الثقافة الكونيّة في عالم الأخوين رحباني ونقاط التلاقي والتباين بينهما

Views: 316

د. جيمي عازار ملكي

منصور الرحباني الشّاعر، عالم واسع من الفكر والفلسفة والخيال والقصائد، مزيج من ثقافة كونيّة/ شعبيّة شاملة. وكثيرَا ما يدهشني عالم منصور الرحباني الشّاعر، لما فيه من قيمة فنيّة بشكل عام، فهو يخلق عالمًا من كلمات، فيه تنهض القيم، فينقذ الخيال الكائن الوطن من الكآبة والقلق. ومنصور الرّحباني أو المعلّم شخصيّة مميّزة في العالم الشّعريّ المعاصر، أكان في شعره العاميّ أو في شعره الفصيح.

هذا الثّائر خارج المدرسة، وخارج اليوميّ، وخارج المألوف، يدهشك وأنت تقرأه، ينقلك إلى عالمه، عالم عاصي الحاضر، فلا غياب في الشّعر للأخوين، يكتب الواحد بأصابع الآخر، ويرى بعينيه، ويستلهم بروحه.

وقبل أن أسبر أغوار عالم منصور الرحباني الشعريّ، لا بدّ لي من وقفة لأتحدّث فيها عن نقاط التلاقي والتباين بين الأخوين ولأحدد الإطار الذي كتب فيه منصور أعماله بالتحديد.

 

نقاط التلاقي

كان عاصي شاعرًا كبيرًا باللغة الفصحى وباللغة المحكيّة، وكان منصور شاعرًا بالاثنتين أيضًا.

كان عاصي موسيقيًّا خبيرًا وعالمًا بالتوزيع الموسيقيّ كذلك منصور.

كان عاصي مفكّرًا متأملًا بالحياة، كذلك منصور.

عاصي كان صاحب خيال مسرحيّ كذلك منصور.

نقاط التباين

كان عاصي يتبنّى نظرية تقول إنّ الأغنية لا تحتمل شعرًا كثيرًا كان يريدها سهلة وممتنعة السهولة. أمّا منصور فكان مع نظرية الأغنية القائمة على شعر خالص ما استطاع مقتنعًا أنّ هذا يعطيها ديمومة أكبر. ومال  عاصي في تكوينه إلى الفلكلور والسّهل الممتنع، أمّا منصور فكان ميّالًا إلى التأليف الموسيقيّ وإلى الأجواء الأوركستراليّة التعبيريّة.

امتلك عاصي قدرة على التأليف الموسيقيّ وقد فعل، أما منصور فكان قادرًا على تلحين الأغنية المسمّاة شعبيّة ببراعة.

وكان عاصي مولعًا بالقصص الغريبة، أما منصور فكان مولعًا بالتاريخ. واستطاع عاصي أن يصوغ التاريخ في قوالب مسرحيّة متميّزة، أمّا منصور فكان قادرًا على التقاط إشارات الأفكار المسرحيّة الخياليّة والسّفر بها بعيدًا.

 

مسرح منصور

مع منصور الرحباني ما عاد التركيز على البطل الرحباني (الأنثويّ غالبًا مع فيروز)، بل توزّع على أكثر من حضور بطليّ. فبرز الرجل البطل في معظم أعماله: المتنبي، جبران والنبي، وكانت له بطولة نسائيّة لافتة في (زنوبيا).

ولامس مسرحه الفلسفة، واتّسمت أعماله بالتركيز الكوراليّ والأوركستراليّ الضخم والمشهديّة التي أفادت من تقنيّات العصر، ومن مشاركة (أسامة ومروان وغدي).

يتبحّر منصور كثيرًا في الفلسفة والتاريخ واللاهوت والأدب العالميّ وركّز في المسرح على اختيار الممثّلين المحترفين.

ومن أجمل العناوين التي برزت في جريدة النهار حول مسرحيات منصور: “أمس أعاد الرحابنة طائر الفينيق إلى بيبلوس لينتصر على الزّوال بالشّعر والحقّ والحريّة (20 آب 2008)

“منصور الرحباني وزنوبيا خزّان العِبَر في زمن الخطر (21 آب 2017).

“آخر أيام سقراط بداية التحوّل المسرحيّ الكبير عند منصور (22 آذار 2010).

منصور ولبنان

أختار من كلمة ألقاها منصور الرحباني يوم  توقيع دواوينه الشعريّة في قاعة الأخوين.

” الحريّة أداة خطرة قبل أن تسلّمها لإنسان عليك أن تعلّمه كيف يستعملها”.

استلموا حرياتكم / فكلكم أحرار.

إنّما أنا أحلم بمواطنين لبنانيين همّهم لبنان قبل طوائفهم لبنان.

قبل انتمائهم الحزبيّ والعائليّ قبل النوم في عيونهم لبنان أوّلًا وآخرًا لبنان.  (30 تموز 2009).

 

منصور الشاعر

جاء منصور بشعره ليثبت العدالة الحقّة، وليدافع عن المظلومين، وليتولّى مهمة الصلح مع الأوجاع، لأنّ الحزن مقدّس، يطهّر النّفوس، ويعمّق الصلة مع الخالق والمخلوق.

” أرسلتُ لأشهد للضعفاء

لأقيم الصّلح مع الأوجاع

وأنهي الغربة مع الغرباء…” .

(أسافر وحدي ملكًا ص 123).

لقد أراد أن يكون شاهدًا على قيامة الشعوب، وانتصار الضعفاء، وتقديس الأحزان التي تمجّد أحلام الإنسان وتصوّراته. أمّا الغربة التي قصدها (أنهي الغربة) فهي الخوف وعدم الإدراك والقصور الثقافيّ والاجتماعيّ.

” يا حبيبي

كلّ ما في الصمت نادى

وأنا في موج عينيك

شراعٌ يتهادى…”.

ويحاول منصور الشّاعر أن يتجدّد، ويحسّ هذا التجدّد في حركة الشّراع الذي يتهادى متمسّكا بحركة الموج.

وتستمرّ مسيرة الحياة، والإنسان يستنزفه مرور الوقت، لذلك يتمسّك شاعرنا بالشراع الذي تبثّه حالة عشق جارية (موج عينيك).

وحركة الموج تشبه مصير الإنسان وعبوره في هذا العالم والمصير الذي ينتظره.

وهنا يقارب أدونيس في مقدمة الشّعر العربيّ: ” الإنسان واقع أكثر من الواقع، وليس واقعه اليوميّ إلا عتبة للدخول إلى واقعه الممكن”. (أدونيس ص 119).

 

يحاول منصور أن يجد عالمًا أكثر شفوفًا وسموًّا ممّا يحيط به، وهل هناك شفوف أكثر من شفوف الأطفال، لذلك يتمسّك الرحباني بأحلام الطفولة خوفًا من قسوة الأيّام وغدر المجهول.

“… انا الذي يحلم كالأطفال…”

ويلتقي ناديا تويني حين تقول:

” عندما يكون الواحد وحيدًا

مع المطر في قدح ماء

وسفينته إلى النافذة

ورحلات على مدّ النّظر

عندئذ تنزف ابتسامة

على وجهك البعيد مثل ندبة…”.

واجه منصور واقع الحياة بمرارة حيث العواصف والأحزان ونكران الذات وجحود الآخرين لكنّه يبذل نفسه مؤمنًا بقيامة الشّعوب وتحقيق النّصر.

” يا ولاد

بكرا الشّتي بينزل وبتطلعو بالزّهر

بكرا القصيده بتنكتب     وبتسكنو بالشّعر”

(ملوك الطوائف)

وبرع شاعرنا في عشق المحبوبة وارتفع بوجهها إلى علوّ مقدّس، ورسم وجهها على الماء مؤكّدًا أنّ حركة التفاعل التي ستنتج من تأثير الصّورة (سيكبر وجهك ).

” رسمتُ على الماء وجهك

من قال

في الماء تمحى الوجوه

سيكبر وجهك

يغدو دوائر

يكبر

يملأ وسع البحار…”.

L’ eau est l’ élément le plus favorable pour illustrer les thème de combinaison des puissances. (bachelard)

تأثّر الرحباني عالمه الخاص، واتّحد باللون، بحث في الماورائيّات منفصلًا عن الحياة، لكنّه خصّ عالمه الشّعريّ بتحرّر من القيود، وارتقى بشعره عن المألوف معبّرًا برموزه الخاصّة عن كل ما يدور في خبايا نفسه.

هو وليد التراب، ابن الأرض، حبيب المطلق، وقرين المثال:

” مختزن سرّك فيّي

كما في الرملة تًختزن الصحراء”.

 

منصور عن عاصي

الإنسان هو الأهم في المسرح عند عاصي، فهو كان متمرّدًا والفنّ عنده ابن الصعوبة والوعي.

زمن زياد

يروي منصور: لاحظتُ أنّ هذا الولد كلّما رأى شخصُا غريبًا أو ضيفًا في البيت، يبادره بالسّؤال: أين سيّارتك؟

أدرك العمّ أنّ هذا الطّفل لم يكن يعرف أن امتلاك سيّارة ليس بمتناول كلّ إنسان. كان عليه أن يخبره بذلك وبالطريقة التي يجيدها. ربما كانت تلك أوّل مرّة يدرك فيها زياد أنّ هناك أغنياء وفقراء.

ومنصور يرى وجهًا رومنسيًّا لتلك الطفولة التي عاشها زياد مقارنة بطفولة عاصي الوعرة.

ويتذكّر منصور أنّه كان يدلله ويلاعبه كما يفعل الأعمام لكنّه انتبه أنّ هذا الطفل ليس عاديًّا.

يقول منصور أيضًا كان الأولاد متقاربين في العمر ويجتمعون في ساعات الفراغ وكان الأولاد يجيدون العزف على مختلف الآلات والمرّة الأولى التي استمع فبها الأهل إلى قديش كان في ناس كانت بصوت ستالين وهو اللقب الذي أطلقه زياد على غدي.

عام 1973: سهرية العمل المسرحيّ الأوّل وكان تقليدًا لعمّه ووالده (الاختلاف برز لاحقًا).

 

تحرّر زياد من تطرّف والده في الموسيقى وظهرت 1991 (كيفك إنت).

كما وصل الأخوان رحباني إلى ذروة التأليف الفرديّ الوجدانيّ، وصل زياد إلى ذروة التأليف الجماعيّ الواقعيّ.

عندما تطلب فيروز من زياد أغنية فهو يكتبها ويلحنها كما يكتب ويلحّن الأغاني.

لن يتعمّد أن ” يتغيّر” أو أن يقلّد الأخوين رحباني ببساطة لن يخون نفسه.

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *