صديقي نهاد… مارادونا المكتبة

Views: 388

زياد كاج

   تعرفت على صديقي وزميلي نهاد حين قررت إدارة الجامعة الأميركية في بيروت اعتماد سياسة الدمج، فتم نقلي مع عدد من الزملاء والزميلات من المكتبة الطبية الى مكتبة نعمة يافت الرئيسية في الجامعة ونحن مسكونون بشيء من الخوف ورهبة التغيير الذي لا نستهويه. بدأت عملي الجديد-القديم مشّغلاً كل ماكينات عقلي كي استوعب أسرار ومفاتيح العمل الجديد كي أثبت مقدرتي وسط بيئة أكثر تنافسية، خاصة أن أخبارًا قد سبقتنا الى المكتبة تدّعي بأننا كنا “تنابل السلطان” في المكتبة الطبيّة!

   بطبعي أنا حذر جداً في شبك الصداقات  خاصة أنني كنت قد تجاوزت مرحلة منتصف الأربعينات. رحت أراقب الأجواء والناس من حولي وتركت الأمور لعامل الزمن ولطبيعة الناس عندنا التي تخف إدانتها أو اهتمامها بكل وافد جديد. سكنني الحنين الى عائلتنا الصغيرة في المكتبة الطبية وسط عدد أكبر من الموظفين متحابين في الظاهر متخاصمين في الخفاء. من حسن حظي أنني رياضي وأعشق البحر والسباحة .

في  مسبح الجامعة الذي كنت أقصده بشكل شبه يومي بعد الدوام الصيفي، تجمعت حولي شلة من الزملاء والزميلات  وكان من ضمنهم الصديق نهاد أزرافيل. ملفت كان مشهد نهاد مع ابنتيه، بيسان وديالى الصغيرتين، وهو يحاول تعليمهما السباحة في البركة الصخرية حيث تعلم معظم أبناء وبنات الموظفين والموظفات.  نهاد.. كان يحب الاستلقاء في الشمس لاكتساب السمرة فيما كانت ابنتاه تصران عليه للبقاء معهما في الماء كل الوقت. لا يرفض لهن طلبًا؛ يطلب لهن الغداء من خارج المسبح قبل أن يأكل هو.  كان يفعل ذلك بكل محبة وتضحية كأب محب متفان ولو على حساب راحته. يبقى ضاحكاً وبشوشاً محدثاً كل من حوله رغم انشغاله بحاجات البنتين. هو إجتماعي بالفطرة.

   للحق أقول إنني عقدت أواصر الصداقة مع صديقي نهاد في بحر مسبح الجامعة وكان الحديث والتنكيت يمتد ونحن نسبح في المياه العميقة حتى تحسنت طريقة سباحتي مع الوقت. صداقة بدأت ونمت في مياه البحر ونحن نتأمل حرم الجامعة الأميركية الأخضر فوقنا جنوباً.

   بطاقة تعريف صديقي نهاد إزرافيل:

هو من مواليد قرية شوفية وادعة أسمها “بشتفين”،  وهي قريبة من منطقة جسر القاضي. لطالما مازحته أنني أنسى كل الوقت أسمي عائلته وقريته. جده تزوج في الأرجنتين من إمرأة أرجنتينية وعاد الى قريته حيث أنجب اولادًا وبناتًا. من الأرجنتين أتى شراب المتة الصحي. يشربه كثر، خاصة بنو معروف، في لبنان وسوريا وغيرها. نهاد في دمه ثلاثة: عقيدة الزعيم أنطون سعادة، حبه للأرجنتين ومشروب المتة. حين يسأله أحدهم عن مذهبه يضيق صدره ويأتي جوابه: أنا سوري قومي اجتماعي بحزم. فهو الابن الشرعي للحزب: نزل الى رأس بيروت مراهقاً وانخرط في صفوفه عن سابق إصرار وتصميم. تاريخ نضاله وخبرته في حزب سعادة طويل. صال وجال في جبهات عديدة ووصل الى الصحراء الليبية!

بفضل صديقي نهاد تعرفت أكثر على أجواء القوميين الاجتماعيين عن كثب. زرت برفقته ضهوير الشوير الحبيبة وتعرفت على منطقة العرزال كما قصدنا سوياً قرية “عين وزين” حيث منزل-متحف الشهيدين   نضال وخلدون حسنية وتعرفت على شقيقتهما الحارثة للبيت المهيب العابق بالشهادة التي لم تكن موصولة بالسماء والغيبيات في زمن كان مختلفاً. حتى أنني تعلمت التحية السورية على أصولها. أحببت أبناء الحياة وأبناء سعادة وعرفت أسرار قوتهم ومحبتهم لبعض ولماذا يطلق عليهم لقب “الطائفة 19”! وحين يصرخون في صوت واحد جهوري “تحيا سوريا”..أشعر بموجة كهربائية تضرب جسدي. إحداهن منحتني لقب أعتز به: “المتآلف”!

   الرفيق والصديق نهاد قومي اجتماعي عنيد وثابت. لا يساوم في الأساسيات ويميل الى المشارعة إذا استفزه أحدهم. وعندما يُحشر في نقاش..يفتح دفاتر الماضي ويتحدث عن بطولات وإنجازات نذكرها نحن لكن زمن الطوائف والمذاهب أجبر الناس على نسيانها. علماني حتى النخاع الشوكي، محب للحياة والصداقات والوفاء وخدمة الآخرين ولو اختلف معهم في الفكر او السياسة. الجميع يشهد له بذلك. طحيش من الدرجة الأولى، كريم النفس، خفيف الظل، يحب السهر وعيش “اليوم”، وللجنس اللطيف في حياته حضور وطاقة للاستمرار والاحتفال بالحياة.

   لماذا أطلقت عليه لقب”مارادونا المكتبة”؟

الصديق نهاد مولع بالسلام وإلقاء التحية على معارفه في الشارع. يحب تذكير كل شخص يلتقيه صدفة في الشارع بنفسه! يفتح حديثًا، فيما نتابع نحن مسيرنا مع يقين  بأنه سيلحقنا راكضاً. في البداية عانيت معه. فصرت أسبقه. أنظر خلفي بعد دقائق فألمح “مارادونا المكتبة” مهرولاً مبتسماً. مرة لقبته “بالقومي الأخير”! كانت المرة الأولى التي أراه منزعجاً من مزاح. لم أكررها معه.

   يخبرني نهاد عن مقالب كثيرة  كان عدد من الزملاء من ضحاياها أيام الحرب. مرة وضع قليلاً من الويسكي في العصير لزميل معروف بتزمته الديني. ومرة اتفق مع طالب يرتاد المكتبة بأن يمثل دور ابن وزير مع زميل آخر معروف بمحاباته لأبناء الطبقات الميسورة أو الزعماء. فعمد   هذا الأخير الى الاهتمام بالطالب-الممثل وصار يجلب له الطعام والهدايا على أمل أن يساعده أبوه الوزير في وظيفة لأحد أقاربه في الدولة..لاحقاً نال هذا الزميل لقب “معالي الوزير” بفضل حنكة نهاد ومزاحه.

هذا القومي -المعروفي، ابن رأس بيروت النازل من الشوف منذ نعومة أظافره، قرر أن يزين صدره بالزوبعة كمعظم أبناء عائلته وقريته. مشى على هذا الخط ولم يبدل تبديلا. وأبناء بني معروف كثر في الحزب القومي..وهذه ظاهرة تستحق الدراسة العميقة.

   لا يتكلم صديقي نهاد لغة “القاف” مثل معظم دروز الجبل..لكنه يكرر على مسمعي عبارة يختم فيها معظم أحاديثه: “شغلات وكذا…” وتخرج الكذا مشددة! ماذا تعني الشغلات والكذا؟ أود أن أسأله وفي كل مرة أنسى.

   “مارادونا المكتبة”..محبوه كثر ولو اختلفوا معه بالرأي..وخصومه قلة..أقل من عدد أصابع اليد. تلك اليد التي يرفعها تسعين درجة صارخاً  بعز من وجدان من سنوات عمر ونضال مديد:“تحيا سوريا”.                    

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *