يوسف عيد: “وشم على رئة الصباح”

Views: 319

جان توما

خرجَ يوسف عيد إلى الطبيعةِ ولم يَعُد. تجدُهُ في خريرِ ساقيةٍ تائهة، وفي انفجارِ الصبحِ عَابرَ شمسٍ، وإنْ وجدتَهُ ينزعُ الدبقَ عن الغصنِ ليقولَ: “رح حلفك بالغصن يا عصفور، بالورق بالفي بالنبعات، بالزيّح جناحك بريشة نور، بالمرجحك مع زرقة النسمات”.

يخرجُ يوسف عيد كالطفلِ إلى السهلِ المجاورِ، يعتمرُ قبعةَ قشٍّ، في يديه بذورُ زرعٍ، ليحلُمَ بِحَجَرِ البيدرِ، وغلالِ العمرِ الهاربِ كالماءِ من بين الأصابعِ. يخرجُ يوسف من معاجمِ اللغةِ إلى اللغةِ المحكيّة، كما في الواوي، وحبّات الأفوكا، وماء الزهر والورد، وعصير العنب، وخلّ التفاح، وزيت الزيتون، وشجرةِ التين وغيرِها، وهي من قواميسِ الأيامِ التي يجمعُ فيها الشاعرُ بين عناقيدِ عنبِ الثقافةِ، وبين ما ذهبَتْ إليه اللفظةُ اللاتينيةُ لها، وتعني الزراعة.

من قاموسِ الطبيعةِ يخرجُ يوسف عيد إلى قاموسِ الكلمات. بحرٌ من الألفاظِ الموحية، وعطرٌ من عيونِ ياسمينِ العربيةِ يفوحُ بين الصفحات، كما ورقُ الجلّنارِ يطوفُ على خدِّ الماء، كما تطوفُ شهرزادُ في ليالي الحكايات، فتُدخِلُ شهريارَ قمقمَ الأحلامِ إلى ألفِ عام. يلملمُ الشاعرُ ألفَ مجرّةٍ، يخبؤُهَا في جِرابِه، كما جِرابِ الراعي، فيه ألفُ دربٍ وألفُ سبيل، وفُتاتُ خبزٍ للعصافيرِ التائهةِ حبًّا. من يعرفُ التلالَ بزيِّ السماء، والأوديةَ بلباسِ الضبابِ، كيف تفوتُهُ جمالاتُ الكونِ، ورغبتُه في أن يعيدَ صياغتَهُ من جديد؟

إذا خرجَ يوسف عيد إلى الطبيعةِ، فلكي تدخلَ عينيه وشرايينَه. دروبُ الريفِ ملجأُه، والقادومياتُ مسعى روحِهِ، ولألىءُ التوتِ السودِ على الأسوارِ العتيقةِ يأتيها، لتتركَ آثارَهُ على أصابعِهِ، ليتذكّرَ شيطنةَ طفولتِهِ، وجنباتِ ضَفَةِ النهرِ العتيق. هناك اشتهى، كما نشتهي، أنْ يَغْسِلَ رجليه بالماءِ الجاري، لربّما يوقِفُ جَريانَ الأيامِ، وسرعةَ العمرِ الراكضَ لاهثًا وراءَ السراب.

د. جان توما ملقيًا كلمته

 

“وشمٌ على رئةِ الصباحِ”. ولماذا ليسَ على القلبِ؟ ولماذا الصباحُ وليس الليلُ؟ إنَّ دعوةَ الشاعرِ واضحةٌ أنْ قوموا إلى صباح ِالعمرِ، إلى حيثُ النسيمُ اللطيفُ، ينعشُ الرئةَ والقلبَ والشرايين، قبلَ استيقاظِ أهلِ السياسةِ، وقبلَ بَدءِ تصاريحِهِم، وارتفاعِ الضغطِ والقلقِ والاضطرابِ والتوترِ، لذا هذا الكتابُ هو حكايةُ الصباحِ البريء، كرامةُ الحياةِ، ظِلُّ الأزلِ، وعروسُ النور. هذا كتابُ طبيعةٍ تَفُكُّ حرفَهُ وأبجديتَهُ، فيما لا تفهمُ حرفًا من كتابِ السياسةِ التي هرب منها الشاعرُ إلى الأحبةِ، ” وما صباحُ الأحبةِ غيرَ وشمٍ في سِفْرِ القمر، وما سِفْرُ القمرِ غيرَ وَشْمٍ في سطورِ الدهر”.

نسيَ الشاعرُ الأرقامَ الواقفةَ كالصخرِ العتيق، واستبدلَها بتعدادِ أسماءِ الشهورِ، فلكلِّ شهرٍ لونٌ وحكاية، ولكلِّ اسمٍ شهريٍّ اسطورةٌ تختصرُ التاريخَ، بأبطالِهِ وخيالاتِهِ، ببساطِ الريحِ، وفانوسِ علاءِ الدين، بتلكَ الليالي المقمراتِ، حيثُ يطلعُ الفجرُ مع تثاؤبِ عريشةِ البيتِ، وعينيّ الحبيبةِ، وصدى موالٍ حزينٍ لمسافرٍ قبلَ الضوءِ إلى أرضِ اللهِ الواسعة.

يقفُ الشاعرُ عندَ مصطبةِ الصباح، يكرّرُ صلاةَ صباحِهِ، كما تتلو العجوزُ المنسيّةُ في بيتِها العتيقِ مزاميرَها، فالله تعالى هو “مكوكبُ الصبحِ”، و”فالقُ الإصباحِ”، و”نورُهُ كمِشكاةٍ فيها مصباحُ المِصْبَاحِ”، فعن أيّ صباح ٍيتكلّمُ شاعرُنا؟ هو يتحدّثُ عن ذاكَ الصباحِ الذي ” كلَّ يومٍ يؤدّي صلاتَهُ لشمسِ الحياةِ، ويشكرُ لها نعمتَها، ويستقبلُ حبرَها المندلقِ على صفحاتِهِ، فترنو الأعشابُ، وترفعُ رأسَها، وتشكو الصخورُ حنينَها، وتمسحُ رؤوسُ الأشجاِر دموعَها، وتبدأُ العصافيرُ عرسَها، عندئذ يحلو للشاعرِ أنْ” أبدأَ صلاتي ولا أنتهي منها”.

هذا الكتابُ عرزالٌ تهفو إليه المشاعرُ. تشتاقُ الروحُ إلى سكينةِ الصباحِ، وهدأةِ النفسِ، واستراحةِ المتعَبينَ، والموجوعينَ، والجائعينَ إلى كلمةِ الحياة. هذا كتابٌ ينزِلُ وشمًا في الكيان، يُحيلُ المساءَ صباحًا، والليلَ فجرًا، والحزنَ فرحًا، والغمامَ ندىً، والقصيدةَ عطرا. هذا كتابُ صلاةٍ في صباحِ الصباحِ، وتمتمةِ الشفاهِ: “هذا الصباحُ هَدَلَتْ فيه الأرواحُ

كيماماتٍ غريبةٍ.

وكما شفَّ النورُ إلى البهاء،

شفَّ الشوقُ إلى الأحبابِ،

والدنيا الحبيبة.( ص 148)

***

*مداخلة مساء الثلاثاء 14 حزيران 2022- في معرض الكتاب ال48 في الرابطة الثقافية- طرابلس

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *