طبعة جديدة من “المقدّمة في فلسفة الدين” لـ أديب صعب

Views: 1140

 

*د. صعب: الدين الطبيعي أو الفطري أو العقلي هو الأساس لقبول الدين الموحى.

  لو لم يكن الدين بمعناه العامّ مبرَّراً فلا يمكن تبرير هذا الدين أو ذاك*

 

تَصدر هذا الأُسبوع طبعة جديدة من “المقدمة في فلسفة الدين” للدكتور أديب صعب عن دار النهار للنشر. وهو الكتاب الأول الذي تنشره الدار البيروتية الشهيرة في انطلاقتها الجديدة. وللمؤلف، الذي أطلق عليه مؤسس دار النهار غسان تويني لقب “فيلسوف النهار”، خمسة كتب متكاملة في فلسفة الدين صدرت عن الدار نفسها بين 1983 و2015: “الدين والمجتمع” (1983)، “الأديان الحية” (1993)، “المقدمة في فلسفة الدين” (1994)، “وحدة في التنوع” (2003)، “دراسات نقدية في فلسفة الدين” (2015)، إضافةً إلى كتب في النقد الثقافي، منها “هموم حضارية” (2006)، ومجموعات شعرية، آخرها “حيث ينبع الكلام” (2019).

الكتاب الحالي، “المقدمة في فلسفة الدين”، هو الكتاب الذي أَدخل فلسفة الدين إلى الثقافة العربية المعاصرة. وهو مرجع فلسفي رئيسي تعتمده أقسام الفلسفة في الجامعات العربية.

 

دكتور أديب صعب

 

هنا مقدمة أديب صعب للطبعة الأُولى من كتابه:      

   اعتاد بعض المؤلفين أن يستهلّوا كتبهم بفصلٍ يتناول تحديد موضوع دراستهم. فإذا كان الكتاب عن فلسفة الدين، راحوا يتحرّون نشوء هذا العلم كموضوع أكاديمي قائم في ذاته، ويستعرضون التحديدات المختلفة التي أعطاها الدارسون لفلسفة الدين قبل أن يَخرج الواحد منهم بتعريف خاص أو يتبنّى موقف سواه في هذا المجال. ربما انطوت هذه الطريقة على عناصر إيجابية. لكننا لن نفعل شيئاً من هذا القبيل، لأنّ هدف كتابنا ليس البحث عن تاريخ فلسفة الدين كموضوع مستقل، بل الوصول إلى ما يمكن أن يسمَّى فلسفة دين متكاملة. إنه كتاب فلسفي منهجي، لا كتاب تاريخي، علماً أنه ليس من فصل مطلق بين الطريقتين. ففي تاريخ الفلسفة تُعرَض أفكار الفلاسفة، مع دراسة الظروف المختلفة التي أثّرت في نشوئها. وفي الدراسة المنهجية للفلسفة – للميتافيزيق، مثلاً، أو نظرية المعرفة أو الفلسفة الخُلقية أو فلسفة السياسة أو فلسفة الفن – يمكن طرح الموضوع في إطاره التاريخي.

   إنّ فلسفة الدين، وأيّ فلسفة، قديمة قِدَم التفكير الانساني. وإذا عدنا إلى محاورات أفلاطون، وهي أقدم التدوينات الفلسفية اللائقة التي بلغتنا، لوجدناها زاخرة بفلسفة الدين. وربما أمكننا اعتبارها فلسفة دين أولاً، لأنّ الفكرة المحورية التي تقوم عليها فلسفة أفلاطون كلها هي ما يسمّى نظرية المثُل، وهي نظرة روحية أو دينية بامتياز.

   لكن من حق الذي تواجهه عبارة “فلسفة الدين” أن يَسأل عن معناها. الجواب الأول الذي قد يتبادر إلى الذهن هو أنّ فلسفة الدين هي ما قاله الفلاسفة، خلال التاريخ، عن الدين. لذلك كان الفصل الثاني من هذا الكتاب استعراضاً لأهمّ ما قاله الفلاسفة عن الدين. وبما أنّ ما قاله هؤلاء عن الدين يشكّل جزءاً كبيراً، بل لعلّه الأكبر، من فلسفتهم، فإنّ هذا الفصل يغدو عرضاً موجَزاً لتاريخ الفلسفة.

   سؤالٌ آخر تثيره عبارة “فلسفة الدين”، هو: فلسفة أيّ دين؟ ثمة أسئلة كبيرة، أساسية، جوهرية يطرحها كل إنسان في حياته. وإذا كان بعضهم يطرح هذه الأسئلة على نحو دائم وملحّ، فالراجح أنّ كل فرد يطرحها في وقت أو آخر وعلى نحو أو آخر. هذه الأسئلة هي من النوع الآتي: من أين أتيتُ؟ كيف جاء كل شيء إلى الوجود؟ ماذا يحصل بعد الموت؟ ما هدف الحياة ومعناها؟ هل هناك ثواب وعقاب في حياة ثانية؟ ما الذي يفسّر وجود الشر في العالم؟

   هذه الأسئلة وما شابهها يطرحها الناس على اختلاف عقائدهم الدينية، ومهما كان موقفهم من مسألة وجود الله. وهي أسئلة دينية لأنها متعلقة بأصل الحياة ومصيرها ومعناها وبكل الشؤون الأساسية، الأُولى والأخيرة، في الوجود. هذا يعني أنّ لكل فرد دينه “الطبيعي”، أي الفطري، أي العقلي، الذي ينشأ بعيداً عن عقائد هذا الدين الموحى أو ذاك وباستقلال عنها وإلى جانبها أحياناً. وما يسمّى فلسفة الدين هو، أولاً، فلسفة هذا الدين الطبيعي. وتعترف أديان الوحي بهذا الدين، بل تعتبره نقطة ارتكاز لها. فتقول المسيحية، على لسان بولس الرسول، إنّ الأُمم التي لا ناموس لها هي ناموسٌ لنفسها، لأنّ الله حفرَ قوانينه في صدور الناس جميعاً. ويذهب الاسلام إلى القول بدين الفطرة، أي إلى أنّ الانسان مفطورٌ على الدين أو على معرفة الله. ومما يتبع من هذا أنّ الدين الطبيعي أساس لقبول الدين الموحى.

   فلسفة الدين هي أيضاً فلسفة الأديان، من ناحية العناصر المشتركة بينها. هذه العناصر، كما تَوصّلنا إليها في كتابنا “الأديان الحية”، مستمَدّة من دراسة الأديان الرئيسية السائدة في العالم اليوم وبعض أديان العالم القديم التي تركت أثراً في الأديان الحية. هذه العناصر، التي شَكّلت خلاصة الكتاب السابق، تشكل مقدمة الكتاب الحالي. ونحن نعرضها جواباً عن سؤالنا حول ماهية الدين. فالدين الذي نحاول إرساء فلسفة له هو الدين الطبيعي، وهو أديان الوَحي في عناصرها المشتركة. من هنا كانت دراسة تاريخ الأديان شرطاً لفلسفة الدين. وكما لا يجوز نسج فلسفة للعلم من دون معرفة لائقة لتاريخ العلوم وطريقة عملها، ولا فلسفة للفن بانفصال عن معرفة بعض الفنون في تاريخها وطرائق تعبيرها، ولا فلسفة للسياسة بعيداً عن معرفة تاريخ عدد من المجتمعات وأنظمة الحكم في العالم، هكذا لا يجوز نسج فلسفة للدين لا تأخذ في الاعتبار ماهية الدين انطلاقاً مما فعله الناس ويفعلونه تحت اسم الدين.

   وتجدر الاشارة إلى أن الفصلين الأول والثاني من هذا الكتاب مدخل ضروري إلى الفصول المنهجية اللاحقة. فالفصل الأول يحدد ماهية الدين جواباً عن تساؤل يطرحه العديد ممن تواجههم عبارة “فلسفة الدين” للمرة الأُولى، وهو: “فلسفة أيّ دين؟”. والفصل الثاني يستعرض أبرز ما خلّفه الفلاسفة من آراء عن الدين خلال تاريخ الفلسفة، تأكيداً على ارتباط الفلسفة الوثيق بتاريخها وكذلك على الارتباط الوثيق بين الفلسفة والدين، وعلى أن ما اختبره سوانا في الحياة والفكر يُغْني خبرتنا ويمنحها سنداً قوياً. لكن الكتب الشائعة في فلسفة الدين تخلو من فصول كهذين الفصلين.

   وإذا كان أبسط تحديد لفلسفة الدين هو التحديد التاريخي القائم على ما كتبه الفلاسفة عن الدين، فهو يَخدم أساساً للتحديد المنهجي، إذ يمكن أن نتعرّف على طبيعة الفلسفة عن طريق استعراض أفكار الفلاسفة. هكذا نَعرف أن لكل نشاط إنساني فلسفته. فهناك العلم وفلسفة العلم، السياسة وفلسفة السياسة، الفن وفلسفة الفن، وكذلك الدين وفلسفة الدين. إن فلسفة الدين تَطرح حول الدين أسئلة من النوع الآتي: ما هو الدين؟ لماذا الدين؟ ما العلاقة بين الدين والنشاطات الأُخرى كالعلم والفن والسياسة؟ هل ثمة تَعارُض حقيقي بين العلم والدين؟

   بِتَحَرّيها أجوبةً عن أسئلة كهذه، لا تكرِّر الفلسفة عمل الدين (أو أيّ نشاط آخر) ولا تحل محله ولا تهدده. لكنها تحاول أن تحدد منطق الدين ونطاقه. فالدين نشاط عملي، في حين أن الفلسفة نشاط نظري. وقد أحسنَ العرب قديماً بقولهم إن الفلسفة “صناعة النظَر”. ولئن كان الدين سعياً إلى الاتحاد، إنْ جاز التعبير، بالله، فالفلسفة تحليلٌ لمفهوم الله ومفهوم الاتحاد. المرء قد يتمسك بما يبدو له الله: بالحضارة، مثلاً، أو المجتمع أو الجنس البشري، عن غير علم منه أحياناً، فيستعيض عن المطلق الحقيقي بما هو أقل منه. في أي حال، هذا لا يعني أن الفلاسفة معصومون عن الخطأ. فقد أخطأ بعضهم إذ نظر إلى الفلسفة على أنها أعلى، بمعنى، من الدين، قائلاً بأن الدين للعامة والفلسفة للخاصة. ودعا بعضُهم إلى إحلال الأخلاق محل الطقوس والاقتصار على معنى خُلقي للدين. والكتاب يعالج هذه الأُمور في مَواضعها.

 

“المقدّمة”، لا “مقدّمة”

   هذا عن الفلسفة والدين وفلسفة الدين. لكن لماذا الكتاب مقدمة؟ هل يعني هذا أنه مدخل بسيط أو موجز إلى الموضوع؟ كلا. إذا كانت فلسفة الدين في الفكر الغربي بدأت، حسب أقدمية النصوص التي وصلت إلينا، مع أفلاطون، فهي في الفكر العربي بدأت مع المعتزلة، لا بل مع الفرَق الدينية الأُولى التي عالجت، في ضوء العقل، مسائل مثل وجود الله وصفاته ورعايته الأصلح وحرية الارادة البشرية وما تستتبعه من مسؤولية وثواب وعقاب. وبلغت فلسفة الدين في اللغة العربية ذروتها مع الفارابي وابن سينا والغزالي في المشرق، وابن طفيل وابن رشد في المغرب. لكن التراث الفلسفي العربي ما لبث أن انقطع لانقطاع حرية الاعتقاد والتعبير، ولارتباط التفكير، وإنْ مؤمناً أحياناً، بالتكفير. وبتنا اليوم نحتاج إلى وصل ما انفصل في حياتنا الفكرية العربية، أي إلى بدايات تأسيسية جديدة. فهذا الكتاب مقدمة بمعنى أنه إحياء أو تأسيس أو إرساء لقواعد أساسية تقوم عليها فلسفة الدين. وهو يَطرح أكثر ما يمكن من مسائل تنتمي إلى هذا الحقل، ويعالجها في العمق، مع حس تاريخي قوي بالنسبة إلى الدين والفلسفة كليهما. ومن الطبيعي أن تبقى مسائل أُخرى خارجاً. لكننا نتمنى أن يكون الكتاب أرسى المنطق الملائم لمعالجتها.

   الكتاب أيضاً مقدمة بمعنى أساسي آخر. الفكر اليوم، في الغرب كما في أنحاء كثيرة من العالم، تهيمن عليه اتجاهات علمية ومادية. وما تزال الفلسفة التجريبية، كما ثبّت دعائمَها ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر، هي الفلسفة السائدة، سواءٌ مع ذرّية هيوم الفلسفية في العالم الأنكلوسكسوني أو مع بقية التيارات الفكرية المعاصرة الخاضعة للعلوم. إلا أن هذا النوع من التجريبية يبقى قاصراً عن استيعاب تجارب كثيرة في حياتنا، شعورية وخُلقية ودينية. والواقع أن عدداً كبيراً من اللاهوتيين والمفكرين الدينيين تأثروا بتجريبية هيوم، فأخذوها من غير حس نقدي، ظناً أن كل فلسفة تتكلم باسم العلم والطريقة العلمية لا يمكن ردّها، واعتقاداً أنهم، بتبنّيهم إياها، يجارون روح العصر ويغدو فكرهم وعملهم أكثر إقناعاً في نظر الناس المعاصرين الذين استمدوا أفكارهم من المختبرات العلمية وآراء العلماء والفلاسفة المتأثرين بهم. لقد جارى هؤلاء المفكرون الدينيون تجريبية هيوم إلى الحد الذي بلغته، لكنهم دعوا إلى الذهاب أبعد منها لأن هناك ما يتجاوز العقل في حياتنا، وهو الايمان. إلا أن هذا الموقف ضعيف، وهو لا يخدم قضية العلم ولا قضية الدين. ولا بد من نقد تجريبية هيوم على نحو أكثر جذريةً. وهذا ما يحاول الكتاب الحالي فعله في أكثر فصوله.

   ولعل الفصل المحوَري هو الفصل الرابع الذي يحمل عنوان “الخبرة الدينية”. فهو يحاول تحديد نطاق الدين بالمقارنة بين مفهومين للخبرة الدينية: مفهوم ضيّق يحصر هذه الخبرة ببعض الأحداث الخاصة التي تحصل لبعض الأفراد، كالرؤى والظهورات والأصوات والعجائب، ومفهوم واسع قائم على اختبار الوجود كمعنى وقيمة، بحيث تغدو الخبرة الدينية كل ما يختبره المرء في حياته. أما الخبرات المفردة، التي قد تحصل وقد لا تحصل لهذا الفرد أو ذاك، فيجب أن تَخضع للمعنى الواسع وتستمد قيمتها منه.

   لكن لا يجوز نقد أي نظرية إلا بعد عرضها عرضاً حسناً، يفوق حتى عرض أصحابها لها دقةً ووضوحاً وقوةً. هكذا يعرض هذا الكتاب، في فصوله المنهجية التي يلي أحدُها الآخر وفق سياق منطقي طبيعي ومصمَّم في آنٍ معاً، المواقفَ البارزة من المسائل التي يعالجها، قبل أن يخرج بموقفه الخاص من كل منها. وهو، بهذا، يلبّي هدفين: (1) الاطّلاع على آراء الآخرين من مصادرها الأساسية، بحيث يخدم كمرجع دراسي لطالب الاختصاص في الفلسفة وللراغب في الاطّلاع على فلسفة الدين، و(2) هدف مناقشة هذه الآراء والخروج بموقف. فالكتاب يَصنع مناقشاته الفلسفية الخاصة. إنه يَطرح فلسفة للدين.

   هذه الفلسفة دفاع عن الدين. إن فلسفة أي نشاط إنساني هي، في أحد أبرز وجوهها، دفاع عن هذا النشاط. فلسفة العلم جواب، من بين أُمور أُخرى، عن سؤال: لماذا العلم؟ وفلسفة السياسة تُظهِر الحاجة إلى موضوعها بالبحث عن مبرر وجوده. وهكذا تفعل فلسفة أيّ موضوع. ويغدو الدفاع أعظم مهمة فلسفية، خصوصاً إذا كان الموضوع من نوع الفن أو الدين، أي إذا بدا للكثيرين غير حتمي ويمكن الاستغناء عنه. ولا بد، قبل الدفاع اللاهوتي عن هذا الدين أو ذاك، من الدفاع الفلسفي عن الدين في ذاته.

دفاع بدون مفاضلة

   بدون هذا الدفاع يبقى الدين خاضعاً لضربات قوية لن يستطيع، أحياناً كثيرة، صدّها أو التصدّي لها حسناً، كما تُدرَج بعض الممارسات تحت اسم الدين وهي لا تنتمي إلى جوهره. وإذا كان لنا أن نصف بكلمة واحدة وضع الفكر الديني اليوم، وربما الفكر عموماً، لما وجدنا كلمة تصيب الهدف أكثر من “البؤس”. إن المدافعين الدينيين التقليديين لم يلاحظوا بعد أن البساط سُحب من تحت أقدامهم حتى باتوا يشبهون مجموعة من الممثلين الذين يصرّون على تأدية دورهم المعهود فوق الخشبة وهم لا يدرون أن النظّارة غادرت المسرح. ومن النماذج الدفاعية التي تنتمي إلى القضايا الخاسرة محاولة تقديم هذا الدين أو ذاك لا كما هو في ذاته بل بالمقارنة مع بقية الأديان، أي بالمفاضلة بينه وبين الأديان الأُخرى. هكذا قد يبدأ أحد هؤلاء دفاعه بالقول إنّ الآخرين لا يؤمنون بالله، أما هو فيؤمن. وإذا أُوضِح له، بناءً على دراسة الأديان الأُخرى، أن الأمر ليس هكذا، نقل خطه الدفاعي الأول وقال إن الآخرين يؤمنون بآلهة عدة، فيما يؤمن هو بإله واحد. ولكن إذا أُظهِر له، انطلاقاً من الدراسة الموضوعية عينها، أن تلك الأديان توحيدية هي الأُخرى، على رغم ظاهر بعضها التعددي، لَبادَر إلى نقل خطه الدفاعي المُحدَث وأعلن أن إلهه يختلف عن إله الآخرين بكون هذا، مثلاً، “مبدأً فلسفياً مجرداً” وذاك “إلهاً شخصياً”. وإذا تبين أن ذوي الأديان الأُخرى يقيمون أيضاً علاقة شخصية مع إله حي تتجلى في رفع الصلاة إليه، حاول أن يلوذ هذه المرة بإخراج دينه من نطاق الدين، بمعنى أن دينه هو يمتاز جوهرياً على سواه.

   إن الدفاع اللاهوتي عن هذا الدين أو ذاك يحتاج، كما قلنا، إلى دفاع فلسفي عن الدين في ذاته، أي عن مبرر وجود الدين. هكذا تغدو فلسفة الدين شرطاً للّاهوت. ثم إن الدفاع اللاهوتي يحصل على وجه أفضل إذا عَرضَ المدافع دينه هو من غير أن يتعرض لأديان الآخرين أو يفاضل بين الأديان. وسواءٌ أكان فلسفياً أم لاهوتياً، فالدفاع عن الدين يحتاج إلى مدافعين أشدّاء لا يضطرون إلى نقل خطوطهم الدفاعية كلما تلقّوا هجوماً لم تتِح لهم نقاط انطلاقهم الضعيفة أن يتوقعوه أو يصمدوا أمامه.

   لكن مَن يفيد من فلسفة الدين؟ لا شك أن الفيلسوف، كأي باحث أو عالِم أو دارس آخر، يقصد أن يفيد أكبر عدد ممكن من الناس من معرفته، على نحو مباشر أو غير مباشر. وفي هذا الكتاب كما في كتاباتي الفكرية كلها، أنطلق من موقعٍ اختصاصي صارم، لكني أتوجه ليس إلى دارسي الفلسفة فحسب، بل إلى ذوي الأنظمة الفكرية الأُخرى أيضاً وطلاب الثقافة عموماً. فأنا أكتب الفلسفة على أبسط وجه يسمح به الموضوع، مع الحرص على عدم تبسيط الأُمور فوق ما تحتمل. ولا قيمة للفلسفة، كما لأي نشاط فكري، إن لم تولد من أسئلة الناس وتُصنع لهم. وبما أن الدين ليس مسأله ثقافة مجردة بل هو مسألة حياة تعني كل إنسان، فإني أُخاطب كل إنسان، علماً أن عدد الذين يقرأُون الفلسفة خصوصاً ضئيل نسبياً. هذا يعني أني، كمؤلف، أُخاطب على نحو غير مباشر أُولئك الذين لن تبلغهم رسالة هذا الكتاب مباشرةً، أي عبر قادتهم، سواءٌ أكانوا معلّمين أم رعاة دينيين أم إعلاميين أم زعماء سياسيين. ولئن دعا أفلاطون قديماً إلى الحاكم – الفيلسوف، فلأنه أدرك أن الفلسفة وبقية أنظمة المعرفة، على رغم مخاطبتها الكل ودعوتها الكل دعوة واحدة، لا يُقبِل عليها ولا يتوغل إلى أعماقها إلا أصحاب العقول النيّرة. هؤلاء، في نظر أفلاطون، هم المؤهَّلون حقاً للقيادة. فالحكم من حق الحكيم وحده.

   يبقى التأكيد على أن اللاهوت يتناول ديناً معيناً ويحاول إيضاحه والدفاع عنه، فيما تنطلق فلسفة الدين من أسئلة الانسان الدينية الفطرية، وهي أسئلة مشتركة بين الأديان كلها ولا يختص بها دين دون سواه، وتحاول الدفاع عن الدين كدين، وليس عن دين بعينه. كلّا، فلسفة الدين ليست لاهوتاً. ولكن لا يمكن أن يقوم لاهوت بعيداً عن فلسفة الدين. إذ لو لم يكن الدين بمعناه العامّ مبرراً، فلا يمكن تبرير هذا الدين أو ذاك.            

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *