من أعباء الموازنة، في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، يقول: “هي ظاهرة فاشلة باعتبار أن الخدمة الأمنية هي تخصّص وتدريب وشهامة ونزاهة أكثر منها إتقان الرماية بالسلاح والقدرات البدنية”، رابطًا بين الوظيفة والأخلاق (ص 492). وهو، في معرض تعليقه على معاينة مسرح الجريمة في اغتيال الصحافي سمير قصير، يقول: “كان على المحقّق العدلي تنسيق عمل الأجهزة المكلّفة بالتحقيق وجمع المعلومات بشكل أفضل للوصول إلى نتائج صائبة أفضل”، ملمّحًا إلى تقصير قضائي في هذا المجال (ص 332).

 

  في الأقسام الثلاثة الأخيرة، يعتمد العميد أنور في توزيع الوقائع على صفحات الكتاب معيارين اثنين؛ معيار القائد الذي حصلت في عهده، ومعيار التسلسل التاريخي لحصولها، فيرصد  تعاقب عشرة ضبّاط على قيادة الشرطة القضائية، بين العامين 1959 و2005، بدءًا  من نسيب أبو شقرا ورؤوف عبد الصمد وفؤاد الفر، مرورًا بمحمود طي أبو ضرغم وعصام أبو زكي وسليم سليم وسليم ملحمة، وصولاً إلى سمير صبح وفؤاد أبو خزام وأنور يحيى. ويذكر تحت اسم كلٍّ منهم الوقائع والإنجازات التي حصلت في عهده بالتسلسل التاريخي. على أنه يفرد لنفسه نصف الكتاب، ليس تمييزًا لها عن الآخرين، بل لأنّ ما يعاينه المرء بنفسه ويعيشه متوافر أكثر ممّا يطّلع عليه لدى الآخرين والذي قد يكون كثيراً بدوره، من جهة، ولأنّ العميد يكتب سيرته الذاتية وليس سِيَر الآخرين، من جهة ثانية. وعليه، يجمع الكتاب بين التوثيق التاريخي والسيرة الذاتية، ويتفاعل فيه العام والخاص، ويختلط فيه الأمني بالسياسي والاجتماعي والوطني، ويشكّل شهادة على قرن ونصف القرن من العمل الأمني في لبنان، في مراحل تاريخية مختلفة، وفي ظل أوضاعٍ سياسية متقلّبة.

  وإذا كان التوثيق التاريخي للأحداث يخلو من الجانب الذاتي عادة، فإنه حين يقترن بالسيرة الذاتية لا بدّ له أن يبرز هذا الجانب. وعليه، فإن القسم الرابع من الكتاب الذي يتمظهر فيه هذا الاقتران، يُظهر الكثير من صفات صاحب السيرة التي نستنتجها من سياق الكلام، فالعميد أنور يعرض الوقائع التي كان شاهدًا عليها أو منخرطًا فيها بهدوئه المعهود دون تبجّح أو ادّعاء، وقد يمارس النقد الذاتي في بعضها، ولا يتورّع عن ذكر وقائع تتعلّق بضباط وعناصر مرتكبين من الجهاز نفسه، دون السقوط في شبهة التشهير والقدح والذم. ولعلّ هذا ما حدا بوزير الداخلية السابق المحامي زياد بارود إلى القول في تقديم الكتاب إن العميد أنور “رجل عصامي صلب، في ملامحه مزيج من الذكاء الحاد ونقاء أهل الجبل” (ص 11). ولأنّه لا يعنيني في هذه العجالة تسقّط صفات الرجل الشخصية في الكتاب خشية السقوط في شبهة المديح، فحسبي أن أذكر صفتين اثنتين له ترتبطان بكيفية ممارسته الوظيفة العامة؛ الأولى هي تغليبه تنفيذ القانون على العلاقة الشخصية، والثانية هي تغليبه على الولاء السياسي.

   في هذا السياق، لم تحل صداقته للإعلامية غادة عيد من إعطاء الأمر للقطعة المختصة بتوقيفها في 31 تموز 2009 تنفيذًا لمذكّرة توقيف صادرة عن قاضي التحقيق في جبل لبنان في حينه، غير أنّ استرداد المذكّرة من القاضي في اليوم التالي حالت دون المضي في عملية التنفيذ. ويعلّق العميد على هذه الواقعة بالقول: ” الصداقة لا تمنع تنفيذ أحكام مذكّرة توقيف غيابية بحق ايٍّ كان”، وهو ما تفهّمته صاحبة العلاقة (ص 554). وفي سياق مشابه، لم تحل العلاقة المميّزة التي تربط أنور يحيى بالوزير وليد جنبلاط دون قيامه بتوقيف عضوٍ في وفد يتقدّمه النائب السابق محمد جعفر لوجود بلاغات بحث وتحرٍّ في حقّه، جاءه حاملاً بطاقة توصية من جنبلاط، يطلب خدمة لبعض أقاربه، الأمر الذي تفهّمه جنبلاط، الحريص بدوره على تطبيق القانون، فاتصل به قائلاً: “صار بدنا نسأل عن الشخص اللي بنرسلك ياه حتى ما توقفو” (ص 390).

  “الشرطة القضائية في لبنان” إنجاز جديد يُضاف إلى إنجازات صاحبه الكثيرة وكتاب مرجِعٌ يستحق القراءة، والمؤلّف العميد أنور يحيى “يستحق كلّ التحية وكلّ الدعاء بدوام النشاط”، على حد تعبير الوزير بارود.

***

* النهار، في 27 / 4 / 2022       

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *