قصص الديمقراطية

Views: 329

د. قصي الحسين

 (أستاذ في الجامعة اللبنانية)

 

إحدى بدائه “الديمقراطية التعبيرية أو التنظيرية”، أن يعود بها منظروها، لإلتماس بعض ما يتيسر لهم من قصصها القديم. ففي ذلك تدعيم لوجهاتهم المختلفة في “سرد الديمقراطية” مرتين إثنتين:

1- المرة الأولى لدى القدماء الذين صرفوا وقتهم كله في سرد قصص إنتاج السلطات “المعجبة” في بلدانهم. وكانوا في ذلك محط إعجاب من الناس. ومن الجمهور. ومن الجماهير. لأنهم رأوا في سلطانهم، تطبيقا حياتيا للمثل العليا في “الديمقراطية” و السلطة وشؤون الحكم.

 2- المرة الثانية، في مراجعة قصص الديمقراطيات الحديثة. تلك التي تحدث عنها منظرو عصر الأنوار. ثم عادوا وتوسعوا في شرحها في العصر الحديث. ثم جالوا في بحوثهم وسردياتهم و”قصصهم” عن الديمقراطية وتوسعوا فيها توسعة عظيمة، لا تخطر ببال. ونالوا بذلك شهادات من إخوانهم على سعة معلوماتهم. وعلى إغرابهم و”مبالغاتهم العذبة” في ذلك أحيانا. تلك التي تطيب لها النفوس. وتستعذبها السرديات المعاصرة في شؤون الديمقراطية وشجونها.

 لا يشذ عن هؤلاء،  الدكتور علي نعمة في كتابه: ” الديمقراطية التعبيرية في المفهومين القومي والإسلامي. فواصل للنشر. ط١. الفرات للنشر والتوزيع. بيروت- الحمرا- بناية رسامني. 2017.  390 ص . تقريبا.” فهو يقول في مقدمة كتابه الأثير- “ص٧ و٨”:

( أردت في هذا الكتاب، تعريف القارئ العربي.. بالآليات التي تربط معطيات الإجتماع السكاني للبشر  وتحدد حراكهم الإجتماعي السياسي… وتضبط تطوره نحو تشكيل السلطة فيه…ولما كانت شعوب العالم العربي وأممه وأقوامه وقبائله ومجتمعاته المتعددة والمتنوعة، قد عاشت أربعة عشر قرنا.. في ظل فكر الحضارات الإسلامية- العربية المشتركة… أردت في هذا الكتاب، أن يكون إطلالة توضح الشان السياسي والإجتماعي..  لذا كان من الطبيعي والمنطقي، عند طرح موضوع الديمقراطية وتطبيقاتها في العالم العربي، أن نفكر بمعالجة مفاهيمها وقيمها ومضامينها وغاياتها…لخدمة الغرض القومي بواسطة المعرفة…”ل” نشر الفائدة.)

 أحد الأسئلة التي تلح في هذا المجال بعد قراءة هذا الخطاب للدكتور علي نعمة، هو لماذا لا نرى نظائر لكبار فلاسفة وعلماء عصر العقلنة و التنوير، في أيامنا هذة. لا نقصد حتما، من هذا السؤال، القول بعدم وجود فلاسفة أو علماء رفيعي الشأن في عصرنا، ممن يمثلون رفعة أسلافهم القدماء. لكن المقصود، هو أنه لم نعد نشهد الشخصيات التي تمتلك إمكانيات معرفية عابرة للحدود، وخارقة في مدياتها، حتى نقول بوجود شخصية ثقافية، لها توجهات معرفية عميقة، في إهاب شخصية واحدة، مثل الغزالي أو مثل إبن رشد، أم مثل سبينوزا، أو مثل نيوتن، أو مثل آخرين رهنوا حياتهم للعلم والمعرفة وتقصوا أدق الأحكام في “حسن” أو “سوء” قراءة الديمقراطيات التي سادت المجتمعات الإنسانية، قديما وحديثا.

الدكتور علي نعمة،  كما يبدو لنا، القارئ الفرد، الذي عقلن كتاباته، كونه كان تواقا للترحل في غابات المعرفة، في عصر التفجر المعلوماتي الرهيب، الذي إستوجب منه، قراءة متأنية لسيادة فكرة التخصص، في الديمقراطية التعبيرية، أو قل الديمقراطية التنظيرية، التي فلسفت عناوين حياتنا السياسية المعاصرة. فجمع قصصها من كتب القدماء وقارنها بكتب النهضويين في عصر الأنوار.

 تصدى سعادة الدكتور علي نعمة، وهو باحث أصيل لنمط العابرين إلى التخصصات التي تلقى قبولا متزايدا في الدوائر الأكاديمية والعامة. حقق بذلك إنتصارات كبرى في عالم غارق في التخصص. حتى صار عمله التخصصي العابر لعمله كطبيب، بمثابة موجدي حلول لمشكلات باتت تشتبك مع وجودنا الحيوي في مجتمعاتنا الإنسانية والسياسية.

قد يكون د. علي نعمة، من هؤلاء “المتخصصين” الذين ضاقت صدورهم بنطاق مهنهم أو تخصصاتهم العملاتية، لوقت طويل. لذا نراه يفرد جزءا من وقته للبحث والإستكشاف والإستطلاع، في قصص الديمقراطية العذب.  تلك التي أسماها “الديمقراطية التعبيرية”. وأنا أشرحها ب”الديمقراطية التنظيرية”، قياسا على الديمقراطية التطبيقية، التي نعاني منها الأمرين.

الدكتور علي نعمة هو من طبقة  هؤلاء الذين يوصفون في الأدبيات الحديثة، بأنهم عابرون للتخصصات- Generalists. وأما تعريفهم الدقيق: هم الناس الذين يجدون ولعا طاغيا وشغفا لا حدود له في إستكشاف نطاقات معرفية مختلفة وإكتشاف روابط خفية بينها. وهم لا يطيقون المكوث في ساحة معرفية واحدة.

 الدكتور علي نعمة، تتبع قصص الديمقراطية العذب إذا، بكل شغف، زيادة على عمله العيادي كطبيب. فجال في كتابه، وعلى مدى جزأين، و 17، فصلا، في كتابة عمل متكامل الجوانب، يعجز المتخصصون عنه.

قدم في الجزء الأول، مقاربات وحيثيات للديمقراطية التعبيرية أولا بأول. ثم راح يتابع أنواع الكيان السياسي وعلاقة مكوناته بالسلطة. لينتقل في الفصل الثالث للحديث بإسهاب عن الديمقراطية، من حيث النشوء والأسباب والموجبات والمواصفات والغايات. كذلك تحدث في الفصل الرابع عن بناء الديمقراطية ودور الثقافات الإنسانية الإيجابية فيها. وكذلك عن دور ممارسة الديمقراطية على مستوى الدولة والمجتمع. وأفرد فصلا خاصا للرقابة الضامنة والضابطة للديمقراطية.

 أما في الجزء الثاني من كتابه، فقد جعل منه بحثا مقارنا بين الديمقراطية الغربية والديمقراطية الإسلامية التراثية. كذلك باشر في توضيح القيم والمضامين في الإسلام التي تؤسس لبناء فكر المجتمع الديمقراطي. كما تحدث عن أبواب تكريم الإنسان ورعايته وهدايته. وعن منظومة الحرية في الإسلام وقيمها الإسلامية، وعن منظومة الحوار في الإسلام ومنظومة السلام في الإسلام ومنظومة العلم والمعرفة في الإسلام.

وأما في الفصول المتأخرة من كتابه القيم عن الديمقراطية التعبيرية، فإن الدكتور علي نعمة، يفرد لنا بحوثا قيمة عن الرحمة ومضامينها في الإسلام وفي المجتمع الإسلامي. كذلك يتحدث عن إشكالية العلاقات بين الفعاليات التمثيلية في ظل السلطة الديمقراطية. وعن إشكاليات الصراع الفئوي في ظل الديمقراطية التعبيرية.

 وفي الفصلين الأخيرين، تحدث الباحث الحصيف، عن منحى الإستبداد السياسي في مواجهة الديمقراطية التعبيرية. وهو بحث شيق للغاية ثم ختم في الفصل السابع عشر، فقال تحت عنوان: “ما قل ودل”:

 “في هذا الكتاب حديث عن نشوء المجتمعات السكانية وتكون المتحدات الإجتماعية…

وأن الديمقراطية ضرورية لتكون النظام الإجتماعي السياسي…” إذ بذلك “يتنفس من خلالها المواطنون في المجتمع نسيم الحرية العليل والوجود الكريم.”

لكن لنكن دقيقين ومحددين في توصيف البحث:  فإن الدكتور علي نعمة، ككثيرين مثله، إنما يجد لذة في بعض القراءات المغايرة لسياق تخصصه. غير أن هذا لا يعني أنه صار من جماعة العابرين للتخصصات. فما يميز هؤلاء هو الشغف الطاغي والعمل المثابر الذي لا يعرف النكوص والتراخي، والإنكباب على قراءات معرفية دقيقة. وجمع قصص عنها. والسؤال: هل يمكن لأحدنا، أن يكون من طبقة هؤلاء العابرين للتخصصات. ؟

فمن يتعرف على الدكتور علي نعمة، ويتابع شغفه الثقافي والفلسفي والفكري، إنما يعود إلى سؤالنا حتما. لأن الجواب عن “بيت القصيد” في ذلك، إنما يكمن في فلسفة ومنطق الدكتور علي نعمة، وفي جميع مواقفه الفكرية والدينية والثقافية، في الحياة الإنسانية، كما في الحياة السياسية. وكذلك الإستمتاع بقصص التراث عن سؤال الديمقراطية التعبيرية، كما الأستمتاع بقصص النهضة والحداثة عن الديمقراطيات التعبيرية المعاصرة. و”حسن السؤال نصف العلم”، على حد قول العلماء والمحدثين. وقد أحسن الدكتور علي نعمة السؤال عن الديمقراطية التعبيرية، وأجاد في الجواب عليه.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *