أقطفُ ضوءًا وأسيرُ إليّ

Views: 533

جان توما

من فرادةِ النصِّ الأدبيِّ أنّهً ولّادٌ، إذ يولِّدُ القارىءَ فيما يموتُ كاتبُهُ. يذهبُ نُقّادٌ إلى القول: إنَّ الكاتبَ موجودٌ في نصِّهِ، لكن عليكَ أنْ تُسْقِطَ وجوهًا كثيرةً لتقعَ على وجهِهِ الحقَّ. فكيفَ يَعْثُرُ الناقدُ على وجهِ الراحلةِ غادة القائمةِ في نصوصِها، وقد أزاحَتِ الحجرَ لقيامةِ القارئينَ؟ تدعو الغادةُ القارىءَ في كتابِهَا “وعدتُ إليّ” إلى أنْ يحمِلَ قصيدتَه، ويقفَ على رصيفِ محطةِ الرحيلِ. قد يأتي القطارُ أو السفينةُ، وقد يتخلّفانِ عن الحضور. الكاتبةُ واقفةٌ في صمتِها. تتقنُ أبجديّةُ الصمتِ في حضرةِ الحياةِ والموت:” ما أنا إلّا مجموعةُ كلماتٍ صامتة”(ص43). هذا صمتٌ ناطقٌ في الأحشاء، ونابضٌ في الشرايين، ألقًا ووجعًا وحنينا.

في كتابِها الحيّ ما بعدَ الموت، يأتي الغلافُ حجرًا مدحرَجًا عن مصطبةِ بابِ الحياة. تحيطُ، بالقارىءِ في الكتابِ، العناصرُ الأربعةُ للطبيعة: الماء والنار والتراب والهواء. إنّ الكتابَ مائيٌّ، ناريٌّ، هوائيُّ، ترابيٌّ. إذا التفَتَ القارىءُ إلى معجم الطبيعةِ في كتابِ غادة السمروط، فلن يجدَ نفسَهُ إلّا في المطارحِ المكشوفةِ على الأمداء، وفي البراري الطافرةِ بألوانِ السهول، وانسيابِ الجداول، وهبوبِ الريح، وحوّارةِ التراب.

1- الماء

من هنا جاء تعبيرُها: “قبل أن تبدأَ الكتابةَ، ضَعْ قلمَكً في الماءِ”(ص55). هذه معموديّةُ الحرفِ المطهَّرِ والمطهِّرِ، حيث” ترتسمُ دوائر”(ص44)، و”تهطلُ أمواج”(ص44)، “وأغسِلُ بمائِهِ”(ص45). عندَها” الكتابةُ كلماتُها تبلّلُني”(ص54)، لذا تقصدُ أوديةَ العمرِ: ” أهبُطُ إلى وادي الحروفِ، أذوبُ في مائِها(ص59)، فيهطُلُ مطرٌ(ص60)، من هنا: ” الشتاءُ لا يكذِبُ”(ص63)، فـ”ذكرياتي الشتويّة”(66)، كما لو ” راحَتْ فكرةٌ في غفوةٍ على المياهِ”(ص69)، ” ويكتُبُني تحتِ رملِ المسافات”(57)

هي عاشقةٌ للماءِ خارجَ أسوارِ الزمانِ والمكانِ. هذا اللزجُ المتحرّكُ الذي لا حيوية من دونِهِ، ولا تستقيمُ الحياةُ إلاّ به، تبحِرُ به الكاتبةُ إلى مجهولِ القصيدةِ، فهي شاعريّةٌ متجدّدةٌ، تحملُ المعاناةَ، فتأتي مائيتُهُ لتسقيَ شروشَ القلقِ والاضطرابِ والتمزّقِ، بين الأنا والأنا، بين الأنا والأنت، بين الأنا والكون،  لروحِ الشاعرةِ الكونيّةِ اللامتناهيةِ، المتوغّلةِ في الأرض ِلتستنهضَ الرؤى، ولتكونَ لها الحياة.

د. جان توما ملقيًا كلمته

 

2- التراب

تعيشُ الشاعرةُ ” في سكونِ حبّاتِ الرمل” (ص48)، “تلوِّنُها سماءٌ من رماد”(ص69)، “قبلَ أنْ تتكوّنَ ككثبانِ رمال”(ص49). ما هذه الصورُ المتعاقبةُ للتراب؟ إذ هنا يبدو كطينِ الجنةِ، ساكنًا، ملوّنًا، متراكمًا على بساطةٍ في الأداءِ والشكلِ والمحتوى. تستقيلُ الشاعرةُ إذ” لم يَعُدِ البحرُ يهمُّني”(75). أوْقَفَتِ السفرَ في العمر، ونزلِتْ أوّلَ رصيفٍ ترابيٍّ وَصَلَتْهُ، عندَها” تطايرَتْ حبّاتُ الثواني حبّاتُ رمال(ص73). لكنَّ الترابَ كالتياراتِ البحريّةِ غدّار، كما الإعصار، فمن يحمي من التيه في الصحارى، ويقي العطشَ للظامئينَ؟ الشاعرةُ غادة السمروط عندَها” كانَتِ الكلماتُ كرمالٍ متحرّكة”(ص 77)، لم يَعُدِ الاستقرارُ، أو الرحيلُ مطلَبها، بل “أجملُ النهاياتِ السفر”(ص115).

3- النار

كيف توافَقَتْ غادة السمروط مع هذا العالم؟ بكثافتِهِ لا بشفافيتِهِ، بثقلِ تكاليفِهِ لا برشاقَةِ فرحِهِ؟ تقولُ:”أتألمُ حين ينهمرُ الكلامُ نارا”(59) كأنَّها ترددُ” بعد حينٍ تَهْجُرُ العصافيرُ الأوكارا”، فكيف إذا أَتَتْ” همساتٌ مُظْلِمةٌ تحملُ شمسًا(ص60)، وكيف ” أشعُ في شمسِ من أرجوان”(ص65). تعرفُ الشاعرةُ كيف” تجتازُ الغابةَ مثلَ شمسٍ من ثلج”(ص68) و”في الموقد أشْعَلَتُ ذكريات”(ص55). لملمَتِ الشاعرةُ ما تبقى من ذكريات، وتوجَّهَتْ إلى “ذلكِ البلدِ المشتعلِ بردًا”(ص83)، ذاك البلدُ الذي” لم يُشْعِلْ نارا”(ص86)، حيث تختفي التناقضاتُ، وتتكاملُ الأرواحُ، وتتألقُ في انسجامٍ لا تدركُهُ إلّا القاماتُ الكبيرةُ، هناك حيثُ” الثلجُ شعلةٌ أطفأتْها العاصفةُ”(ص 92).

4- الهواء

جاءَ في مزاميرِ الكتابِ المقدّس: الإنسانُ كالعشبِ أيامُهُ، وكزهرِ الحقلِ كذلك يُزْهِرُ، لأنّه إذا هبَّتْ فيه الريحُ لا يثبُتْ، ولا يُعْرَفُ أينَ موضعُهُ. ( المزمور 103). فَهِمَتِ الشاعرةُ الموضوعَ، أساسًا،  بروحِها فكتَبَتْ:”أسبحُ في عطرِ هواء”(ص46)، وتصيرُ في مدى لا مرئي ” حينَ الهواءُ يشلّعُ حبّاتِ السبحة”(ص48). كما أدركَتْ أنّه، في النهايةِ، سنتوكأُ على الريح، خاصةً” عندما أصيرُ هبّةً في فمِ الريح”(ص52).  أدرَكَتْ الشاعرةُ سرَّ العالم، وهي تعبُرُ هدأةَ العاصفة، فالمِحبرةُ صارتْ سماويَّةً، والقلمُ لَمْعًا فوقانيّا، كما أدركَتْ أنَّه عندما” تهبُّ العاصفةُ يسقُطُ القلم، وترحلُ الورقة”. اختصرَتِ الشاعرةُ ديوانَها بجملةٍ واحدةٍ” أقطُفُ ضوءًا وأسيرُ إليّ”(ص 93).

في الخلاصةِ: هناك حالةٌ لا يعيشُها إلّا الشاعرُ الواقفُ على حدّ السكينِ. كأنّهُ في غربةٍ أو شتات. يرى بينَه وبينَ بينِهِ ألفُ صحراء ووادْ. إن عَبَرَ اكتشفَ ما فيه فيرتعبْ، لكنّه في أغلبِ الأحيانِ يرى أرضَ الميعادِ ولا يدخُلُها. تذهبُ الشاعرةُ إلى القول: إنْ “عدتُ إليَّ” فقدَ تصالَحَتِ العناصرُ الأربعةُ فيك، وصارَ الكون أجملْ، لتأتيَ القصيدةُ كرغيفِ الخبزِ صبحًا، طالعًا من ترابِ الأرض، وهواءِ السهل، مبلّلاً بماء الحياة، ومحترقًا بنار الحنينْ.

***

*مداخلة في ندوة حول كتاب ” وعدتُ إليّ”: للراحلة غادة السمروط-الرابطة الثقافيّة – الأحد 12 حزيران 2022

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *