قصة أغنية “أغدًا ألقاك” لأم كلثوم بين الحقيقة والخيال… شاعرها ذاب شوقًا ولحّنها عبد الوهاب في لبنان

Views: 3950

سليمان بختي

بعد نكسة حزيران عام 1967 قامت أم كلثوم بجولة للغناء في البلاد العربية والأوروبية يعود ريعها للمجهود الحربي.

في كانون الأول 1968 غنت أم كلثوم في الخرطوم، واستقبلها الشعب السوداني بحفاوة بالغة حتى أنها لبست الثوب التقليدي لنساء السودان، وصرحت أنها تعتبر أن بيوت السودانيين مثل بيوت المصريين. ومن فرط تأثرها بهذا الاستقبال الأسطوري وتلك العاطفة المتقدة وعدت بأن تغني قصيدة لشاعر سوداني. طلبت من الشاعر صالح جودت أن يزودها بقصائد لشعراء سودانيين لتختار منها. قدم لها صالح جودت عدة قصائد ولكن أعجبتها قصيدة عنوانها “الغد” من ديوان “كوخ الأشواق” للشاعر الهادي آدم (1927-2006).

ولد الهادي آدم في بلدة الهلالية القريبة من الخرطوم.

تلقى علومه الابتدائية والثانوية في السودان. ثم التحق بدار العلوم في القاهرة وتخرج منها مجازا في الأدب.

حصل على دبلوم في التربية من جامعة عين شمس والدكتوراه الفخرية من جامعة الزعيم الأزهري في السودان.

 

في شعر الهادي آدم رقة ورهافة وتمكن من العربية وأسرارها.

نشر ثلاثة دواوين “كوخ الأشواق” 1966 و”نوافذ العدم” و”عفوا أيها المستحيل”. ومسرحية شعرية بعنوان “سعاد” وله قصيدة جميلة بعنوان “لن يرحل النيل” وله قصيدة في رثاء عبد الناصر يقول في مطلعها :” أكذا تفارقنا بغير وداع/ يا قبلة الأبصار و الأسماع/ ماد الوجود وزلزلت أركانه/ لما نعاك الى العروبة ناع”.  

والحال أن هناك قصة تتعلق بقصيدة “الغد” التي أصبحت “أغدا ألقاك” تفيد بأن الهادي آدم هام عشقا بزميلة مصرية له من دفعته الجامعية. تقدم من اسرتها ليخطب ودها ويطلب يدها لكنه قوبل بالرفض. حزم أمتعته وغادر الى السودان مكسور الوجدان واعتكف بحزنه وشوقه الى حبيبته وكان يجلس كل مساء في ظلال شجرة يبثها همومه. جاءته رسالة من محبوبته من القاهرة بموافقة والدها على الزواج. عزم الشاعر على العودة الى القاهرة وسهر طوال الليل وسط مشاعر فرحته وفي ظلال تلك الشجرة كتب قصيدة “الغد” التي أصبحت “أغدا ألقاك”. لم يطلع الصباح عليه ولم يسافر الى القاهرة فقد أصيب بسكتة قلبية وقضى فيها. هكذا نسجت الأسطورة حكايتها.

أما القصة الحقيقية فهي أنه ذهب الى القاهرة وقابل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب الذي لحن القصيدة وأحمد رامي الذي اقترح بعض التعديلات. أعاد الهادي آدم بعض الصياغات في القصيدة مثل “يا لهفة فؤادي من غدي وأصبحت” يا خوف فؤادي من غدي”/ وأنا أخشي من غدي هذا أصبحت “آه كم أخشي غدي هذا وأرجوه أقترابا” وهكذا أستبطن العمر نعيما  وعذابا أصبحت” هكذا أحتمل العمر نعيما وعذابا”.

وأنت يا معبد صمتي وصلاتي وسكوني أصبحت “أنت يا قبلة روحي وإنطلاقي وشجوني”

واناديك ولكن نداءاتي دعاء أصبحت “كم أناديك وفي لحني حنين ودعاء” وغدا تصطخب الجنة أنهارا وظلا أصبحت “وغدا تأتلف الجنة أنهارا وظلا وغدا لا يعرف القلب لهذين محلا” أصبحت “وغدا نزهو فلا نعرف للغيب محلا “وأحييك لكن بفؤادي ليس إلا أصبحت “وغدا للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا”.

أصرت أم كلثوم على وضع الألف في عنوان الأغنية ليصبح “أغدا ألقاك”.

 

غنتها أم كلثوم لأول مرة عام 1971 على مسرح قصر النيل في القاهرة إذ تأجل الموعد لوفاة عبد الناصر عام 1970. و حرصت على دعوة الهادي آدم وحضوره. وعندما غنت له أم كلثوم هذه القصيدة لم يكن معروفا في الأوساط الأدبية.

ولكن كيف اتفقت أم كلثوم مع عبد الوهاب على تلحين القصيدة. يروي الأستاذ محمود عوض الحوار الذي دار على التلفون بين أم كلثوم وعبد الوهاب حول هذه القصيدة إذ كان بالصدفة في زيارة له :” رن الهاتف في منزل محمد عبد الوهاب ردت زوجته نهلة القدسي وقالت لها أم كلثوم: “إزيك يا نهلة.. إديني راجل البيت (أخذ عبد الوهاب الهاتف ضاحكا مع نهلة) أم كلثوم :” أيه رأيك في القصيدة دي تحب تسمعها؟ عبد الوهاب متسائلا: قصيدة … مين كتبها؟

– لن أقول لك الآن. إسمع الكلمات أولا وقل لي رأيك (قرأت) : أغدا القاك يا خوف فؤادي من غدي/ يا لشوقي واحتراقي من إنتظار الموعد/آه كم أخشي غدي هذا وأرجوه اقترابا /كنت أستدنيه لكن هبته لما اهابا.

– الله دي كلمات هايلة. والنبي مين مؤلفها؟

– واحد ما تعرفوش شاعر سوداني أسمه الهادي آدم.

– انما دي معاني حلوة بصحيح حلوة وجديدة.

– يعني موافق على تلحينها؟

– جدا جدا سمعيني كده الباقي.

أكملت أم كلثوم القراءة وراح عبد الوهاب يربط الكلمات بالأنغام. وكان عبد الوهاب على أبواب الصيف في لبنان فحمل الكلمات وأكمل لحنه في ربوع لبنان واستغرق اللحن عاما كاملا. وقد ذكر الهادي آدم في إحدى مقابلاته بأن كل الشعراء يحلمون بأن تغني قصائدهم سيدة الغناء العربي، وأن أم كلثوم غنت القصيدة بشحنة هائلة من الحب. وأن قصيدته التي وصفتها أم كلثوم بأنها كنز أدبي وكانت بدايته الى الشهرة في العالم العربي هي قصيدة عادية مثل بقية قصائده، وان من كتب لها الشهرة هو صوت ام كلثوم ولحن عبد الوهاب.

عاش الهادي آدم حتى التاسعة والسبعين من  عمره.  وعاش يستعيد الأغنية العذبة بصوت كوكب الشرق وألحان موسيقار الأجيال.

كان له من زمانه قصيدة انتشرت في العالم العربي ورددها الملايين، وكان له في كل مرة يسمعها بصوت أم كلثوم أن يقول معها:” آه كم أخشى غدي هذا وأرجوه اقترابا. وكم أناديك وفي لحني حنين ودعاء/ انا لولا أنت لم أحفل بمن راح وجاء/ وغدا ننسى فلا نأسى على ماض تولى / قد يكون الغيب حلوا إنما الحاضر احلى”.

 ما أقرب الغناء الى الروح. والقلب المحب يستخفه الطرب فيعيد ويستعاد.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *