قصيدة “الخيانة” ليسرى البيطار… ثلاثية العطر، الوسن، الكفن

Views: 124

أنطوان يزبك

في الشعر ثمة ما يوازي انعكاسًا للروح الأبدية التي تسكن الزمن، على القصيدة والكلمات وما تجود به القرائح الأكثر جموحًا وتفجرًا في لحظة الشعر المجيدة، تلك اللحظة التي تكون في أساس البعث والأزمنة القيامية، مشهدية ساحرة وفرادة في الخلق تمهيدا لظهور كل جميل ومعجز .

وفي قصيدة “الخيانة” للشاعرة اللبنانية المبدعة د يسرا البيطار، استعادة لمفهوم العود الأبدي كما وصفه نيتشه وميرسا إلياد في نسيج الأديان والمعتقدات الروحية ، وهذه المرة في لوحة الخيانة وتحديدا كما في لوحة خيانة يوضاس للسيد المسيح ومشهد الصلب في كل أبعاده!

أجل وهل ثمة شك في مسيحانية الحب؟! ومن يصف الباطن من دون الركون إلى التجليات في المشاعر والاختلاجات الأكثر حميمية، ويسيطر الألم والقهر المريع حين تتشظى العلاقة بفعل الخيانة، التي سنراها في متن القصيدة تنعكس تباعا على الأمكنة: الضيعة والعريشة والشجر حيث ترك الحب بصماته في كل مكان وكل زاوية وحتى كل حبة تراب، لأن روح الشاعرة تنبت في كل مكان تغادر الحيز الجسدي الآني، وتتحدى الزمان والمكان. تقول يسرى:

تناثر العطر  حتى الموت وانطفأت

كواكب الليل حتى آخر المدن

في هذين البيتين نستعيد لحظة الخيانة التي تشبه مشهدًا صادمًا:

سقوط قارورة العطر، وتناثر زجاجها، هذا العطر عينه الذي سكب على قدمي السيد المسيح ولاحقًا سوف تحمله السيدات حاملات الطيب لنثره فوق الاكفان المتجددة، لكن المسيح لن يحتاجه لأنه سيقوم من الموت! كذلك الكواكب سوف تظلم وتعتم المدن، إذ لا شيء يحرق القلب ويحيله رمادًا بقدر الخيانة؛ قيل ذات مرة:

“فقدت أهلي بكيت كثيرًا، فقدت ولدي ضاع نصفي وكل عمري، فقدت حبيبي دفنت حيّا! وهل من ألم يعادل خيانة الحبيب؟! ألم الفقدان يضغط على القلب مباشرة وألم الخيانة يوازي حجرًا ثقيلا يسحق الصدر ويفتته”. (https://lovelandhabitat.org)

وتقول يسرى أيضًا:

والحلم حلق بي حتى اضعت يدي

فطوفت تلمس الأشياء في الوسن

قديما قالت العرب إن الوسن والرقاد يعادلان الموت؛ النائم هو ميت ولكن الحلم يأتي ليوقظ الميت من سباته كما ربات الجمال في ميثولوجيا الإغريق، وكما كان يؤمن جورجي بورخيس أن النائم، تغادره روحه وتمضي تزور العوالم على شكل فراشة ، ومن ثم تعود إليه وتدخل فمه فيستفيق!

ذات يوم رسم الفنان خوان ميرو بقعة زرقاء وسط لوحة بيضاء وكتب: “هذا لون حلمي، فهل نستطيع أن نلوّن أحلامنا في زمن الخيانة؟”

يسرى البيطار لوّنت أحلامها بلحظات من الفرح والنقاوة، لأنها لا تعرف للحب لونًا سوى الجمال والغبطة والارتقاء، إلى كل ما هو من إعجاز الطبيعة وتجليات الألوهة الصارخة في أرجاء الوجود:

عريشة قرب بيت ترتدي عنبا

وزهرة عند سفح الحب والفتن

مشهد من ربوع الجنة حيث الاعناب تعد بكل ما لذ وطاب والأزهار في جمالها، فيها كل غواية وفتنة وفي كل ذلك انزياح وانقلاب حظوظ، انحدرت بعدها كل المشاعر إلى القعر بعد التصابي والهزج والفرح.

 تقول أحلام مستغانمي في رواية “الأسود يليق بك”: يمكن للضحكة ان تكون فعل خيانة، إنها انصهار كائنين لحظة انشراح.

لكن العريشة في مدلولها هي كرمة الخير والعطاء ولابد أن تحمل كل ثمر، على الرغم من ثقل الأحزان ، إنها عريشة الصبر والتحمل ، تصمد تحت ثلوج كوانين لتتفتح وتزهر وتبرعم وتعطي الثمر ربيعًا وصيفا!

هكذا شعر يسرى؛ شعر عصي على الموت والزوال، شعر النسغ والايناع شعر قيامي بامتياز يرفض البقاء في مكان واحد من اليأس والنسيان شعر ثائر ومتحفز، ولو انها تخلص إلى القول:

لا أعرف الفرق بين الثغر والكفن.

الثغر يعطي القبلة ويعطي الحب ويعطي الكلمة وتاليا يعطي الحياة، ولكن الخيانة تحمل مذاق الموت ومرارة الفقد، وتحمل عذابا أين منه عذاب المدفون حيا، لذلك يأتي الكفن ليلف ليس الجسد الميت فقط بل القلب النابض الحيّ! وقلب يسرى من تلك القلوب الحية التي ترقص على إيقاع الحياة وتنبض مع كل رفة جناح طير يحلق في سماء زرقاء!

في هذه القصيدة دخلت يسرى البيطار في عاصفة المشاعر العاتية، الأكثر صخبا، صنعت فضاء شعريا كانت كلمتها فيه مدويّة، حقيقية، ذات نبرة حضور طاغية تنمّ عن شخصية قويّة قد ننتظر كثيرا وكثيرا جدا ولمدة طويلة، حتى نعثر على شاعرة لها هذه الصفات والميزات؛ أستلت سيف القصيدة العمودية بهذه البراعة وهذا التمكن، واجتاحت ساحة الوغى ، كما الفيضان المحطم لكل السدود!…

***

الخيانة

أيُّ الخيانات هذي؟ لستُ أعرفُها

هل يُخْلِفُ الدّمعُ ميعادًا مع الشّجَنِ؟

 

هل أبرقَ المطرُ المجنونُ يقذفُني؟

تركتُ قلبي على عطفٍ من الفننِ

 

تناثرَ العطرُ حتّى الموت وانطفأَتْ

كواكبُ اللّيل حتّى آخرِ المدنِ

 

أبكي ولم يبكِ لي أهلٌ ولا أحدٌ

وحيدةٌ مثلَ يومٍ مرَّ في الزّمنِ

 

أيُّ الخيانات هذي كيف تعرفُها؟

والموج أعلى من الرّايات في وطني

 

والحلمُ حلّقَ بي حتّى أضَعْتُ يدي

فطوَّفَت تلمسُ الأشياءَ في الوَسَنِ

 

عريشةٌ قربَ بيتٍ ترتدي عنبًا

وزهرةٌ عند سفح الحبّ والفِتَنِ

 

وقريةٌ لفَّها الغيمُ الحزينُ ومن

أوجاع قلبي لها ثوبٌ من الوهَنِ

 

هناك نافذةٌ فوق السّريرِ بها

تلُوحُ بارقةٌ من وجهك الحسَنِ

 

فليتني شجرٌ في ظلِّ قريتِكم

وليتني إنْ سلوْتُ الحبَّ لم أكُنِ

 

وكيف أسلو وإنّي حين تحضنُني

لا أعرفُ الفرقَ بين الثّغرِ والكفنِ!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *