“أَدِيب” لعميد الأدب العربي د طه حسين… بين السِّيرَةٌ الذَاتِيَّة وفنيّة القصّة

Views: 2021

د. محمّد محمّد خطّابي* (مدريد – إسبانيا)

-1-

المُعَانَاةُ والخَلْق

لكلٍّ منّا ماضٍ منقضٍ، وذكرى أو ذكريات عشناها في طور الطفولة، أو في شرخ الشّباب، إنّها جزءٌ من حياتنا قد ولّى ،أو شطرٌ من عمرنا قد إنقضى،لابدّ أن ينعكس على ما يصدر عنّا من أعمال إبداعيّة، أوفنيّة، هي المرآة التي نرى بها أو فيها أنفسنا، والتي نصوغها في قوالبَ مختلفة، لها مُسمّياتها المعروفة في ميدان الخلق الفنّي، ولكن طريقة هذا الإنعكاس غالباً ما لا يكون – أو ينبغي له أن لا يكون- مباشراً تقريريّاً لا يكلّف القارئَ كبيرَ عَناء في إستكناه خفاياه ومعرفة حقيقته، فيُحرم بالتالي، من مُتعٍ شتىّ قد يجدها فيما يقتنيه من أعمال الآخرين،أمّا إذا كان ما يقدّمه لنا الكاتبُ شيئاً يعود عليه بالمتعة هو، قبل أن يعود علينا نحن، ويترك في نفسه من الأثر أبلغَ ما يتركه في أنفسنا، فإنّ ذلك لا يعدو أن يكون فنّاً ناقصاً أوغيرَ ناضج، ونعني بهذا الكاتب الذي يزجّ بنفسه في عالم التّجربة للتّرجمة عن مشاعر الآخرين دون أن يعيش هذه التجربة معايشة حقيقية، كما يوجد من الكتّاب من يتعذّر عليه التعبير بوسائل فنيّة دون أخرى مثل القصّة أو الرّواية على سبيل المثال، ولستُ أزعمُ هنا البتة أنّ الجوانب الأخرى من التعبير التي تعتمد على السّرد المباشر دون إستعمال الرّمز أو الإشارة ..إلخ. ليست فنّاً، أو على الأقل لا تدخل في إطاره، بل إنّه فنّ قائم ولا شكّ، ولكنّ تحقيقه هو الآخر يحتاج إلى مهارة فائقة،وجرأة خاصّة ليندرجَ تحت ما نسمّيه بالمذكّرات، أو الإعترافات، أوالتراجم، أوالسّير الذاتية، وهذا اللون من الكتابة لونٌ جميل، وشيّق، ومُغرٍ في نفس الوقت،غيرَ أنه لكي يرقى إلى المستوى الفنّي اللاّئق ، فإنه يتطلّب من صاحبه أن يكون صادقاً فيما يَكتبه أو يُترجمه، أميناً، جريئاً وصادقاً في نقل الأحداث أوالوقائع، إذعليه أن يُصوّر لنا كلَّ ما مرّ به في رحلته الحياتيّة من أحداث، أو صادفه من بؤس أوشقاء، أومباهج أو مسرّات، أو أحزان أو آلام، وهنا يكمن رأس الحَربة في الرقيّ بهذا الفنّ ..هنا يكمن السرّ الذي حبّب هذا الفنّ إلى نفوس النّاس، ذلك لأنّهم يبحثون دوماّ عن “المتناقض” من الذّات نفسها، وعمّا خفي منها، لهذا السّبب لم يكن من الغرابة في شيء أن تحظى – على سبيل المثال – مذكّرات الأديب الرّوسي “ماكسيم جوكي” التي ضمّنها في كتابه “حياتي” من نجاح كبير ، ولم يكن غريباً أيضاً أن تنالَ إعترافاتُ ” جان جاك روسّو” أو  “أنديه جيد” أو سواهم من الأدباء الذين خاضوا غمارَ هذا الفنّ من ذيوع صّيت، وشهرةٍ واسعة الشيء الكثير،غير أنّ هذه الجرأة قد لا تواتي جميع الكتّاب، وربّما إعترف البعضُ منهم بأنّ ما قاله في قصّة أو مسرحية مثلاً يُعبّر بالتحديد عمّا يشعره أو يحسّ به ، ويلقي بذلك مزيداً من الأضواء على أعماله، والأمثلة من هذا القبيل كثيرة جدّاً، فالكاتب الفرنسي “جوستاف فلوبير” كان يقول في أخريات أيّامه ” إنّ مدام بوفاري هي أنا “!، كما أنّ الكاتب الإسباني المعروف سيرفانتيس أجاب حينما سألوه وهو على فراش الموت .. مَن الذي تقصد بدون كِيخُوتِه بطل قصّتك الرّائعة..؟ قال ” لا أقصد أحداً غيري” ! إلخ.

ماكسيم غوركي

 

الأدب إذن إنما هو تعبيرٌعن الذّات في حالاتها المختلفة، وهو في الوقت نفسه تعبيرٌعن ظروف، أو ملابسات، أو معايشات ترتبط بهذه الذّات، أو تحيط بها. وطريق التعبير الذاتي أو الترجمة الذاتية طريق سهل واضح عند البعض، إلاّ أنه طريق قد يكون غامضاً، وصعباً عند الآخرين، وكلا التعبيرين له مستواه الفنّي، وله مزاياه وعيوبُه التي تُحدِّد قيمتَه التي تضمن له النجاحَ والبقاء، أوالفشلَ والزّوال، لذا لم يكن من باب الصّدفة أن تخلّد أعمالٌ أدبية مثلما خلدت أخرى، أو أن ينال بعضُها من الشّهرة والذّيوع ما لم تحظ به غيرُها،- عند هذا الحدّ- يمكن القول بأنّ الأديب المبدع مسئول عمّا يقدّمه، أو ينتجه من أعمال،وما يقدّمه أو ينتتجه هو الذي يقرّر وجوده،ويُثبت ذاتَه دون دخلٍ لصاحبه، أو لذيوع صيته، وشهرته فيه ،لأنّه ربّما كانت هذه الشّهرة في مجالٍ غير الذي نحن بصدده،وكم من أديبٍ لم تظفركلُّ أعماله بالنجاح والشّهرة، بقدر ما ظفر عملٌ واحد أو إثنان منها. وإذا نحن ألقينا اللّومَ على الكاتب، أو الأديب بصفته صانعاً لهذا الأدب، فذلك لأنّه إليه يؤول الفخرُ والإعجابُ، أوالنقيصةُ والصّغرُ فيما يُنتجه ،إذا إتفقنا على هذا كلّه، آن لنا أن ننتساءل عن هذا العمل الذي بين أيدينا الآن الذي تحت عنوان: “أديب” لعميد الأدب العربيّ الدّكتور طه حسين.

 

ماذا في “أديب” وماذا عن كاتبه..؟

” أديب” هل هو صورة واضحة صريحة لطه حسين نفسه في فترة معّينة من فترات حياته..؟ هل هو إمتداد لعملٍ مشهور ترجم فيه لحياته ،وهو” الأيّام” ..؟ أم هوعملٌ قائمٌ بذاته ، كتبه مؤلفه بدافع مّا..؟ أم هو قصّة لم تخضع للمقاييس المتعارف عليها في هذا الباب ..؟ أم هو سلسلةُ أحاديثٍ ورسائلَ بيانية متلاحقةٍ مسهبة..أم ماذا..؟ لا ريب أن مثل هذه التساؤلات تواجه القارئ المجدّ عند قراءته لهذا الكتاب،لأنّه واجدٌ فيه (طه حسين نفسَه) أيّ الرّجل لا المؤلف، وهو يُفصح عن نفسه دون خوف أو تردّد في بعض المواطن، ويتحفّظ في أخرى..فماذا إذن في “أديب” وماذا عن كاتبه؟!

يصوّر لنا الدكتور طه حسين في هذا الكتاب شطراً من حياة شخصين ،كلاهما ينحدر من أقاصي الصعيد، إلى القاهرة  ليلتحقا بالأزهر الشريف، ثم بالجامعة المصرية، وبعد مدّة سيحظى أحدُهما بفرصة السّفر إلى فرنسا ليواصلَ تعليمَه هناك، غيرَ أنّه قُبيل سفره يواجه بعضَ المشاكل سُرعان ما يتغلّب عليها بسهولة، وعند وصوله إلى فرنسا نجده ينغمس منذ الوهلة الأولى في الحياة الجديدة التي لا عهدَ له بها من قبل، هذه الحياة التي قِوامها اللّهو، والمرح، والمجون، وقبل أن يصل إلى باريس، عند نزوله في مرسيليا يلتقي بفتاةٍ تعمل في الفندق الذي نزل به، ويتعلق بها على حين غرّة تعلقاً شديداً، وينسى زوجتَه “حميدة” ويهيم هوىً وصبابة بهذه الفتاة “فرنند”، ثم نجده سرعان ما يقتنع بأنّ الماء إنّما هو شراب الحمير، وأنّ النبيذ المعتّق، والجّعة الجيّدة خيرُ شراب للإنسان،وتمتدّ يداه إلى إلى الكأس منذ الأيام الأولى، بل إنّه لا يتورّع من أن يسكر حتى الثّمالة، وهوبعد حديث العهد بالوصول إلى هذا الوسط المتفتّح والمتحرّرلدى البعض، والماجن المنحلّ لدى آخرين، قادماً من وسطٍ محافظ  مثل القاهرة حيث (الحِشمة والوقار) والنّهي عن الفحشاء والمنكر، وما أن يصل إلى باريس حتى يعود إلى “مرسيليا” من جديد، ومنها إلى “كان” صحبة فرنند. واعتاد أثناء أسفاره على مراسلة صديقه الذي ظلّ في القاهرة ،وبعد أن يختلف إلى السّوربون ويجتهد إجتهاداً لا نظير له، نراه ينقلب دون مسبّبات: ” يكفي أن تعلم أنّ صديقك الذي كان جادّاً كلّ الجدّ،منصرفاً كلّ الإنصراف إلى الدّرس قد قطع الأسبابَ كلَّها بينه وبين الدّرس، ووصل الأسبابَ بينه وبين (إلين)..وداعاً أيّها الصديق، إنّ (إلين) تضيق بإنصرافي عنها إليك،ولئن مضيتُ في الحديث لتمزقنّ كتابي إليك تمزيقاً، فلأنصرفنّ عنك إليها ،ولأستقبلنّ معها حياةَ المساء في باريس المضطربة، فمن يدري عمّ يُسفر لنا الصّباح”؟ .

طه حسين

 

على هذا النحو أصبحت حياة “أديبنا” في باريس حياةَ لهوٍ وعبثٍ ومُجونٍ حتى يصل به الأمر في النهاية إلى جنون مُطبق يعترف به في أسطر قليلة لصديقه : ” وداعاً يا سيّدي، إنّي لأرى شبحَ الجنون بغيضاً مُزعجاً، ولكنّي مع ذلك لا أهابه، ولا أتأخّر عنه، وإنّما أقدم عليه إقدامَ المُحبّ الجريئ، كيف لي أن أحجم عن الجنون وقد إتّخذ لنفسه صورةَ ( إلين) ” !

وأخيراً يُصاب صاحبنا بالجنون، وأمسى يتخيّل أوهاماً غريبةً بعد أن يصبح طريحَ فراش المرض ، يُخيل إليه أنه النازي الغادر وأنّ الصّحف الفرنسية مجتمعةٌ على طرده من باريس المدينة التي وقف بجانبها، وساندها وساعدها عندما هوجمت،ويتوهمّ أنّ الحلفاء أجمعوا على نفيه إلى المغرب الأقصى، بعد أن إنقلب عليه أهلُ باريس جميعاً من سكّان، وصُحف، وأساتذة.

ونستنتج من إحدى الرسائل التي كتبها إلى صاحبه أنه قد خطب فتاةً من أستاذ من أساتذة السّوربون، وهذا ما غاض إلين، التي طالما تغنّى بحبّها، والتي إنصرفت عنه بعد أن علمت بأمر هذه الخطبة ،ونصل إلى نهاية هذا المطاف، عندما تحمل إليه ذاتَ مساءٍ صاحبةُ البيت الذي كان يقيم فيه حقيبةً ومعها خطاب. وبعد أن بلغ الجنونُ به مداه، وبعد أن أصبح لا أمل بتاتاً في علاجه، قدّمت له الحقيبة، وأوصته بغرفة مُغلقة منذ عام بها كتبٌ كثيرة ، ولما إطّلع عليها إذا به يقف على أدبٍ حزين ،رائع، وصريح لا عهدَ للغتنا بمثله فيما يكتبه أدباؤُنا الشبّان ،ومن ثمّ همّ بنشره ، ومن بينه هذا الكتاب.!

ت،س، إليوت

 

هل إلتزم المؤلِّف منهجاً معيّناً ..؟

آن لنا الآن، أن نتساءل : هل إلتزم طه حسين منهجاً معيّنا في كتابه “أديب” أم أنّه أرسل الكلامَ على عواهنه طيّعاً منساباً دون التقيد بالأصول الأدبية أو ما شابهها؟ إنّ طه حسين نفسَه، يعترف بأنّه لا يلتزم طريقاً بعينها فيما يكتبه من أعماله القصصية أو ما شاكلها، وإذا ألقى القارئُ نظرةً عجلى على سبيل المثال على كتيّب آخر من كتبه وهو ” المعذّبون في الأرض” لوجد أنّ الأقاصيص التي إحتواها هذا الكتاب لا تتوفّر على المقاييس اللاّزمة لكلّ قصّة.

إذا كان الأمر كذلك، أيّ إذا كان طه حسين لا يُخضِع كتاباته للمقاييس المتّفق عليها ، فما هو المِعْول الذي نعمل به في تناول مثل هذه الأعمال بالدّراسة والتحليل؟ خاصّة إذا وضعنا نصب أعيننا قولَ ناقدٍ وشاعرٍ كبير وهو “ت،س، إليوت “حينما يقول:”حتى وإن كانت عظمة الأدب لا يمكن أن تُحدّد فقط بالمقاييس الأدبيىة، إلاّ أنّه على الرّغم من ذلك يجب أن نُدرك أنّه سواء كانت الأعمال أدبية أم غير أدبية ، فلابدّ من تقييمها  في آخر المطاف وفقاً لهذه المقاييس”، بمعنى أنه لا مناص من أن تكون هناك معايير أدبية لوزن،وتقييم العمل الأدبي”.

فهل نعتبر ” أديب ” قصّةً توفّرت فيها كلُّ مقاييسها الضروريّة؟ هل هناك رابطٌ يربط بين أحداثها ؟ أيّ هل توفّرت على حبكة محكمة قائمة ؟ بل هل كانت هذه الأحداث مسلسلة بطريقة منطقية سليمة البناء؟ أم هي قصّة من ذلك النّوع من القصص الذي يكون معظمه مخلخلَ البناء ، مفكّكَ الأحداث الذي يسمّيه الناقد الإنجليزي ” أدوين ميود” في كتابه “بناء الرواية” بقصص الشّخوص، والذي يقول عنه:” الأحداث فيه مفكّكة يسيرة، طالما أن المقصود منه هو توضيح جوانب الشّخصّيات”.

هل تندرج قصّة ” أديب” تحت هذا النّوع من الكتابة ؟ أم يمكننا أن ندرجها تحت صنفٍ آخر من القصص المعاصر الذي يخرج عن نطاق القصص الذي لا يتّبع فيها مؤلفوها منهجية القصّة التقليدية، ويحاولون خلق أشكالٍ جديدة تناسب مضمونَ قصصهم، ولا ينبغي للشّخصيات فيها ” أن تتقيّد بمعامل الزّمن ،بل إنّها تتحرّك إلى الوراء وإلى الأمام وفق رغبتها ،لا تتحكّم فيها الحكاية، بل الحركة النفسية التي تكمنُ وراءها، وتجتمع فيها المشاهد المختلفة ، هذه الحركة هي التي تُضفي على العمل الرّوائي نوعاً من الوحدة والإتساق”.

الحقيقة أنّ ” أديب” ليست من هذه ولا من تلك في شئ، ويمكننا أن ندرجها – بتحفظ شديد- تحت قصص الشّخوص لأنّنا واجدون طه حسين يتنقل بين الفينة والأخرى من مكانٍ إلى آخر بل حتى في الزّمان ، دون مبرّر وإنما إرضاءً لأهواء نفسية معيّنة أثناء الكتابة ،كما تمثّل هذا أيضاً في الإستطراد المبالغ فيه الذي نجده في القصّة حتى يصل الأمر بالمؤلّف في بعض الأحيان إلى إطلاق كلام لا طائل من ورائه، والذي يُفسد على القارئ متعةَ التتبّع أثناء القراءة.ولنضرب لذلك مثلاً سريعاً ، إنّه يقول في بداية الفصل الثاني: ” لقد عرفتُه في القاهرة قبل أن يذهب إلى  باريس، ثم أدركتُه في باريس بعد أن سبقني إليها” ، كان في إمكان الكاتب أن يحذف هذه العبارة السابقة ويبدأ بالعبارة التي تليها وهي: “..عرفته مصادفةً وكرهته كرهاً شديداً حيث لقيتُه لأوّل مرّة عندما كنّا في الجامعة المصرية القديمة “،وبهذا نظل نتطلع إلى معرفة ما لم نعرفه عن صاحبنا وصديقه بطريقة أكثر فنيّة، وأقلّ تقريراً ،كما في هذه الحال. الأمر الذي يطرح التساؤل التالي: ما الذي سيدفع القارئ إلى إكمال فصول الكتاب مادام الكاتب قد أغفل عنصرَ الإثارة والتشويق فيه ؟ وليس هذا هو المثال الوحيد في هذا الكتاب من هذا النوع، بل هناك عشرات الأمثلة ممّا يُضعف من قيمة العمل الأدبي،لأنّ الفنّ العظيم إتّسم دائماً بالطريقة اللاّمباشرة التي تخلق فينا تشوّقاً، وتطلّعاً نحو إستكناه المجهول، والكشف عن الخفيّ المستور،وإلّا فيمكن  القول بأنّ طه حسين إنما يكتب، أو يسترجع ذكرياته في غَمرةٍ من الفرح، والغبطة غير مبالٍ أو محتفلٍ بهذه الملاحظات التي لم تكن بخافيةٍ عنه دون شك. ولئن صحّت هذه الملاحظة الأخيرة أمكننا أن نعتبر هذا المؤلَّف من التراجم أو السّير الذاتية التي تتوارىَ خلف قناعٍ خفيّ لا يُزيحه المؤلِّفُ عن نفسه إلاّ بعد مشقّة وعناء ،وهذه الملاحظة في نظر النقاد هي الأقربُ إلى الصّواب من غيرها لأنه من العبث أن نحسب هذا العمل ذا قيمةٍ ما لم تنحصرقيمته في نطاق هذه الملاحظة الأخيرة، أيّ بإعتباره عملاً لا يسموإلى مرتبة أيِّ مؤلّفٍ آخر من أعمال طه حسين الأدبية مثل كتابه ” الأيّام”.

 

وتلك الأيّام..

يقول فتحي غانم :” إن طه حسين كثيراً ما يكتب على هواه غير عابئ وغير مرتبطٍ بهدفٍ ولا مسوقٍ إلى غاية سوى غاية الفنّ والجمال، ولكننا ما نكاد نفحص أعماله حتى نجدها صدًى لنفسه ،وما نفسه إلاّ إنعكاس لظروف بيئته ومجتمعه ” ! هل بلغ طه حسين هذا الهدف، وهل حقق هذه الغاية ؟ هل جاء كلّ ما كتبه فنّاً جميلاً؟ لا شك أن طه حسين كان ذا حظ كبير في الإطلاع على أسرار الجمال، والإستمتاع بسحر الفنّ ،ولكن ليس كل فنّ أو جمال سواء، بل غالباً ما  يكون هناك تفاوت بين أيّ فنّ وآخر،وهنا يبرز لنا سؤال آخر على هذا النحو: في أيّ مستوى يمكن أن ندرج هذا الفنّ ؟ لا شكّ أنه مستوى رفيع ، هذا في أعمال بعينها دون الأخرى، ف “الأيام” .. تلك الأيّام التي شكّلت سجلّاً حافلاً لا يفتأ المرءُ يقرأه المرّة تلو الأخرى من غير أن يملّ من قراءته، تلك المرآة الناصعة التي تتجلىّ لنا فيها صورة لا يعتريها صدأ ولا يكتنفها غموض هي إنعكاس لطه حسين نفسه في أوّل حياته وهو ضرير فقير،ذلك الصبيّ الشقيّ الذي كان يظلّ النّعل برجليه سنة أو ما قاربها ،والذي يقضي بقيّة العام حافياً ، ذلك الصبيّ الذي حفظ القرآن في التاسعة من عمره،والذي لا يرى في حفظ القرآن وتعليمه مخرجاً لما تتوق إليه نفسُه من حياة ليس فيها شظف الريف وفقرها المذقع،هذه الصّور المتعدّدة وسواها التي رسمها لنا طه حسين بريشة فنّان تحفل بأنبل المشاعروالأحاسيس، إن “الأيّام” تلك التي عاشها طه حسين والتي جاءت في كتابه هذا أيام من عمر طويل أو هي عمر من أيام قصيرة، لم تأت هذه المشاعر على هذه الصورة التي رأيناها عليها إلاّ لصدقٍ في الإنطباع، ولتألّمه وحسرته على تلك الأيام الخوالي التي مضت، وإنقضت ولم يبق منها سوى وميض الذكريات التي خشي عليها صاحبها من الضياع فسجّلها في هذا الكتاب،وإذا نحن نبشنا في أعماق هذه “الأيام” لنرى أين يكمن السرّ الذي جعلها ذات قيمة أدبية عظمى لألفيناه دون شكّ يكمن في صدق التعبير، وجمال التصوير ،وجماعية التجربة في فرديتها،وشفافية الأسلوب ورقّته،ونفاذه إلى القلوب دون جهد أو بعض عناء،كما يكمن السرّ في كونها جاءت صورة للطبقة المتوسّطة بفقرها وعجزها وجهلها القديم، وتصويراً دقيقاً للتقاليد العتيقة البالية التي كانت سائدة في عصر المؤلّف، والتي ذهبت بعينيه، وببصر العشرات من أمثاله،إذا كان هذا هو حال طه حسين في ” أيامه”، فماذا عنه في “أديب” ؟ ذلك الذي كان يرى في أوربّا عامة، وفي فرنسا خاصة منقذته، وكلّ بغيته ومُناه، وما أن أدركها حتى جنّ جُنونُه..!

– يتبع –

***

(*) كاتب من المغرب/عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- – كولومبيا- .

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *