خليل حاوي (1919-1982) في الذكرى الأربعين لغيابه…مُنقذ افتدى أمته بانتحاره

Views: 718

د. ميشال جحا

ولد خليل حاوي في قرية “الهُوَيّة” بجبل الدروز سنة 1919(*)، حيث كان والده سليم حاوي يعمل في مهنة البناء، شأن أبناء قريته الشوير الذين اشتهروا كبنّائين. وهو يقول عن ذلك متحدثاً عن طفولته إذ اضطر بسبب مرض والده أن يترك المدرسة:

“والدي كان بنّاءً، يعمل كعادة البنّائين الشويريين، يرتحل في مستهل الربيع الى سوريا للعمل هناك وبخاصة في منطقتين: منطقة جبل الدروز ومنطقة الجولان. وربما أثرت المناقبية الدرزية تأثيراً قوياً ولكنه خفيّ في سلوك الشويريين، وهو سلوك تغلب عليه صفة الفروسية في مقدمها العربي. مرض والدي ولي من العمر اثنتا عشر سنة. وكان مرضاً عصبيّاً موجعاً وضاقت بنا سبل العيش، فتحتّم عليّ وأنا كبير أخوتي وأخواتي أن أترك المدرسة وأبدأ العمل كما يبدأ الكثير من الشويريين – فاعل – ومن أوجع الذكريات كان عليّ أن أحمل الحجارة في بناء “البلوكاج” بين الطريق والرصيف. الموجع في الأمر توقف زملائي الطلاب للتحدّث إليّ، مع العلم إني كنت أعيش من قبل حياة يمكن أن تعدّ مترفة بالنسية لدخل والدي. ومما أذكر أنني كنت أيام العطلة، وهي أيام الآحاد والاعياد، ألزمُ البيت ولا أبرحه، لأنني كنت أفتقر لثوب جديد يصلح أن يُلبس في هذه المناسبات، وكنتُ أحسّ خلال تلك الايام بالكآبة والسأم، كنتُ أتساءل: لماذا تزوج أبي وأنجبني..؟ وخلال الطفولة، الى التاريخ المذكور، كنتُ أحاول قبل النوم أن أفكر في طبيعة الله دون أن أصلّي، وكان يبدو لي كما يبدو للصغار عادة، رجلاً مسناً طويل اللحية معقود ما بين الحاجبين مخيفاً، وربما داخل هذا التأمل الطفولي نوع من التأمل المبكّر في طبيعة الخلود والأبدية، وهو أمد كان يصعب عليّ تصوّره، ولهذا كنتُ أحسّ بما يشبه الرعدة كلما خالجني الشعور بزمنٍ لا ينتهي.

في الرابعة عشرة عملت “عاملاً” متدرّباً في “التطيين والتبليط”، وكان العمل يقتضي من العامل أن يبدأ عمله قبيل طلوع الفجر، وألاّ ينتهي إلا بانتهاء النهار وابتداء الليل. وما زلتُ أذكر الحذاء الذي كان ينضح بماء الكلس، فيؤثر في جلد رجلي تأثيراً قد يبلغ التفسخ”.

اشتغل خليل حاوي في أشغال يدوية وضيعة، مثل البناء ورصف الطرق بالحصى، كما مارس مهنة صنع الاحذية في دكان “كندرجي” في بلدته. كما عمل مع الجيش البريطاني في بيروت أثناء الحرب العالمية الثانية، مكّنه من جمع بعض المال، استطاع به أن ينتسب الى مدرسة شارل سعد في الشويفات سنة 1946، ولكي يُقبل في المدرسة اضطرّ الى تصغير عمره خمس سنوات، حيث اختصر سنوات الدراسة الثانوية بسنة واحدة ونال شهادة “الهاي سكول”، وانتسب الى الجامعة الاميركية في صف “الفرشمن”، وهو الصف الجامعي الاول سنة 1947-1948، وتخرّج في الجامعة الاميركية ونال شهادة الـ”ب.ع” (BA) والماجستير (م.ع). ثم ذهب الى جامعة كامبريدج سنة 1956-1959، حيث نال شهال الدكتوراه، وكانت أطروحته عن “جبران خليل جبران”.

 

فضلاً عن دراسته الفلسفة وإطلاعه على الادب الانجليزي والعربي والفكر الغربي، كوّن لنفسه ثقافة واسعة نادراً ما اجتمعت لشاعر عربي، وهو يقول لنا عن ثقافته ما يلي:

“إطلاعي هو إطلاع وثيق جداً في الحضارة العالمية، من ما قبل أفلاطون الى آخر التطورات في الفكر الحديث، وهذا أمر مخالف لما تواضع عليه الناس في مجال الثقافة الادبية. كان المفهوم السائد أن الفكر الفلسفي يُفسد الادب، وبخاصة الشعر. وربما كان لثقافتي الفلسفية بعض الاثر في تمايز شعري عن شعر الآخرين من رواد الشعر الحديث، وأعتقد أن الفكر الفلسفي عمّق الرؤيا الشعرية دون أن يوشحها أي أثر من أثر الفكر الذي يقرر تقريراً، أو يرد على سبيل الحكمة المأثورة”.

وهو يفيدنا عن دراسته في كامبريدج، حيث يقول:

“اخترت موضوع “جبران” لأنه كان أيسر الموضوعات التي يمكن أن أعالجها، ويبقى لدي وقت وفير لمتابعة بعض الدروس في الفنون المختلفة، والآداب الاوروبية والادب المقارن والفكر. كانت هذه المرحلة من أخصب مراحل حياتي، فقد أنهيت الاطروحة المطلوبة وأنهيتُ مجموعة “نهر الرماد”، وقسماً كبيراً من “الناي والريح”. عُدتُ الى لبنان والى الجامعة الاميركية استاذاً مساعداً في دائرة الادب العربي، وكانت شهرتي قد ترسّخت كأحد روّاد الشعر الحديث، وقد أدهشتني الشعبية التي توافرت لي خلال غيابي.”

كان خليل عضواً بارزاً في الحزب السوري القومي الذي أسسه ابن بلدته أنطون سعادة. لكنه بعد إعدام زعيم الحزب أنطون سعادة سنة 1949، اختلف مع خليفته جورج عبد المسيح وترك الحزب. وهذا الانفصال كان موجعاً الى حدٍّ ما، وربما أثّر في شعره؛ وهو يقول عن ذلك:

“في “نهر الرماد” حيث يغلب التعبير عن التوحّد والوحشة ومجابهة الوجود فرداً وحيداً يفتقد ما عرفه من قبل عن مساندة الرفاق له. ثمّ انتقلت من الشعور بالعدمية الى اكتشاف قيم الحضارة العربية من جديد، وأدركت أن الحزب القومي كان على خطأ أساسي عندما دعا الى وحدة تعمّ الهلال الخصيب وباسم سوريا والحضارة السورية، وأصبحت أعتقد أن الدعوة الى مثل هذه الوحدة نفسها يجب أن تكون باسم العروبة لأنها السمة الجوهرية التي يتّسم بها تراث هذه المنطقة، هذا مع الاعتقاد بإمكان قيام وحدة عربية أشمل”.

 

وعن الرمز في شعره، يقول الدكتور عز الدين اسماعيل([1]):

“لنأخذ رمز الناي مثلاً، وهو رمز خلقه خليل حاوي وارتبط به. فالناي هو الآلة الموسيقية المعروفة، ومساق هذه اللفظة المألوف في التعبير الشعري يوحي دائماً بالمشاعر الانسانية لأن الناي بطبيعته لا يُخرج إلا ألحاناً شجيّة. لكن الشاعر هنا لم يستخدم لفظة الناي رمزاً للأسى والحزن، لأنه لو صنع هذا لظلّ استخدامه للفظة هو الاستخدام المألوف، وإنما جعلها رمزاً لأسباب الاسى الذي يعتصر نفسه، رمزاً للقيود العاطفية التقليدية التي تشلّ خطوته وتعوقه عن الانطلاق الى آفاق التجربة البكر. ثم يُصبح الناي رمزاً لكل القيود والتقاليد البالية”.

بينما الشاعر كان يقول لي بأنه يرمز بالناي الى ايقاع نفسي خاص هو الشعر.

كان خليل معتداً بنفسه، ولم يكن مغروراً. كان يفاخر بأنه كان عصامياً، بنى نفسه بنفسه. وشأن أبناء بلدته الشوير، التي كان يفاخر في الانتماء اليها، كان قد تخلّق بالاخلاق الجبلية، وهذا ما يشير اليه:

“ظلّت الطباع الجبلية التي نشأت عليها تؤكد ذاتها بعنف، يبلغ حدّ المغالاة في مجال الخلق الشعري، والالتزام بالعقيدة العربية التزاماً يطرح قضية الانبعاث العربي على مستوى مطلق. ومما يُعرف عني التأكيد على الاستقلال بالرأي واعتبار نفسي اصلاً في التراث العربي، وفي الدعوة الى بعثه من جديد، واعتبار المعايير التي استند اليها هي أًصلح المعايير، وهذا الامر دفعني أحياناً الى الثورة على بعض المسؤولين العرب ثورة مباشرة، بلغت حدّ التعنيف والتوبيخ، ومما أقوله: لا فضل لمسلم على مسيحي إلا في أصالة عروبته، وكنت أرفض الشعور الذي تنطوي عليه الدعوة العربية، كأنها دعوة متأصلة تأصلاً تلقائياً في نفوس المسلمين، وهي وافدة على نفوس المسيحيين من خارج، وكان يبلغ احتقاري أشُدّه احياناً لبعض المثقفين المسلمين الذين يظنون اسلاميتهم تجعلهم أصيلين في عروبتهم”.

لم يتزوج، رغم أنه عَرِفَ أكثر من فتاة، ذلك لأنه أراد أن ينصرف الى الشعر، ولم يشأ أن يتخذ للشعر ضُرّة.

وهو القائل: “إن الشعر يقتضي من الشاعر وقف الحياة عليه وحده، وبخاصة عندما يكون شعراً ملتزماً بثورة انبعاث حضاري مطلقة”.

“الشعر يستولي على نفسي بكليتها، وإن أقرب النساء إليّ، كما قالت إحداهنّ تأتي في الدرجة العاشرة بعد الشعر.”

 

الانبعاث والرؤيا

في قصيدته “في بلادهم” (الآداب – 1957) التي لم تُنشر في ديوانه، يتنبأ خليل حاوي بما حلّ في لبنان من سنة 1975 وحتى سنة 1990:

وغداً يندكّ لبنان
وينفى شعب لبنان ويستعطى الشعوب
غير أن الأعين الصمّاء لا تحكى وتحكي:
أنت منبوذ غريب..!
سوف تستعطى الشعوب!…

يقول في  إحدى رسائله الى ديزي الامير “رسائل الحب والحياة” عن هذه القصيدة:

“قد استيقظ فى أي صباح لأقرأ فى الصحف أن لبنان قد تبخّر، قد حُذف من الخريطة، وأن أهلي الآن لاجئون، أو أنهم قتلى منطرحون على التراب فى “الشوير” أو فى طريقهم إلى التشرّد الأبدي. إن هذا الخوف يحتلّ أفكاري أحياناً حتى يمنعني عن النوم ليالي، وأحياناً يتمثّل فى صورة مرعبة غبّ النوم، فأستيقظ مذعوراً. ولو كانت العودة إلى لبنان مفيدة لعدت، ولو كان الجهاد محبباً لتركت الدرس وجاهدت. مأساة فظيعة، انتظارها أفظع من وقوعها.”

أمّا قصيدته “لعازار 62”([2])، ففيها ما يؤشر الى كل هذا الظلام العربي:

عمِّق الحفرة يا حفّار

عمِّقها لقاعٍ بلا قرار…

كتب الشاعر في تقديمه لقصيدته: “وهكذا وفي ما يشبه الحدس، اتحد الحاضر بكل زمان والواقع بالاسطورة، فاكتسبت اسماً، وكان الاسم جوهر كيانك: لعازر، الحياة والموت في الحياة، تموت القيم في المناضل وتحتقن الحيوية، فيكون الطاغية”.

وكانت نبوءة بهزيمة حزيران 1967.

نزل حاوي في شعره الى الاعماق، حاول سبر غور الحقيقة وخوض عباب المجهول. فهو في قصيدته “البحّار والدرويش”([3]) لا يقف على شاطئ المعرفة، بل يسعى الى ادراك الحقيقة الكليّة واكتشاف أسرار الوجود. فالشعر العظيم في رأيه حال تأملية في الكون والوجود، وحدس ورؤيا، وارتكاز على القيم الأخلاقية.

في “البحار والدرويش” ازدواجية على مستويات متعددة.

  • في المستوى الذاتي، فصامٌ في الذات يحولها كيانين متعارضين متخاصمين. درويش يرمز الى المتديّن الزاهد القابع في مكانه. وبحّار يرمز الى المغامر، المكتشف المؤمن بالعلم.
  • وفي المستوى القومي، ينقسم الناس نوعين، دراويش وبحّارة.
  • وفي المستوى الحضاري، صراع بين حضارتين، “فالشرق شرق، والغرب غرب، والتوأمان لا يلتقيان ابداً”، كما قال الشاعر البريطاني إدوارد كيبلنغ.
  • وفي المستوى الكوني، صراع في واقع الحيوية المتطورة، في عالم الصيرورة عالم الزمان والمكان.

وهو يقول حول ذلك في مقابلة أُجريت معه([4]):

“إني أعتبر الشعر رؤيا تنير تجربة وفناً قادراً على تجسيدها. وعن تجسيد الرؤيا والتجربة في صور حسّية تتولّد الرموز. وليس الرمز أداة مصطنعة تصدر عن قصد وفعل ارادي، بل هو صورة تعني ما تعنيه في ظاهرها، وفي الوقت نفسه توحي بأمداء قصيّة يشفّ عنها ذلك الظاهر. إنه وليد الرؤيا التي تستكِنْه أسرار الوجود والتجربة المشحونة بالمضاعفات الشعوريّة على مستويات متعدّدة. ولكلّ قارئ من الرمز بنسبة قدرته على تفتيق مضامينه الغنيّة. فالرمز قريب بعيد.

يتولّد الرمز عن رؤيا هي ضرب من الحدس يصهر الذات بموضوع يجعله أداة ضرورية لإدراك التجارب الكلّية الذاتيّة – الموضوعيّة والتعبير عنها. فالرؤيا التي تنصبّ على تجربة حضارية تتجسّد في رموز تجعل الماضي والمستقبل حاضرين في الحاضر ولهما ما له من يقين المشاهدة. الرمز ينظّم التجربة ويُشرك الآخرين فيها، ويوحّد تجربة الانسان في عصرنا، وفي كلّ عصر.”

“وبما أن الرمزَ تجسيدٌ في المحسوس، فقيمته في الأداء أنَّه يُعبِّرُ عن المجرَّدات دون أن يقعَ في التجريد؛ فتمّوز مثلاً رمز للبعث، للحيويّة المتجدّدة في كيانها الكلّي المجرّد، وهو في الوقت نفسه تجسيد لذلك المجرَّد. وهكذا تتّحد في الرمز صفة الكلّي المجرّد بصفة المجسَّد المحسوس. وفي هذا عودة الى رؤية الانسان البدائي التي كانت توحّد عالمه فلا تفصل بين باطن وظاهر، بل تندمج فيها المشاعر الذاتية بالظواهر الحسّية والحقائق الكامنة وراءها.

إنّ مَن يتّبع شعري يجد أن البعث محاولة تلقائيّة مستمرّة في إبداع الرموز المستمدّة من واقع حضارتنا وحكاياتنا الشعبية ومظاهر الطبيعة. ومنها تمّوز والخضر والعنقاء والبعل والبصّارة والسندباد والثلج والصحراء والرمل والبحر. وأعتقد أني تحاميت آفة الشعر الشعبيّ، أو الفلكلوريّ، الذي ينزع منزع السرد وعرض الظواهر والاحداث بأسلوب وصفيّ متراخ مسترسل فحوّلت الحكاية او الاسطورة الى رمز جعلته اساساً خفيّاً للقصيدة، تحسّه في نظامها ووحدتها، لا يبرز على سبيل التحليل والتفسير.

إن تصنيف العبارة الى شعريّة او غير شعريّة، يضيّق على الشاعر حتى يكاد يخنقه في سجن من البلّور العقيم، ويمنعه من استيعاب التجارب القائمة في واقع هذا العصر. أنا أحاول أن أستمدّ العبارة من صميم التجربة لتكون الصلة بينهما طبيعيّة حتميّة.

لقد حاولت إرساء أسس متينة لنهضة شعريّة عامة. لذا اتّجهت الى الاساطير والحكايات المستمدّة من واقع حضارتنا في تاريخها الطويل، ليكون لنا منها إطار عام ينظّم تجاربنا ويرسّخ جذوره في تربته الغنيّة العريقة.

إني أحذّر من ظاهرة خطرة متفشّية في ما يُدعى بشعر التجربة. ذلك أنّ الصورة البرّاقة الغريبة المدهشة، تاد تصبح غاية بذاتها منفصلة عن التجربة التي تزوي وراءها شبحاً لا حياة فيه. وبما أنّ مصير الصورة مرتبط بمصير التجربة التي ترفدها بالحياة فلا بدّ للصورة نفسها أن تضْمُرَ بعد حين وتشحب وتعجز عن الايحاء.

أما الايقاع فهو من أهمّ عناصر الشعر. فكلّ قصيدة تخلو من نمط معيّن من الايقاع يميّزها عن الايقاع المعهود في النثر، فهي لا تخرج عن نطاق النثر.

أعتقد أن الوزن ضروري. أما القافية فيمكن التساهل في أمرها. فالشعر الجيّد منذ أقدم العصور لم يخلُ من نوع من أنواع الايقاع الموزون الذي يسبغ على القصيدة انضباطاً ونظاماً.

إنّ لغة الشاعر قبل نهضته كانت تُستمدّ من قاموس مصطنع بأكمله. من هنا، وجب على الشاعر أن يتّصف بضَربَيْن من الحدس النافذ: حدس ينفذ الى أعماق الوجود، وحدس ينفذ الى أعماق اللغة وعبقريّتها.

أما الاسطورة فهي تجسّد تجربة توحّد بين المجرّد والمحسوس، وتتخطّى دلالتها التاريخية لتوحي ببُعد جديد يتواصل فيه الامس باليوم والغد، ويتنامى الواقع في الرؤيا”.

 

وهو الذي يقول في ذلك أيضاً:

“إن الشعر يصل عبر معاناة نفسية غير عادية الى حالة من الرؤيا، تتخطّى وسائل الادراك الحسّي والعقلي، كما تتخطّى الشاعر نفسه من حيث هو ذات فرديّة، وتصهره في حقيقة مطلقة تمّحي معه ثنائية الذات والموضوع، فما يبقى سوى شعور متوهّج بالوحدة التامّة والانسجام التام.

إنّ الرؤيا الكونية هي التي تمدّ الشاعر بمعرفة ما تقتضيه اللحظة الحضارية التي يعيشها من موقف حضاريّ يتّصف باليقين المبرم، ويستند الى سلّم من القيَم المتعالية عمّا هو آنيّ عابر، قيم تنبع من الاصول الخفية في طبيعة الانسان، وتسبغ على ما هو قوميّ صفة انسانية تجعله مصدر استلهام للاجيال اللاحقة، كما تكون مصدر استلهام للشاعر، يعود اليه كلما احتجب عنه اليقين وامتنعت عليه التجربة الشعرية الخصبة”.

آثر خليل حاوي أن يموت منتحراً… هناك شعراء كبار قُتلوا… أنا أشبّه انتحار حاوي في 6/6/1982 عندما دخلت اسرائيل أرض الجنوب، بقطرة الماء التي طفحت بها الكأس. خليل كان يعيش مع هاجس الموت. ديوانه الاول “نهر الرماد” تفوح منه روائح الموت والمقابر والاحتضار والأكفان والجنازات، بحيث ترد كلمة الموت ومشتقاتها او ما هو من توابعها ولوازمها 85 مرّة. كان خليل قد حاول اكثر من مرّة أن ينتحر. آخرها سنة 1981، وهذه المحاولة عبّر عنها في أبيات نظمها وهو في مستشفى الجامعة الاميركية، بعد أن أُنقذ من الموت بتاريخ 17/2/1981:

طال صمتي…

من تُرى يسمع صوتاً صارخاً فى صمته…

يسمع صوتي…

فاتني الإفصاح أدركتُ مُحالَهْ

بين تهجيرٍ وجَلْدٍ واغتيالٍ وعَمالَهْ…

فَلأمُتْ غيرَ شهيد…

مُفْصِحاً عن غصّة الإفصاح فى قطع الوريد…

هاجس الانتحار كان معايشاً لخليل. خليل في انتحاره يقف موقفاً بطولياً وليس موقفاً ضعيفاً، لأنه كان قد اقتنع بأن الموت والحياة كوجهي الدينار، لا يفصل بينهما إلا خطوة، فأقدم على خطوها…

حاوي كان متوتراً عصبي المزاج، ناقماً. انتحار خليل نوع من الاحتجاج والرفض. نوع من “الهيراكيري” عند اليابانيين، ليس في الشكل، بل في المضمون. انتحار خليل نتيجة للتصادم بين الداخل والخارج، بين الواقع والمثال. فكان انتحاره رفضاً للهزيمة، رفضاً للواقع العربي…

موقفه من الحضارة

توصّل خليل الى قناعة ثابتة، بأن الحضارة الغربية التي يمثّلها البحّار، والحضارة الشرقية الساكنة التي يمثّلها الدرويش، والتي تعيش في الكهف، وتجتر التصوّف، كِلْتاهُما فشلتا في اكتشاف الحقيقة:

مات ذاك الضوء في عينيه….

مات… لا البطولات تنجّيه…

ولا ذُلُّ الصلاة…

هكذا وجد حاوي أن الحضارات كلها طين في طين. في “البحّار والدرويش” يبدو الخلاص الفردي بعيداً عن المنال، رغم سعي الانسان لإدراك الحقيقة المُثلى.

فمن دائرة الشكل النمطيّ، التقريري، الى دائرة الرمز، والاسطور والايحاء، أبحر خليل حاوي، وخلال سفره الفنّي الطويل استطاع أن يجسّد لنا تجربة الانسان الممزق، الجوّاب في عالم جاحد، تجسيداً انسانياً منح المغامرة شكلها الوجودي، فاستمدّ منها أخيلته المتفجّرة، وصوره المكثّفة، نافخاً في جسد القصيدة روحاً متجدّدة، موّارة تحمل عبر إشراقها الدائم فتوة الثورة، عمق التجربة وكثافة الاحساس بحثاً عن “المطلق” الضائع في الدوامة والضباب، ووصولاً  بفن الشعر الى اكتشاف نسْغ الوهلة الاولى المغمور في ارض الاعماق البكر، تلك الأعماق التي لن يراها غير الشاعر عبر توحّده وتوهّجه، وعبر حدسه واستغواره، وعبر مغامراته التي لا تنتهي… تلك أسرار الشاعر نلمحها جليّة في اصداراته الشعرية (نهر الرماد، الناي والريح، بيادر الجوع،…).

هذا السندباد المبحر ابداً في وطن النبوة والجحيم… إنه خليل حاوي، شاعر “لا يستعير أصابع الغير ولا يشرب من محابرهم”، كما يقول نزار قباني.

ذاك أن شعر خليل، في كلّ حقبة من حقبات عمره، كان يتحرّى عن يقين نهائي، يوجد فيه الانسان بذاته، يموت في ذاته ويولد منها، وليس الموت سوى قشرة غرّارة لا تنال جوهر الانسان والكينونة. كان ذاك اليقين يكون حيناً الخصب، وحيناً النّسل، كما في قصيدتَيْ “حُبّ وجلجلة” و”السندباد” في وجوهه المتعدّدة، وكان يكون في حضارة البعل والدخان، وفي النهاية توسَّمه عبر “البطل”.

يقول شقيقه إيليّا حاوي(*):

“كان خليل يؤمن أن الشاعر الكبير هو، قبل أي أمر، مفكّر كبير، ومثقف كبير، يقف على هامة الثقافة في عصره، ويُدرك أعلى المستويات، ومن خلالها يواجه نفسه والحياة والكون، ويتعامل مع الحقيقة التي تنطلق من ذاتيّتها ووجدانياتها لتعانق التجارب العامة المطلقة في الوجود.

فالشعر ليس ترفاً، وهو ليس جمالياً يبتغي جمال الشكل والتجريدات، بل إنه مرتبط بالحياة، وفاعل فيها، ومنفعل بها. وهو موثوق بالحاجة والضرورة، والارادة، بخلاف ما ذهب اليه “شوبنهور”. ومأساة خليل الاخيرة تولّدت، بل تحتَّمتْ من تلازم الكلمة والفعل في نفسه، وقد اختنقت الكلمة حين هان الفعل وتبذّل وتعفّر وتعفّرت معه كرامة الانسان وزالت مبرّرات وجوده الاعلى”.

كان ضدّ استعارة الرموز وأخذها من حضارات وشعوب اخرى. هو يرى أن الرمز يجب أن يبقى ملتصقاً بعقلية الشعب وبتراثه. أما مسألة الوحدة العضوية في قصائده، فيمكنني تفسيرها بأن خليلاً كان بنّاءً أي “معمرجياً”… “المعمرجي” في شخصية خليل حقيقة تاريخية. البناء في الجبل يقوم على قناطر متساوية الاضلاع، وهي دائماً متجهة نحو الشمس. تركيب القصيدة عند خليل بناء كامل، له هندسة متماسكة. هندسة الحجر والبناء التي أتقنها خليل في يفاعته، دخلت لاحقاً في تركيب القصيدة.

في ليل 6/6/1982 انتحر خليل حاوي في منزله في بيروت، بإطلاق النار من بندقية صيد(*) على نفسه احتجاجاً على اعتداء اسرائيل على وطنه، وتدنيس ارضه، كان خليل ينظر الى هذا الاعتداء على أنه اعتداء عليه شخصياً، وكان يستغرب سكوت العالم على هذه الجريمة.

يقول الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي عن انتحار خليل حاوي، ما يلي:

“ثمّ ودّعته ورحلتُ الى بغداد، ولم أره بعد ذلك، الى أن جاءني النبأ الفاجع. لم أتعجب أو أندهش، لأن اخلاقية خليل النادرة، الحساسة، وشاعريته العظيمة قد دفعتاه الى هذا الفعل البطولي، وهو كما أرى رمز للفداء: فعندما تعجز أمّة عن ردّ غزاتها وصانع مأساتها، يكون الشاعر العظيم هو القربان، أو الضحية، او البذرة التي ستنجب الابطال القادمين الذين يستطيعون أن يردوا غزاة الداخل والخارج، وما استشهاده وموته إلا علامة جديدة من علامات الزمن العربي الذي بدأ يتغيّر، أو علائم تغيره قد بدأت لصالح الفئات التي طال قمعها والاستبداد بها. إن الشعب العربي الحقيقي سيولد، فهو في دور الكمون، ودم خليل ما هو إلا الأضحية التي قُدّمت على مذبح الولادة”.

فتجربة خليل ذاتيّة كليّة، وجوديّة حضاريّة، وفي الآن ذاته جماليّة على أن تكون الجماليّة حالة عليا من التثقيف ومن الرؤيا ومن الايقاع ومن التحكك ومن التكشّف على رموز الكون من خلال تفتّح المادة وشفافيتها، وهي حسرة لازمته طويلاً حتى أيامه الاخيرة وما ناله منها كان يظلّ أبداً دون غايته ومطمحه.

 

يرى الدكتور أنطون غطاس كرم أن أهم خصائص شعر خليل حاوي هي:

  • “الوحدةُ العُضويَّة” في القصيدة، حيثُ ترافد الفكرُ والحَدْسُ في تنظيم الحالة – التجربة، واتَّحاد الكلُّ مَعِيًّا في سياق النموّ الكُلِّيّ، على نحو سريان الحياة في حركة الناموس.
  • انتشال الواقع من “شَيئيَّته” المحدودة، وإجلاسُه إراديًّا في أوعية الرمز، واتِّخاذُ الأسطورة سَببًا يربطُ الماضي بالحاضر، والحقيقةَ بالخيال، والجزئيَّ بالمُطلق. وتوسيع الافتراض في المقاصد المتناهية.
  • إحداث الدهشة بالمنطق المُتماسِك، واكتشافُ الغريب بالمفاجأة الواعية، وقَتل الصدفة في التداعي الصُوَريّ، وإحكامُ تنـزيلها في هندسةِ العمارة المُتكاملة.
  • أخيراً أنَّ الفطرةَ قد اتَّحدَت بالتحضُّر بحيث لا يُلقى هذا الشِعر، وإنَّما يُقرَأُ في رَويَّة المُتقصِّي، فلا يُصابُ إلاَّ بمجهودٍ كالمُعاناة الجاهدة التي أنتَجته.

بذا يُضحى الواقع رؤيا، والرؤيا واقعاً، والعقل توأم الحدس في ادراك اليقين، ويستنبط الشاعر معجماً لا يخلو من التفرد.”

وأما الدكتورة ريتا عوض فتقول([5]):

“هكذا أدرك خليل حاوي دور الشاعر في عصره وفي مجتمعه. حمل همّ الأمة واكتوى بآلامها وانتشى بآمالها، فكان الشاعر المتميّز بامتلاك حسٍّ حضاريّ ينطوي على ادراك نافذ للواقع بكلّ مستوياته، وعلى وعي خاص للتاريخ في تواصله وتحوّلاته، وعلى استيعاب معمَّق للتراث الثقافي القومي والانساني بتجلّياته الفنّية والفكرية”.

وأما محمد عيتاني فيقول عنه([6]):

“لقد برز خليل حاوي بروزاً قوياً، منذ اوائل الستينات، بخاصة، وذلك لأنه استطاع أن يعبّر عن الغليان الوجداني المأساوي الذي طغى على جماع الوجدان العربي، منذ مأساة الانفصال حتى هزيمة حزيران، ليس على وجدان العرب فحسب، تأثير النكسات العربية وسلبيات حياتنا القومية، بل على كل فلذة لحم حيّ، وكل خلية عظم، وكل ذرّة دماء في عروقنا التي أصبح العار – والتطلع الى محوه – يجري فيها مجرى الدماء. ولقد استطاعت شاعرية خليل حاوي أن تجد أدقّ الاشكال والرموز وأقواها فعالية وأبعدها صدى وفعلاً في اعماق النفوس، للمضامين المأساوية، والسوداوية، الاقرب الى اليأس، والعجز، والقنوط غير المبرر والمأخوذ، بعمق حيناً، ودون عمق احياناً، في صميم تجاربنا الوجدانية والفكرية والثورية العربية. ومن وجوه انتصار خليل حاوي في هذا المجال العديد من الاشكال التي رفعت من شأن تلك الشحنة التي ضرب بها خليل حاوي وجوه الواقع العربي، كناسٍ وأنظمة، ومساعٍ، ومشاريع، هنا انتصار خليل حاوي.

وكل من تابع خليل حاوي – السائر برموزه الى الوراء احياناً – عبر مسيرته الشعرية، يدرك أنه ظلّ بعد “الناي والريح: و”لعازر 62″ يدور في مكانه، وإنني إذ أكتب ذلك، ليس يخفى عليّ، كما أعتقد، آلام خليل حاوي الفظيعة بسبب هذا الواقع ذاته الذي يدركه الشاعر، الذي هو ناقد ممتاز، متين الثقافة واسع المعرفة – عربياً وعالمياً – بقمح الشعر وزؤانه”.

هذا هو الشاعر خليل حاوي الذي بدأ ينظم الشعر بالعامية، ولكنه تنكّر له ولم يجمعه الذي ترك لنا “نهر الرماد” (1957) و(1961) و(1972)؛ و”الناي والريح” (1961)؛ و”بيادر الجوع” (1965)؛ و”الرعد الجريح” (1979)؛ و”من جحيم الكوميديا” (1979)([7]).

شعره يعبّر بصدق عن حالاته النفسية في تقلّباتها وثوابتها: تقلّباتها بين اليأس والامل، الشكّ والايمان، نشوة الذكرى وسأم الحاضر، وثوابتها تحريك الزمن المجمّد، بعث الخصوبة في العقم، تجسيد البطل المحضِّر، المُنقذ وقد افتدى أمته بانتحاره.

 

البحّار والدرويش(*)

طَوَّفَ مع “يوليس” في المجهول، ومع “فاوست” ضحّى بروحه ليفتدي المعرفة، ثم انتهى الى اليأس من العلم في هذا العصر، تنكّر له مع “هكسلي” فأبحر الى ضفاف “الكنج”، منبت التصوّف…! لم يَرَ غيرَ طينٍ ميْتٍ هنا، وطينٍ حارٍّ هناك. طين بطين!!

بعد أن عانى دُوارَ البَحر،
والضَوْءَ المداجي عَبْرَ عَتْمات الطريقْ،
ومَدى المجهول يَنشَقُّ عن المجهول،
عن مَوت مُحيقْ
يُنشرُ الأكفانَ زُرْقاً للغَريقْ،
وتمطَّت في فراغ الأُفق أشداقُ كهوفٍ
لفَّها وهجُ اَلحريقْ،
بعد أنْ راوغهُ الريحُ رماهُ
الريحُ للشرْق العَريقْ

حطَّ في أرْض حكى عَنها الرَّوَاةْ:
حانةٌ كَسْلى، أساطيرٌ، صلاةْ
ونَخيلٌ فاترُ الظلِّ رخيُّ اَلهْيَنماتْ
مَطْرَحٌ رَطبٌ يُميت الحسَّ
في أعصابه الحَرَّى، يميت الذكرَياتْ،
والصدى النائي المدوِّي،
وغوَاياتِ المواني النائياتْ.

آه لو يسعفُه زُهْدُ الدَراويش العُراةْ
دوَّختُهم “حَلقاتُ الذِكْرِ”
فاجتازُوا الحَيَاةْ.
حَلَقاتٌ حلَقاتْ
حَوْلَ درويش عتيقْ
شرَّشَتْ رجلاه في الوَحْل وباتْ
ساكناً، يَمتَصُّ ما تنضَحُهُ الأرْضُ اَلموَاتْ،
في مطاوي جلده يَنْمو طُفيليُّ النباتْ:
طحلبٌ شاخَ على الدهْر وَلَبلابٌ صفيقْ.

غائبٌ عن حسِّه لَنْ يَسْتَفيقْ
حَظُّهْ منْ مَوْسم الخصْب المدوِّي
في العُرُوقْ
رُقَعٌ تَزْرَعُ بالزهو الأنيقْ
جلدَهُ الرثَّ العَتيقْ

– هات خبِّرْ عن كنوز سَمَّرتْ
عينَيك في الغَيْب العَميقْ

–  قابعٌ في مَطْرحي من ألف ألف
قابعٌ في ضفَّة «الكَنج» العَريقْ

طُرُقاتُ الأرْض مهما تتناءَى
عند بابي تَنْتَهي كلُّ طريقْ،
وبكوخي يستَريحُ التَوْأَمان:
الله والدهرُ السَحيق.
…وَأرى، ماذا أرى؟
مَوتاً، رَماداً وَحَريقْ…!
نَزَلتْ في الشاطئ الغَربيِّ
حدِّقْ تَرَهَا… أمْ لا تُطيقْ؟

 

… ذَلكَ الغولُ الذي يُرْغي
فيُرغي الطينُ محموماً، وتنْحَمُّ اَلمواني
وَإذا بالأرْض حُبلى تَتَلَوَّى وَتُعاني
فَوْرَةً في الطين من آن لآن
فَورَةً كانت أثينا ثُمَّ روما…!
وهجَ حمَّى حشرجتْ في صَدر فاني
خلَّفتْ مَطْرَحَهَا بعضَ بُثُورٍ،
ورماد من نفايات الزمانِ.

 

ذَلكَ الغُولُ المُعاني
ما أراهُ غيرَ طفلٍ
من مواليد الثواني
ويَداً شمطاءَ منْ أعصابه تَنسُلُ
أكفاناً لهُ واَلموْتُ داني
وَتَرَاني
قابعاً في مَطْرَحي من ألف ألفٍ
قابعاً في ضفَّة «الكنج» العَريقْ

 

وبكوخي يستريحُ التَوأمان:
الله والدهرُ السحيق

أَتُرَى حُمِّلتَ من صدق الرؤى
ما لا تطيقْ؟
– خلِّني! ماتت بعَيْنيَّ
مناراتُ الطَريقْ
خلِّني أمضِ إلى ما لستُ أدري
لن تغاويني المواني النائياتْ
بعضُها طينٌ محمَّى
بعضُها طينٌ مواتْ
آه كم أُحرقْتُ في الطين المحمَّى
آه كم متُ مع الطين اَلمواتْ
لن تغاويني المواني النائياتْ،
خلِّني للبحر، للرِّيح، لموتٍ
ينشُرُ الأكفانَ زُرقاً للغَريقْ،
مُبْحرٌ ماتَتْ بعَينَيه مناراتُ الطريقْ
ماتَ ذاكَ الضوء في عينيه ماتْ
لا البطولات تنجِّيه، ولا ذلُّ الصلاةْ.

 

 

النّاي والريح(*)

في صومعة كيمبردج

 يجب أن نبعث لغة القبيلة لنشتقّ منها العبارة التي تصنع الوجود.

       مالرمه

قابض على الريح يسيّرها كيف شاء.

***

تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها،

 

1- في الصومعهْ

بيني وبينَ البابِ أقلامٌ وَمِحْبرةٌ،

صَدًى متأفِّفٌ،

كُوَمٌ من الوَرَقِ العتيقْ.

هَمُّ العبورِ،

وخطوةٌ أو خطْوتانِ

إلى يقين البابِ، ثمَّ إلى الطريقْ

 

2-

كذبٌ،

دَمي ينحَرُّ، يشتمني، يَئنُّ:

إِلى متى أزني، وأبصِقُ

جَبهتي، رِئَتي

على لقبٍ وكرسيٍّ

أُضاجعُ مومياءْ؟

أنا لستُ منكمْ طغمةَ النسَّاكِ

واللحمَ المقدَّدَ في خلايا الصومعَهْ

لن يستحيلَ دمي إلى مصْلٍ

كذبتُ، كذبتُ،

جرُّوني إلى الساحاتِ، عرُّوني

اسلخوا عنِّي شِعَارَ الجامعَهْ

 

3- اَلنَّاي

“اِبني، وقاهُ اللهُ، كنزُ أبيهِ،”

“جسرُ البيتِ، يحملُ همَّنا همًّا ثقيلْ”

“… اَلعامُ خلفَ البابِ يا بِنْتي، يعودُ”

“غداً، يعودُ إِليكِ، بَعْضَ الصَّبرِ”

“سوفَ يعُودُ، واللهُ الكفيلْ.”

***

ولربَّما ماتَتْ غدًا

تلكَ التي يبسَتْ على اِسمي

ومصَّ دماءَها شَبحِي

وما احتفلتْ بلذَّاتِ الدماءْ،

ماتَتْ مع النايِ الذي تهواهُ

يسْحَبُ حزنَهُ عَبْرَ المساءْ

ومع الورودِ متى التوَتْ

بيضاءَ، ينسجُ عُرسهَا ثلجُ الشتاءْ

طولَ النهارِ

مدى النهارْ

تنحلُّ في عَصَبي جِنازَتُها

يحزُّ النَّايُ فيهِ

وما يزيحُ عنِ القرارْ:

ماتَتْ وما احتفلتْ وما عَرَفَتْ

رَفَاهَ يدٍ تُظلّلُها ودارْ.

 

4- الرِّيح

طولَ النهارِ

مدى النهارْ

رَبّي متى أَنشقُّ عن أُمِّي، أَبي

كُتُبي، وصومَعَتي، وعَن تلكَ التي

تحيا، تموتُ على انتظارْ

أطأُ القلوبَ، وبينها قلبي،

وَأَشرَبُ من مراراتِ الدروبِ بلا مرارَهْ،

ولعلَّ تخصِبُ مرة أُخرى

وتعْصِفُ في مدى شَفَتِي العِبارَهْ.

دربي إلى البدويَّةِ السمراءِ

واحاتِ العَجينِ البكرِ،

والفجواتِ أَوديةِ الهجيرْ،

وزوابعِ الرملِ المريرْ.

تعصَى وليْسَ يَرُوضُها

غيرُ الذي يتقمَّصُ الجَمَلَ الصَّبُورْ

وبقلبهِ طفلٌ يكوِّر جنَّةً،

غيرُ الذي يقتاتُ من ثَمَرٍ عجيبْ:

نِصْفٌ من الجنَّاتِ يسقطُ في السلاَلْ

يأْتي بلا تَعَبٍ حلالْ

نصْفٌ من العَرَقِ الصَّبيبْ.

اَلشوكُ ينبتُ في شقوقِ أظافِري

اَلشوكُ في شفتيَّ يمرجُ باللهيبْ

… في وجهها عَبَقُ الغريزةِ

حين تصْمتُ عن سؤَالْ

… نهضَتْ تلمُّ غرورَ نهدَيْها

وتنفضُ عن جدائلها حكاياتِ الرمالْ،

تحدو، تدورُ كما أُشيرُ بإصبعِي

ولربَّما اصطَادَتْ بُروقًا

في دهاليزي تمرُّ وما أَعي

وبدونِ أَن أُملي الحروف وأَدَّعي

تحدو، تدورُ، تزوغُ زوبعَةً طروبْ

وأَرى الرياحَ تسيحُ؛ تنبعُ

من يدَيْها:

منبعَ الريحِ المعطَّرةِ الجنوبْ

ومنابعَ الريحِ الطَّريَّةِ والغضوبْ

للريحِ موسمُها الغضوبْ.

***

وحدي مع البدويةِ السمراءِ

كنتُ مع العِبارَهْ

في الرملِ كنتُ أَخوضُ

عَتْمَتهُ ونارَهْ

شربُ المراراتِ الثقالِ

بلا مرارَهْ.

***

ريحٌ تهبُّ كما تشيرُ عبارتي

للريحِ موسمُها الغضوبْ،

للريحِ جوعُ مَبارِدِ الفولاذِ

تمسحُ ما تحجَّرَ

من سياجات عتيقَهْ

ويعُود ما كانت عليهِ

التربةُ السمراءُ في بدء الخليقَهْ

بكرًا لأوَّلِ مرَّةٍ تشهَى

بحضنِ الشمسِ، ليلُ الرعدِ

يوجعُها وتَسْتَمْري بروقَهْ

ماذا سوى أَرضٍ تَعُبُّ

الحلْمَ، تُنبِتُهُ كرومًا والكرومُ

لها شروشُ السنديانِ،

لها عروق السنديان

وَرَفَاهُ فيءِ البيلسانْ،

ماذَا سوى عَقْدِ القبابِ البيضِ

بيتًا واحدًا يزهو بأَعمدةِ الجباهْ

يزهو بغاباتٍ من المُدُنِ الصَّبايا

لِين أَرصفةٍ وَجَاهْ

أَيصحُّ عَبْرَ البحرِ تفسيخُ المياهْ؟

***

وأرى، أَرى الطَاووسَ يُبْحِرُ

في مراوحِ ريشهِ،

نشوانَ يبحر وهو في ظلِّ السياجْ

ويظُنُّ أَنَّ الوردَ والشِّعْرَ المنمَّقَ

يسترانِ العَارَ في تكوينهِ والمهزلَهْ

في صدره ثديانِ

ما نبتَا لمرضعَةٍ

ولا للعَانسِ المُسْترجلَهْ

ثديانِ يأْكلُ منهما عسلاً

ويحصدُ منْهما ذهبًا وعاجْ

لو يستحقُّ صلبتُهُ

ما شأنهُ بصَلِيبِ إيمانٍ

يسوقُ لجُلْجُلَهْ

وكَّلْتُ ريحَ الرملِ

تعْجنُهُ بوحلةِ شارعٍ أَو مزبلَهْ

هو والسياجْ

وطيوبُ ثديَيْهِ وما حصَداهُ

من عَسلٍ وعاجْ

في موسم الريحِ الغضوب

مَسْحُ السياجات العتيقة في العقولِ

وفي الدروبْ

 

5- الناسك

ألنَّاسكُ المخذولُ في رأْسي

يُطِلُّ عليَّ، يَسألني، يَحَارْ

“أَهملتَ فرضَكَ”،

“هَلْ جُنِنْتَ فرحتَ تحلُمُ في النهارْ”

“حلم النَّهَارْ”

“مدى النَّهَارْ؟”

“هلْ كنْتَ تتبعُ ذلكَ الجنِّيَّ”

“هل أغواكَ شيطَانُ المغارَهْ؟”

– وحدي مع البدويةِ السمراءِ

كنْتُ مع العبارَهْ

في الرملِ كنْتُ أَخوضُ

عَتْمتَهُ ونارَهْ،

شربُ المراراتِ الثِقالِ

بلا مرارَهْ.

– “أَلغازُ مجنونٍ” وعاد

لغرفةِ الآثارِ في رأْسي،

وللسلعِ العَتيقةِ،

عاد منخَلعَ الوقارْ.

 

6-

طولَ النَّهارِ

مدى النهارْ

اَلحينُ بعْدَ الحينِ تعْبرُ جَبْهَتي

صُوَرٌ وتنْبتُ في الطَّريقْ

صورٌ يشوِّهُها الدوارْ

أُمِي، أَبي، تلك التي

تحيا تموتُ على انتظارْ.

اَلنَّاسك المخْذولُ في رَأسي

يشدُّ قُواهُ ينهرني، أُفيقْ:

بيني وبين البابِ

صحراءٌ منَ الورقِ العَتيقِ وخلفَها

وادٍ منَ الورقِ العَتيقِ وخلفَها

عمرٌ من الورقِ العَتيقْ.

 

في بابل(*)

 

كنتُمْ صغاراً تافهينَ

مدى الديارْ

صرتُمْ صغاراً تافهينَ

بلا ديارْ

***

وتيسَّرَتْ سِمَةُ الكبارْ :

خَتمٌ خفيٌّ،

سِرُّهُ لا ينجلي

إلا لعينٍ في سريرةِ كاتِمهْ

إلا لعينٍ في التماعِ خواتِمهْ،

يدُهُ التي لم تغتَسلْ

تمتدُّ تغسلُ أدمِغَهْ

وتروح تشحنُها

بما اشتملت عليه المصبَغهْ

***

وجهٌ يُطِلُّ

وصمتُهُ يُدمي، ويحرِقُ، لا يُطاقْ

يا يومَ أنكَرَهُ الرفاقْ

وتراكمتْ كُوَمُ الرمادِ

على موائِدِهِ العِتاقْ

***

كانَ الدّخيلَ

وكان يحمِدُ

ما ترسَّبَ في الرصيدْ

ما يشتري الخبزَ الكفافَ

ولا يَزيدْ

مرَّتْ على يدهِ

عيونُ صيَارفَهْ

ومضَتْ تحيَّتُهم بروقاً خاطفهْ

ختَمَتْ على ما كان يحمِلُ

في الضلوعْ

***

يا يومَ أنكرَهُ الجميعْ

وجهاً يعزُّ على المبيعْ

***

عرَّافهم يُلغي من الأعمارِ

ما حفَرتْ خناجرُ صاعقَهْ

***

طلٌّ غريبٌ يستريحُ على الشفاهْ

خلف الجباهِ تغطُّ

أقبيةُ الجباهْ

***

خلعَ القطيعُ شرانِقَهْ

أرخى على الأكتافِ

زهوَ عمالِقَهْ

 

في الجنوب(*)

 

جولي سبايا الأرضِ

في أرضي

وصولي واطحني شعبي

جولي وَصولي

واطحني صُلبي

لن يكتوي قلبي

لن يكتوي قلبي ولنْ يَدمَى

تنحلُّ حمَّى العارِ

في غيبوبةِ الحُمّى

لن يكتوي قلبي ولنْ يَدمَى

قلبي الأصمُّ الأبكمُ الأعمى.

***

(*)  حسب هويته، فهو مولود سنة 1925، ولكن التاريخ الصحيح لولادته هو نهاية سنة 1919.

([1] ) الدكتور عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، دار الثقافة، بيروت، 1966، (ص 219).

([2] ) ديوان خليل حاوي، دار العودة، بيروت، طبعة اولى، 1972، طبعة ثانية 1979، (ص 307).

([3] ) الديوان، (ص 9).

([4] ) نشرت في العدد 2 من مجلة “الحكمة” سنة 1961، نقلاً عن كتاب خليل حاوي لجميل جبر، دار المشرق، بيروت، طبعة اولى، 1991، (ص 60-62).

(*)  وضع ايليا حاوي في شقيقه خليل ثلاثة كتب: “خليل حاوي في سطور من سيرته وشعره” (1984)؛ “خليل حاوي في مختارات من شعره ونثره” (1984)؛ “مع خليل حاوي في سيرة حياته وشعره” (1987)، وهو الأهم، دار الثقافة- بيروت.

(*)  من نوع “سانت اتيان” 12 كاليبر رقمها 18645. فإذا جمعنا التاريخ الذي انتحر فيه وهو السادس من الشهر السادس اي 6+6=12 فهو يتطابق مع عيار البندقية. واذا جمعنا 12+12=24  فهذا الرقم يساوي مجموع أرقام البندقية.

([5] ) مقدمة ديوان خليل حاوي، دار العودة، بيروت، 1993، (ص 5).

([6] ) محمد عيتاني، فؤاد الخشن الرائد المجدّد الحس في الشعر العربي الحديث، دار العودة، بيروت، الطبعة الاول، 1990، (ص 101-102).

([7] )  نشرت هذه الدواوين مجتمعة، دار العودة- بيروت، 1993؛ وقدمت لها الدكتورة ريتا عوض.

(*)  من “نهر الرماد”، الديوان (ص 39-49).

(*)  من “الناي والريح”، الديوان (ص 195- 217).

(*)  من “من جحيم الكوميديا”، الديوان (ص 573- 580).

(*)  من “من جحيم الكوميديا”، الديوان (ص 541- 544).

***

*من كتاب “شعراء أعلام في المشرق العربي” (2013)  دار صادر للطباعة والنشر، دار نلسن

Comments: 2

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. ان هذا المقال ،هو اخر مقال كتبه والدي الحبيب ميشال،
    كان ينوي الذهاب يوم الجمعة ٧ كانون الثاني ،لزيارة صديقه الناشر ج.ف. ليقدم له المقال بهدف نشره في شهر حزيران ،في ذكرة مرور٤٠ سنة على رحيل الشاعر والفيلسوف الكبير خليل حاوي،
    لكن في ذلك اليوم ، لم يستيقز والدي من النوم…..
    فرحل …