الأسئلة الروائية

Views: 455

د. قصي الحسين

(أستاذ في الجامعة اللبنانية)

النقص الوحيد الذي يمكن أن نقول عنه إنه يعتري كتاب الناقد الأستاذ غسان صليبي  “نساء يواجهن الظلم. دار نلسن. بيروت. ط١. 2022: 200ص. تقريبا”. أقول هو أن هذا النقص إنما يعتريعه، لأنه لم يكتب على شكل رواية.

كان يمكن للكاتب، أن يجعله في صيغة رواية شيقة. ذلك لأن كل العناصر الروائية، إنما يشتمل عليها أصلا.  كان يعوزه إذا الحبكة الروائية. السرد الروائي. كانت تعوزه الأدوار، والأبطال. كان يعوزه الجدل الروائي. والجدل الزمني. والجدل الواقعي والمتخيل. كانت تعوزه وحدة الأمكنة ووحدة الأزمنة والوحدة النفسية. كان يعزه النفس القصصي.

 الأستاذ غسان صليبي، جعل كل ذلك وراء ظهره عن قصد. تقصده، لأنه أراد أن يسلط الأضواء على المشاكل والقضايا والمسائل النسوية، والأدب المحض، عارية بلا تزيين، ولا تعطيل، ولا توقف. وحتما، بلا إضاعة للوقت.  نستمع إليه يروي، تحت عنوان: ” في أن المرأة، هي أم الصبي- ص٣٠”:

 (قد تكون مقولة “أم الصبي”، مستوحاة من حكاية الملك سليمان الحكيم، الذي حكم بإعطاء الصبي إلى الأم، التي رفضت شطر الصبي شطرين. وذلك حرصا منها على حياة إبنها حتى ولو أخذته إمرأة أخرى.)

 ذهب الناقد النقابي وكذلك الناقد الإجتماعي، الأستاذ غسان صليبي، وهو عريق في “مهنة الصعوبات”، إلى لب الموضوع. عرضه عرضا واقعيا. جعل الواقعية فيه، رافعة للأدب النقدي النقابي- المتخصص، ورافعة للنقد الإجتماعي كذلك. وهذا الخيار الذي إختاره، منحه الكثير من الحرية، إن في سرد الموضوعات التي سلط الأضواء عليها، أو في تسلسلها وإنتظامها في كتابه الأثير.  وفي ذلك توفير للجهد وتوفير للوقت، وتوقير وتكليف للقارئ، الذي يريد الإطلاع على الحوادث النسائية، وعلى “المايحدث” لهن يوميا، وفي أمكنة مختلفة من عالم حوادث النساء وحادثاتهن، تحت وطأة الرجال. والذين هم في أصل المشكلات لهن، وفي أصل التبعات. نستمع إليه يروي تحت عنوان: “عاملة أثيوبية تسأل الله وتبكي- ص٦٥- ٧٠”:

( عندما أصلي ابكي/ قالت لي عاملة أثيوبية. / لماذ تبكين؟/ لأن الله، لا يجيب بسرعة على أسئلتي….

 عندما تسأل الله /عن سبب مرض أمها/ مزيج من الخوف منه/ ومن العتب على صمته الدائم.)

 

يطرح الناقد النقابي و الإعلامي،  العزيز الأستاذ غسان صليبي: الأسئلة النسوية الوجودية في كتابه، فتتحول على يديه البارعتين، إلى أسئلة روحانية،  روائية. حتى لكأنه يقدم لنا “الرواية المحض/ العارية”. وهو عمل نقدي فني ربما يكون أجمل، بل أصعب من العمل الروائي، لأنه يبني نجاحه على عري المشكلات وسخونتها. وكذا على عظم وعظمة الحقيقة، لا على زينتها. نستمع إليه يقول في ” خوادة المرأة السورية تنزح مجددا -ص٩٠”:

( خوادة/ إسم نازحة سورية/ رأيتها مرة واحدة، قبل أن تنزح مجددا هي وزوجها من لبنان إلى قبرص، في قارب تهريب، أو قارب الموت، رغم انها حامل في شهرها الثالث، وقد سبق وروحت جنينها في حملها السابق.)

في كتابه “الغربال”، حذر  الأديب المهجري،  ناقدنا الكبير ، الراحل الأستاذ مخائيل نعيمة، مما أسماه “نقيق الضفادع”، في الشعر والأدب. ذلك لأن “ضفادع الأدب” تشلنا شلا، بنقيقها، ومستنقعاتها وركودها. إنها تشل تطور العمل الأدبي و الإجتماعي والنقدي، بل تشل الوصول إلى الحقائق المجردة.

 حقا سوف يموت الأدب ويموت معه النقد، إذا ما إستمعنا إلى “نقيق الضفدع” في الأعمال الأدبية. وقد مل الأستاذ العزيز، غسان صليبي وغيره كثيرون، ممن ينحون نحوه، في العمل النقدي والادبي والتراثي، من الكتابة والكتاب، وذهبوا لعرض المشكلات النسائية وغير النسائية ، بأصوات أصحابها. لأن ذلك يجعلنا أكثر تماسا مع الواقع ومع الوقائع المجردة من الزينات الزائفة. يقول في ” نيته عاطلة ونيتها معطلة- ص١٣٩”:

 ( بين المزح والجد قالت له إن نيته عاطلة. وبين المزح والجد رد عليها أن نيتها معطلة…)

جعل الأستاذ غسان صليبي كتابه النقدي “نساء يواجهن الظلم”، في قسمين:

1- حكايات نساء يواجهن.

 2-  مقاربات جندرية.

  وقدم له بمقدمة وافية. وأفرد في ختامه سطورا للتعريف بشخصه/ شخص الكاتب، الغني عن التعريف.

وقد ظهر الكتاب بحلته العارية، وكأنه، ناظر، أو نقيب، يجمع إلى صدره أضابير وملفات، لكثير من المشكلات، ولكثير من القضايا العالقة في وجدانه، والتي ربما كانت عالقة أمام الهيئات المهتمة بمعالجتها، أو أمام المحاكم.

تتقاسم هذة الحكايات، كما هذة التأملات، الواقعة في نصوص مسرودة بدقة وبعناية فائقة، الأسئلة اليومية التي تسألها النساء.  والتجارب اليومية التي تقع للنساء. وكذلك الشتات والغربة والقهر والتعنيف. وكذا خبر الوعي بالذات، وخبر الأمومة، وضياع الأبناء، والتمزق في النوع وفي الهوية وفي الطائفة وفي الدين. وهي من خلال هذة الأسئلة،إنما تطرح ضمنا، محاولة التشافي من هذة الأمراض الإنسانية والنسوية والجندرية على حد سواء.

 يحاول الأستاذ العزيز غسان صليبي، أن يطرح من خلال نصوصه المجموعة، المحاولات الجادة التي تقول بالخلاص، وبالتحرر وبالوصول إلى “حديقة الحياة”، بمعزل عن العنف وأساليب الإضطهاد. إذ النصوص السردية بكل قصصها التي تبدو لنا كقطعة من العذاب، إنما هي محاولات تشي، بالمعاناة اليومية، من الواقع القاسي، ومن العزل ومن الحياة في الهامش. إذ لا بد من العمل على ألا تكون المرأة هامشا، طوال الوقت. نستمع إليه يقول في “الأمومة كقضية وطنية- ص١٦٣”:

( تتوجس الحركات النسائية في العالم وفي لبنان، من إعتبار الأمومة، قضية من قضاياها، لأن الفكر الذكوري المعادي للمساواة بين المرأ والرجل، يعمد إلى تقديس الأمومة من أجل حصر دور المرأة بعملية الإنجاب.)…

هذة “النصوص المجموعة”، للكاتب غسان صليبي، تدفعنا للتخلي عن أسلوب الكتابة من المخيلة. عن أسلوب الكتابة من الذاكرة. عن أسلوب الكتابة من خلال القراءات.  إنه الأسلوب الجديد، المعاين للوقائع بكل حرارتها. والمستمع للشهادات بآذان حادة كما يفعل كبير القضاة.

 من هنا نقول، إن غسان صليبي، إنما بدا لنا من خلال نصوصه النسوية المجموعة،  بمثابة محقق ومدقق معا. بمثابة روائي وقاض معا. إنه الكاتب الروائي الذي تخلى عن “المجاز”، نصرة ل”عري الحقيقة” القاتلة، كجثة في طريق.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *