مداخلة د. مصطفى الحلوة في كتاب “بَرقعد” الرابطة الثقافية – طرابلس

Views: 73

د. مصطفى الحلوة 

رئيس الاتحاد الفلسفي العربي

 الأحد 2024/04/28

تمّوز الماضي، إذ كنت أتابع ندوة فكرية سياسية للطبيب اللبناني العالمي فيليب سالم، في متحف سرسق، تقدّم منّي د. محمد إقبال حرب، فحيّاني وعرّفني بنفسه، ولم أكن أعرفه قبلًا. وقد كانت واسطته إليّ الصديقة العزيزة كلود أبو شقرا. بلطفه المعهود طلب إليّ أن أقدّم الكتاب الذي ننتدي حوله اليوم. وعلى جاري عادتي، وافقت من فوري، بعد أن أحاطني عِلمًا بكتابه المتفرّد.

هكذا من شمسطار البقاع إلى فيحاء الشمال انعقد ودّ، و”ركبت كيمياء” بيننا نحن الإثنين. وقد سُعدت أُقارب كتابًا نوعيًا، لا يشبه عشرات المؤلفات التي أجريت لها مراجعات نقديّة، وهي تتربع سعيدة في مؤلفاتي النقدية.

“برقعد” عنوان يثير فضول القارئ (أو الناقد)، فيغريه بقراءته، وهذه أولى علامات الجذب إلى ملعب الكاتب والكتاب. وقد نجح الكاتب حرب، إذ أبقى العنوان ورقة، مستورة، حتى آخر كلمة من مؤلفه، ليغدو هذا العنوان حصيلة مزج بين كلمتين: “برق ورعد”.

وعن عملية الجذب الأخرى، فهي تتمثّل في النوع الأدبي الذي لجأ إليه الكاتب، متمثّلًا بفن الخواطر، فكانت مائة وثلاث وستّون خاطرة، ولتترجح هذه الخواطر طولًا بين سطر وثلاثة اسطر، تعبُرُ إلى القارئ مسرعة، كما برق ورعد.

وعن عملية جذب أخرى، فإن القارئ ليس ملزمًا بقراءة الكتاب، وفق تدرّج تعاقبي، إذ لا صلة وثيقةً بين خاطرة وأخرى، فيتخّير من صفحاته ما يقع عليه نظره من خواطر.

ورابع عمليات الإغراء والجذب “البرقعدية”، وهي أهمّها أن الكتاب قليلةٌ صفحاته، ولكن كما يُقال، فعله كبير، بل ذو خطر!

ما يُختص بالمسألة الأخيرة، التزم الكاتب ما وصّى به أبو عثمان الجاحظ، إذ يقول “خير الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره ومعناه في ظاهر لفظه”. وقديمًا قالت العرب “خير الكلام ما قلّ ودلّ ولم يُملّ”

هذه الكتاب “برقعد”، إذ يحفل كما أسلفنا بمائة وثلاث وستّين خاطرة، فإن كل واحدة منها تحكي قضيّة، وتبعث رسالة إلى القارئ، فتبصّره بواقع حاله وحال المجتمع الذي يعيش فيه، كما تأخذه إلى أماكن قصيّة، خارج الواقع الذي يأنس فيه.

وإذا كانت غالبية الخواطر التي أتانا بها الكاتب لا تحتاج إلى إعمال فكرٍ لاتسّمها باوضوح، فقد ألغز في بعض منها، مما يجعلها حمّالة أوجه، فيروح كل قارئ إلى تمثيلها، انطلاقًا من خلفيته الفكرية، أو من خلال نظرة، قد توافق ونظرة الكاتب أو تُجانبها.

وإذ اتّسم الكتاب بـ “كشكولية” خواطره وتغيُّر مساراتها، وعلى طريقة طريقة “من كل واد خاطرة” ففي ذلك ما يربك الناقد، فيحار من أين يبدأ وأيّان ينتهي.

من هنا، لدوافع متهجية، رُحنا في مقاربتنا إلى ادراج الخزاطر المشابهة، والتي تتكامل مع بعضها بعضًا، في “رُزمٍ” أي مجموعات ، فتحصّل لنا خمس وأربعون رُزمة ، بل خمسة واربعون عنوانًا، وهاكم بعض بعض هذه العناوين/ القضايا; طهارة القلب ونقاء السريرة/ الغَدر واللصوصية/ نبذ تقديس الماضي والوقوع في العقلية الغيبية/ الإنسان عدو الإنسان/  دعوة إلى التّملي من ملذات الحياة/ في التخلّف والتقدّم/ التكنولوجيا واستعباد الإنسان/ ظلمُ الدهر والحكّام/ لا حياة للرجل من دون المرأة/  الحبّ حين يستحيل كراهية/  انقلاب المقاييس وازدواجية المعايير… الخ.

  • في عداد هذه الرُزم ، ثمة رُزمة تضم عشرين خاطرة، لامست حدود الحكمة الصِرفة، مما يعزز من أهمية هذا الكتاب على المستوى التهليمي والأخلاقي.
  • من مطلق منهجي، سهّل الكاتب علينا مقاربة مؤلفه، فكان أن اعتمدنا المنهج التحليلي الاحصائي، وذلك بترقيمه الخواطر، بحيث تُسهّل عودة القارئ إليها. وكي يكتسب ما خلصنا إليه من رُزم خواطرية صدقيته، استعرضنا بعضها، عل سبيل التمثيل لا الحصر.

لقد رُحنا إلى تمارين تطبيقية على مجموعة الرُزم / العناوين، لن نتوقف عندها لضيق المقام. وقد بلغت الخواطر / العينات التي عمدنا إلى تفكيكها وتحليلها اثنتين وأربعين خاطرة . وبذا استطعنا القبض على مجمل مفاصل الكتاب، وأحطنا به من جوانبه المختلفة.

وإِذْ تغلبُ السِمةُ التأمُّليةُ على الخواطر ، التي أتانا بها الكاتب حرب ، فهي أبعد ما تكون عن لغةِ الوعظ والإرشاد و الخطابيّة المنبريّة ، ويتحصّلُ منها عبرةٌ، بقليل كَلِمِها وكثيفِ معانيها !

لقد أدركَ الكاتب ، بثاقب نظره ، أن جمهور القرّاء اليوم ، لم يعُدْ لديهم ذلك النَفَس الطويل ، الذي كان لأسلافهم ، إذ يعكفون على قراءة المطوّلات، من روايات عالمية ومن دواوين شعرية ونتاج معرفي موسوعي … كلّ ذلك بتأثير من الإيقاع السريع للحياة المعاصرة ، حيث راح الزمن يضيقُ على البشرية . ناهيك عن تعقُّد الحياة ، القائمة على النمط الاستهلاكي القاتل . ففي ظلّ التطوّر المتسارع لوسائل التواصل الاجتماعي المتعدِّدة ، تبيَّن للكاتب حرب أن متتبِّعي صفحات هذه الوسائل تجذبهم النصوص القصيرة ، تجذبهم الصورة ، بمعزلٍ عن القيمة المعرفية لهذه النصوص .

من هنا يأتي هذا الكتاب “النوعي” ، بخواطره والتماعاته الفكرية الموجزة ، وذات الإيقاع السريع ليتواءمَ مع الثقافة المستجدّة، لدى أجيالنا الطالعة، فيروقُها هذا النوع من الكتابة.

مسألة هامّة تُشجّع أيضًا على تعاطي هذا النمط ، تتمثَّل في أنَّ كل خاطرة لا ترتبط بما قبلها ولا تتعلّق بما بعدها ، حتى أن هذه الكتاب “برقعد” ، يُمكنُ قراءته بالمقلوب ، أي بدءًا من الخاطرة 162 رجوعًا إلى الوراء ، ووصولاً إلى الخاطرة الأولى ، من دون أن يكون لهذا السلوك أيّ أثر سلبي على الكتاب! .

حتى أن المتضجِّر يُمكنُ أن يتصفّح الكتاب ، وينتقي ما يروقُ له من خاطرات، من دون اتّباع التسلسل ، على مستوى صفحاتِهِ. وإلى كلّ ذلك ، فالكتاب صغيرٌ حجمُهُ، لا يتعدّى ألفَي كلمة ، ولا يُغطّي سوى بضع عشرات من الصفحات ، فيما لو اعتُمدت الكتابة “المرصوصة” !

في هذا المجال يحضُرُني ما ذهب إليه أحد رجال الفكر ، إذْ يستهولُ ما يُضخُّ من آلاف المؤلفات ، سواءٌ في العالم العربي أو في سائر بلدان العالم ، فيقترح أن يعمد أيّ كاتب إلى الاكتفاء بعدة أسطر، تعريفًا بالفكرة الأساسية لكتابه، من دون المتن !

في مُطلق الأحوال ، إذْ نثمِّن هذا النتاج المعرفي للكاتب حرب ، ندعو بل نشجِّع المصابين بلوثة الكتابة أن يترسّموا خُطاه ، لما في ذلك من جليل فائدة ، لاسيما أن ثقافة القراءة / المطالعة باتت على المحك ، ويجب أن تواكب مُستجدّات العصر الراهن ، الذي غدت فيه الدنيا غير دُنيانا – نحنُ الجيل الآيل إلى أفول – فثمّة مُعطياتٌ ، على مستوى الكون ، تجيئنا بها العولمة “المتوحشة” ، و الذكاء الاصطناعي المربك ، الذي يستبطن من الفوائد بقدر ما قد يكتنز من المخاطر.. إنه العصر ، الذي يأتينا ، على مدار الساعة ، بالعجَب العُجاب!

وعلى غرار ما نختم به مراجعاتنا النقديّة للمؤلفات التي تستأثر باهتمامنا – وقد فعل هذا الكتاب فعلَهُ فينا – نُعلنُ بأنّ “برقعد” يستحقُّ أن يُقرأ ، يستحقُّّ أن نتدبّره بعنايةٍ ، فهو ينتمي إلى أدب الواقع ، أدب الحياة ، وكاتبهُ صاحبُ التزام وصاحبُ رسالة ، أرادَ أن يُبلّغِها ، وقد وصلتنا الرسالة!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *