الملكان الأندلسيّ المُعتمد ابن عبّاد وَالمكسيكيّ نيزاولكويوتل صادفهما الحظّ العاثر وذاقا مَضَضَ المَنفىَ والاغترَاب

Views: 25

د. محمّد م. خطّابي *

 

قبل تفشّي الجائحة الجارحة، وانتشار متحوّراتها اللعينة، قرأتُ خبراً في لصحافة الإسبانية مفاده أنّ العشرات من الشّعراء، والكتّاب، والفنّانين، والموسيقيّين، والمثقفين، والمُبدعين إلإشبيليّين انتقلوا إلى مدينة “أغمات” الواقعة بالقرب من مدينة مراكش بالمغرب لإحياء ذكرى تكريم الشاعر الأندلسي الذائع الصّيت المنكود الطالع المعتمد بن عبّاد حيث يوجد قبره، هذا الشاعر الرّقيق كان ذات يوم من أيام الله الخوالي ملكاً هُماماً على مدينتهم الفيحاء الجميلة منذ عشرة قرون خلت، هذا الخبر جعل فكري يجنح بي بعيداً عندما كنت أعمل وأقيم في مدينة مكسيكو سيتي العملاقة في التسعينيّات من القرن الفارط، حيث شاركتُ في تظاهرة ثقافية مماثلة كان قد أقامها هذه المرّة ثلّة من الشّعراء المكسيكييّن لشاعرهم الأزتيكي نيزاولكويوتل الذي كان هو الآخر ذاتَ يومٍ من أيام الله الخوالي ملكاً شهماً على مدينتهم الجميلة – التي فتنت الإسبان من الغزاة عندما رأوها أوّلَ مرّة- وهي حاضرة “مكسيكو” التي كانت تُعرف في ذلك الأوان باسم “تينوشتتلان” قبل أن يطأها المستكشف الإسباني إيرنانْ كورتيس وصحبُه بعشرين سنة، هذا الشاعر- الملك مات هو الآخر مثل المعتمد بن عبّاد في أسره بعيداً عن مدينته، وموطنه، ومُلكه.

المعتمد بن عبّاد الإشبيلي الأندلسي، ونِيزَاوَلْكُويُوتَل المكسيكي الأزتيكي، على الرّغم من أنّ القدّر قد فرّق بينهما زماناً ومكاناً، فقد هيّأ لهما القدرالحظ العاثر، وسوءء الطّالع نفسَ المصيرالمحتوم، فقد جمعهما الملكُ، والشّعرُ، وذاق الإثنان معاً قساوةَ الغربة، ومَضَضَ المَنفي، وشظفَ العيش بعد نعيم باذخ، وأخيراً تجرّعا هما الإثنان كذلك في آخر المَطاف مرارة كأس الموت الزّؤام. عاش الاوّل في القرن الحادي عشر الميلادي بالاندلس، وعاش الثاني في القرن الخامس عش رالميلادي بالمكسيك.

 

ملكان شاعران!

كان الشاعر نيزاولكويوتل من أعظم ملوك السكّان المكسيكيّين الأصلييّن، ولقد أدركت حضارة شيشيملكا في عهده ذروة الإشعاع ثقافةً، وعلماً، وعمراناً، صادفته في حياته العديد من الأحداث والمفارقات الغريبة، ففى سنة وفاته 1472 كان البحّار المغامر كريستوبال كولومبوس يتنقل بين ربوع الأراضي البرتغالية، ويتأهّب لبدء رحلاته البحرية الأستكشافية الكبرى، وبعد عشرين سنة من هذا التاريخ يتمّ “إكتشاف” أمريكا، حيث غزا إيرنان كورتيس حاضرة الأزتيك، وغرةّ مدنهم الكبرى التي كانت تُعرف في ذلك الإبان باسم ” تينوشتيتلان”(مكسيكو سيتي) اليوم. ومن غرائب الصّدف أنّ مجسّم هذا الملك الشاعر الذي رُفع عام 1992، بمناسبة الإحتفالات بالذكرى الخمسمائة لإكتشاف العالم الجديد في مدينة “كاسيريس” الإسبانية هي قريبة جدّا من مدينة “مِيدييّن” الإسبانية كذلك، وهو المكان الذي ولد فيه مكتشف المكسيك إيرنان كورتيس. ومثلما طلب المعتمد بن عباد الاندلسي الإستغاثة من المرابطين بالمغرب بعد إشتداد حركة الإسترداد الإسبانية بقيادة ألفونسو السادس (المعروف في الرّوايات العربية باسم الأذفونش) على إثرسقوط أولى معاقل الإسلام في الأندلس في أيديهم وهي مدينة طليطلة عام 1085 م، كذلك طلب نيزاولكويوتل النجدة من أعمامه الأزتيك الذين كانوا قد أقاموا إمبراطورية مترامية الأطراف في مدّة وجيزة من الزّمن لم تتجاوز مائتي عام، إلاّ أنّهم قلبوا له ظهرَ المُجن فانتهت مساعدتهم له ببسط نفوذهم وسيطرتهم على تسكوكو(إشبيلية بالنسبة للمعتمد) قاعدة مُلكه وعلى أرباضها مثلما كان عليه الشأن بالنسبة للمرابطين في بلاد الأندلس.!

ومثلما كان عليه الحال مع المعتمد بن عبّاد في الأندلس، قام الملك الأزتيكي كذلك خلال حكمه بأعمال عمرانية أسهمت في إزدهار عاصمة الأزتيك تينوشتيتلان، فهو الذي ساق إليها الماءَ بواسطة قناة كبيرة تنزل أو تنحدر كأتيٍّ منهمر من أعالي الجبال، فضلاً عن حديقة الجُندب التي شيّدها على أحسن طراز، وهي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا تتوسّط قلبَ مدينة مكسيكوسيتي التي تُعتبر من أجمل معالمها في الوقت الحاضر، حيث قام بغرس العديد من الأشجارالكبيرة الباسقة، وأقام في وسط الحديقة بِرْكة واسعة تذكّرنا ببِرْكة المتوكّل التي خلّدها الشاعر أبو عبادة البحتري، بالإضافة إلى بنائه لعدّة قصور، وبناءات أخرى أشهرها أقواس تينوشتتلان التي ما زالت قائمة حتى اليوم بعلوّها الشامخ.

 

وقد صادف هذا الإزدهار العمراني والثقافي (مثلما هو عليه الحال بالنسبة لملوك الطوائف أيام المعتمد) تقهقر عسكري ممّا سهّل مأمورية إيرنان كورتيس، حيث جعل من غزوه للمكسيك لقمة سائغة، وعملية سهلة بقلّةٍ قليلةٍ من الجُند، وقد ظلّ كورتيس وصحبُه مشدوهين عندما دخلوا مدينة تنوشتتلان التي كانت تخترقها الجداول، والأنهار، والسواقي، والمياه، وتحيط بها الأشجار الباسقة، والظلال الوارفة من كل جانب، والتي كانت تبدو للإسبان عندما دخلوها أولَ مرّةٍ مثل المدن التي تتراءى للنّائمِ الحالمِ في أحلامه.

وفى القرن الحادي عشرعندما بسط المرابطون نفوذَهم على شبه الجزيرة الإيبيرية، عرفت الأندلس إزدهاراً ثقافياً وحضارياً بالقياس إلى التقهقر العسكري لدى ملوك الطوائف، فضلاً عن أعمال البناء والتشييد التي تمّت في عهد المعتمد ووالده المعتضد، حيث بُنيت العديد من القصور التي ذكرها المعتمد متالّماً متحسّراً عليها في أشعاره بمنفاه.

ويلاحظ أيضاً إعجاب الرّجليْن بالجمال، والحبّ، والحياة الهانئة، والعيش الرغيد، وبالطبيعة والتغنّي بها، كل ذلك أدّى بهما إلى نتيجة حتمية وثيقة الصّلة بهذه المعاني الجميلة جميعها وهو الشّعر.

 

 سيرتان مُتشابهتان

والغريب أنّ الرجليْن على الرّغم من بُعد المكان ونأي الزّمان بينهما جمعتهما سيرتان متشابهتان ف“نيزاوالكويوتل” يلتقي كذلك مع المعتمد في كون المليْن تولّيا مقاليدَ الحُكم وهما في التاسعة والعشرين من عمرهما، ولقد تأثر نيزاوالكويوتل بموت والده “إكتليشوشيل” عام 1418 بعد خصام معه دام سنتين، حيث عاتبه أبوه على نوعية الحياة التي عاشها في شبابه، والتي إتّسمت بالبذخ، والإستمتاع بالحياة، مثلما حدث للمعتمد بن عبّاد كذلك، حيث غضب عليه والدُه المعتضد لإنغماسه في الملذّات وحياة الترف، والمجون، وتهاونه في حصار حصن مالقة، فكانت عواقب هذا الإهمال الشديد الشؤم بحيث أمكن لباديس أن يستردّ ولايته على المدينة، في الوقت الذي كان فيه المعتمد يعكف على المتعة ممّا إضطرّه للفرار إلى مدينة رُنْدَة بعد أن أضاع ولايته وبدّد جيشه. ومثلما إستعطف نيزاوالكويوتل أباه بعد القطيعة التي كانت بينهما بأشعار بليغة ومؤثّرة حتى تحوّلت دموعُه إلى أوراق شجرة عظيمة حسب الأسطورة، و حزن عليه حزناً شديداً عندما مات، حيث تمّ تتويجه ملكاً على مدينة ” تسكوكو” وهي من أهمّ الحواضر المكسيكية في ذلك الوقت، كذلك فعل المعتمد عندما إستعطف أباه، بعد غضبه عليه، حيث خلّف لنا في هذا الجانب هو الآخر أشعاراً بليغةً كان يبعث بها إلى أبيه يلتمس منه فيها عفوَه ورضاه، ويستميل قلبَه، فيقول :

سكّن فؤادَك لا تذهب بكَ الفِكرُ / ماذا يعيد عليك البث والحذرُ

وازجر جفونك لا ترضى البكاء له / واصبر فقد كنت عند الخطب تصطبرُ

كمْ زفرةٍ في شغافِ القلب صاعدةٌ / وعَبرة من شؤون الدّهر تنحدرُ

فوّضْ إلى الله فيما أنتَ خالفهُ / وثق دائماً بمعتضدٍ الله يغتفرُ

واصبرْ فإنّكَ من قومٍ ذويِ جلدٍ / إذا أصابتهم مكروهةٌ صبرُوا

 

في منفى أغمات و منفى إكستليشوشيل

هذا الملك الشاعر الأزتيكي العاشق للجمال، عرف الأسرَ كذلك في آخر عهده، حيث أُسِر في مكان يُسمّى إكستليشوشيل عام 1418 بعد أن طلب النّجدة من بعض زعماء الأزتيك وتحالف معهم في البداية ثم سرعان ماتألبوا عليه، وقد عانى هذا الشاعر من الأسر، وهو يلتقي هنا في نفس المصير الذي خبّأه له القدَر مع المعتمد بن عبّاد الذي مات منفياً في أغمات بالقرب من مدينة مراكش بعد أن أخذه أمير المرابطين يوسف ابن تاشفين أسيراً مُقيّداً إليها حين تهاوت حصونُ المعتمد ومعاقلُه، وسقطت قاعدةُ ملكه، وانهار بناءُ دولته العبّادية أقوى دول ملوك الطوائف، وأوسعها رقعةً وأبعدها شهرةً، وقد وصف لنا الشّاعر الاندلسي أبو بكر ابن اللبّانة خروجَه من إشبيلية في قصيدةٍ موثّرة منها:

تبكي السّماءُ بمزنٍ رائحٍ غادِي / على البهاليلِ من أبناءِ عبّادِ

على الجِبالِ التي هدّتْ قواعدُها / وكانت الأرض منها ذاتَ أوتادِ

يا ضيف أقفرَ بيتُ المَكرمات فخذْ / في ضمِّ رحلك واجمعْ فضلةَ الزّادِ

ويا مُؤمّل واديهم ليسكنَه / خفَّ القطينُ وجفَّ الزرعُ والوادِي

وختم المورّخ ” دوزي” كلامَه عن المعتمد في كتابه ” إسبانيا المسلمة” فقال:” لقد ظلّ ابن عبّاد ذاكرة أثيرة في النفوس باعتباره آخرَ فرعٍ من دوحة أسرة الملوك الشّعراء الذين حكموا الأندلس، ولقد بكاه الناس، ورثاه أكثر ممّا رثوا غيرَه، وكان لحزنهم عليه رقّة الأسى التي تخالج النفوس، وهي تشهد آخر إزدهار الورود، وختام الخريف المولّي، وآخر شعاع من أشعّة الشمس الغاربة”.

 

وعندما وقع نيزاوالكويوتل في الأسر وسقط ملكُه، وضاع مجدُه، وأصابه من الغمُّ والكربُ والأسىَ ما أصاب الملكَ الشاعر المعتمد بن عبّاد، قال الملك الشّاعر الأزتيكي كذلك في غياهب المنفى حزيناً، وحيداً، مُنكسراً، مُتحسّراً بمكان أسره إكستليشوشيل بعيداً عن موطن ملكه، قال :

هذا ما حدث بنا…

هذا هو الحظّ العاثر الحزين…

الذي خبّأه القدر لنا…

هذا هو الكرْب الذي أمسينا فيه …

ففى الطرقات تضطجع العظام المكسّرة…

والشّعور منفوشة مبعثرة …

والدّور لا أسقف لها…

وقد إعتلى جدرانَها الإحمرار

 

مصير تراجيدي حزين

ومثلما حدث للشّاعر الأندلسي حيث حرّكت مأساتُه غيرَ قليلٍ من القلوب الرقيقة من شعراء، وقرّاء، وباحثين، فكذلك إستهوت مأساة الشاعر الملك الأزتيكي نيزاولكويوتل غير قليل من الباحثين والمؤرّخين، وظلت أشعارُه الرقيقة تجتذبُ أنظارَ الأدباء والدارسين، حيث كان هو الآخر آخرَ شعاعٍ من أشعّة الشمس الغاربة، في حضارة وثقافة شيشميكا الأزتيكية شعراً، وفكراً، وفلسفة، وأدباً. ومثلما بكى نيزاوالكويوتل في أسره قصورَه في تينوشتتلان، بكى المعتمدبن عبّاد كذلك في أغمات قصورَه في إشبيلية مثل قصر “المُبارك”، وقصر ” الزّاهي”، و”الثريّا”، و”الوحيد” وهو يقول في ذلك :

بكى المبارَكُ في أثر ابن عبّاد / بكى على اثر غزلان وآسادِ

بكتِ ثريّا ولا غمّت كواكبُها / بمثل نوء الثريّا الرائحِ الغادِي

بكى الوحيدُ، بكى الزّاهي وقبّتُه / والنهرُ والتّاجُ كلّ ذلّه بادِي

ماءُ السّماءعلى أبنائه دررٌ / يا لجّةَ البّحرِ دومي ذات أزبادِ

والوصف التالي من كتاب “تاريخ الحضارات السّابقة للوجود الكولومبي” لأرلبرتُو برسوت” الذي يصف فيه قصراً من قصور نيزالكويوتل ويكاد يكون وصفاً دقيقاً كذلك لأحد قصور المعتمد بن عبّاد في الأندلس، يقول: ” قصر نيزالكويوتل له عشرون باباً خارجية، وما لا يُحصى من القاعات التي يصل إتّساع كلِّ واحدةٍ منها إلى خمسين متراً، وما ينيف على مئة غرفة تبلغ مساحة كلٌّ منها ستمئة قدم مربّع، بحمّاماته، وجدرانه المصنوعة من المَرمر الذي يبدو وكأنّه مرايا، تتوسّطه أعمدة من الأَرز الأبيض المثقّف.ومنصّات مطليّة بماء الذهب والفضّة، وتنتشر الزخارفُ في كلِّ ركنٍ من أركان القصر مرصّعة بالزمرّد، والياقوت، والزبرجد، كان له بلاط يجتمع فيه مع أقربائه، ومستشاريه، وندمائه، وشعرائه وما يقرب من 150 من محظياته وجواريه “.

ويشير النحّات المكسيكي “أومبرتو بيثارّو” أنّ المُجسّم الضخم الذي أقيم في مدينة “كاسيريس: الإسبانية لنيزاوالكيوتل هو نسخة طبق الأصل من مجسّم الملك الأزتيكي الموجود حالياً في مدينة تِسكوكو التي كان ملكاً عليها.وتعكس صورة المُجسّم شخصية الملك الشّاعر الذي نال إعجاب وتقدير المستكشفين الإسبان خاصّة عندما إطّلعوا على أعماله الشعرية، ومنجزاته العمرانية الكبرى. (Valium)

 

نماذج من أشعارهما

كان نيزاولكويوتل عاشقاً للحبّ، والحياة، والجمال، والطبيعة والزّهور، وقد تغنّى بهذه المعاني جميعِها، يقول في مقطوعة شعرية له جميلة :

وأنتَ يا صديقي الجَسور….

إستمتعْ بسِحرِ الزّهور….

واهجر المخاوفَ والأحزان….

وانسَ الهمومَ والأشجان

وقد إستشهد الرئيس المكسيكي السّابق ” ساليناس دي غورتاري” خلال مشاركته في مؤتمر الأرض العالمي للمحافظة على الطبيعة والبيئة أواسط التسعينيات من القرن الفارط في ريّو دي جانيرو بالبرازيل، حيث ذكّر بتنبيه الملك الشّاعر نيزاوالكويوتل للأجيال القادمة بضرورة الحفاظ على الطبيعة، و صوْن نفائسها، ورموزها الجميلة التي تجلّت في إنبثاق الزّهور وتفتّحها وفى نداها وشذاها، وعِطرها الفوّاح، حيث قال في ذلك التاريخ المبكّر(القرن الخامس عشر.م) في معنىً جديد جميل ومبتكر يستحقّ الإعجابَ والتأمّل:

زهور هذه الأرض..

هي ليست ملكاً لنا..

لقد أعارونا إيّاها..

فلنصُنْها ونحافظ عليها..

لنستمتع بها نحن..

ولتستمتع بها الأجيالُ التي ستأتي بعدنا * *

 

وكمثال على شعر المعتمد بن عباّد الذي ورد فيه ذكر الزّهوروالطبيعة أوردُ القصّة الطريفة التي رواها لنا الشاعر الأندلسي أبو بكر المعروف بابن اللبّانة التي أوردها الدكتور على أدهم في كتابه عن المعتمد حيث قال:” أنّ رجلاً من أهل إشبيلية كان يحفظ شعر المعتمد ثمّ خرج منها لنيّة منه إلى أقصى حيّ في العرب، فآوى إلى خيمةٍ من خيمهم ولاذ بذمّة راعٍ من رعاتهم، فلمّا توسّط القمر في بعض الليالي، وهجع السّامر، وحاول النّوم لم يغمض له جفن، واعتراه أرق فخرج من الخيمة يستنشق النّسيمَ العليل، ويجيل الطرفَ في القمر، وهو يتخطر في السّماء بين زهر النجوم، وعاجت به الذّكريات على الدّولة العبّادية وعهودها الخاليات، وأيامها النضرات، وأخذ يتغنّى بأبيات المعتمد التي يقول فيها :

ولقد شربتُ الرّاحَ يسطعُ نورُها / والليل قد مدّ الظلام رداءَ

حتّى تبدّى البدرُ في جوزائه / ملكا تناهى بهجة وبهاءَ

لمّا أراد تنزّها في غربه / جعل المظلة فوقه الجوزاءَ

وتناهضت زهرُ النجوم يحفّه / لألاؤها فاستكمل اللألاءَ

وترى الكواكبَ كالمواكب حوله / رفعت ثريّاها عليه لواءَ

وحكيته في الأرض بين مواكب / وكواعب جمعت سنا وسناءَ

إن نشرت تلك الدروعُ حنادسا / ملأت لنا هذي الكؤوس ضياءَ

ثم تلا القصيدة التي إعتذر المعتمد فيها لوالده المعتضد عن تقصيره في الهجوم على مالقة، ولم يكد يتمّ تلاوتها حتى رفع رواق الخيمة القريبة منه، وكان قد آوى إليها رجل وسيم ضخم تدلّ سمات فضله أنه سيّد أهله، وخاطب الإشبيلي قائلاً: يا حضري حيّاك الله، لمن هذا الكلام الذي إعذوذبَ موردُه، واخضوضلَ منبتُه، وتحلّت قلادتُه، بشقشقة الجزالة..؟ فقال الإشبيلي : هذا الشّعر لملكٍ من ملوك الأندلس يُعرف بإبن عبّاد. فقال الرّجل :أظن أنّ هذا الملك لم يكن له من المُلك إلاّ حظ يسير، ونصيب حقير، فمثل هذا الشعر لا يقوله من يشغل بشئ دونه !.فأجابه الإشبيلي : لقد كان ملكاً عظيماً، جليلَ الشأن، فتعجّب الرّجلُ من ذلك ثم قال وممّن المَلك إن كنت تعلم..؟ فأجاب الإشبيلي : هو في الصّميم من لخم، فصرخ الرجلُ صرخةً وقال:هلمُّوا هلمُّوا، فتبادر القومُ إليه ينثالون عليه فقال: معشرَ قومي إنه لفخر طالكم، ولشرف تلاحق بكم، يا حضري أنشدْ كلمةَ ابن عمّنا، فأنشدهم الإشبيلي القصيدتين، وعرّفهم بما عرّفه الرجلَ من نسبِ المعتمد، فخامرتهم السرّاء، ودخلتهم العزّة، وركبُوا من طربهم متونَ الخيلِ، وجعلوا يتلاعبون عليها باقي الليل.

وزاره صاحب (الإحاطة في أخبار غرناطة) الشاعر الاديب لسان الدين بن الخطيب بعد وفاة المعتمد بثلاثة قرون، فقال : “وقفتُ على قبر المعتمد بن عبّاد وهو بمقبرة مدينة أغمات في نُشز مِن الأرض، وقد حفَّت به سدرة، وإلى جانبه قبر اعتماد، وعليهما هيئة التغرّب ومُعاناة الخمول من بعد المُلك فأنشدتُ في الحال:

قد زرتُ قبرك عن طوعٍ بأغمات … رأيتُ ذلك مِن أولى المهمّاتِ

لم لا أزوركَ يا أندى الملوك يداً … ويا سراجَ الليالي المدلهمّاتِ

وأنت مَن لو تخطَّى الدّهرُ مصرعه … إلى حياتي لجادَت فيه أبياتي

أنافَ قبرك في هضبٍ يميزه … فتنتحيه حفيات التحيات

كُرّمت حياً وميتاً واشتُهرت علاً … فأنت سلطان أحياءٍ وأموات.

***

*كاتب، وباحث من المغرب، عضو الأكاديميةالإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.

** أشعارالملك والشّاعر المكسيكي نِيزَاوَلكيُوتَل المدرجة من ترجمة صاحب المقال عن اللغة الإسبانية.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *