ريمون شبلي… رحيل الشاعِر المُخمليّ !

Views: 191

أنطوان يزبك

ثمة أوقات تعجز فيها الكلمات المخنوقة عن عبور الشفاه إلى الواقع المرّ الذي نعيشه والمدى المنظور والمسموع الذي ندركه، لذلك  تهرع هذه الكلمات بعد لأي توا، لكيّ تصرخ في أعماق الروح المصدومة والأفكار الملتبسة …

وأيضًا تليها العبرات لتعيش لحظة من انفجار كليّ للمشاعر المكبوتة، لحظة فريدة يتدفّق فيها الدمع القهري الساخن بسخونة الانكسار ومعه مجموعة من مشاعر لا يمكنك أن تصفها وتتحرّر منها!

أجل رحل ريمون شبلي سيّد  من أسياد الكلمة  الشعريّة المخمليّة الراقية ، ولكتاباته علامات ثابتة وماضية وأثر عميق في عالم الشعر والأدب ، أرساها على مرّ عقود بالصبر والمثابرة والجديّة، والتي كانت عنوانًا منيرًا لحياته وسبيلا لكلّ ما كتبه وعمل عليه ولأجله طوال مسيرته الأدبية والشعرية.

قيل قديما للخليل بن أحمد؛ لم لا تقول الشعر؟

فأجاب :

يأباني جيّده وآبى رذيله !

هكذا قال الخليل ذات يوم أمّا ريمون فلم يهب خوض غمار مغامرة الشعر وكتب جيّده واستبعد رذيله إلى درجة أنه وضع الأغلال في يديّ وقدميّ هذا النوع الرديء والرذيل من الشعر الهابط واغرقه إلى قاع النسيان،  ولم يسطّر ، إلا ما كان عذبًا نقيا أصيلا وراقيًا من عيون الشعر الذي يرفع البنيان ويخلد!

 كتب ريمون ببطولة وانفتاح  وعلم ودراية ؛ خلاصة العاطفة والروح والمعرفة الدقيقة للمشاعر في هذا الفن الرفيع والصعب والذي يعصى على كثر ولو كان النظّامون بالعشرات والمئات ولكن الشعراء الحقيقيّون يعدّون بعدد أصابع اليد الواحدة…

من يقرأ شعر ريمون شبلي يدرك أنه لا يستطيع أن يبدّل حرفًا من شطر أو كلمة من بيت أو صورة من قصيدة ، وقد قال عنه الصحافي والناقد  لويس الحايك :

عندما تقرأ ريمون شبلي، نثرًا أو شعرًا تجد نفسك في غنى عن قراءة كثير من كتب الألمعيين البلغاء الذين تستعذب مراجعة نصوصهم أحيانًا لما فيها من متانة لغوية مسبوكة بمعدن خال من الشوائب.

أصاب لويس الحايك في وصفه الدقيق حقيقة كتابات ريمون وكيف كانت طريقته في الكتابة..

إذ  صنع ريمون شبلي من كتاباته على مساحة أربعين كتابًا، علامات فارقة ودررًا نفيسة ، قصائد نادرة وجميلة،  وقد طوّع اللغة لتصبح أداة حيّة طيّعة بذكاء،  تواكب التطّور الفكري والأدبي وتحاكي احتياجات الحداثة ، من دون تكلّف أو تزلّف بعيدًا عن العبارات البالية والمحسنات التي عفا عنها الزمن ، فلم يستعمل كلمات مأخوذة من بواطن المعاجم من أجل الإبهار والتباهي ، بيد أنه عندما يكتب يستعمل اللغة في أرقى حللها وابهى معانيها!

وفي قراءة للكاتبة والشاعرة نهاد الحايك لديوان شبلي ” اشدو واشتاق” تقول:

“لن أزن ديوان ريمون شبلي بميزان ولن أُقارنه بمعيار…

نحن هنا أمام مياه صافية ، بلوّر شفيف مناخ صادق وفضاء نقي لا التباس فيه ولا حيرة. وليست سطوره بحاجة إلى تعرية أو تقشير.هي باب مفتوح يدعونا إلى الدخول، تستقبلنا صور التقطها حسّ مرهف من واقع الحياة بمرّها وحلوها. سجّلها قلم فنان يستمد حبره من ينابيع الوجود وسطوع القيم وبهاء الجمال، على لغة ثرية ومطواعة تقطرت تقطيرا في مصفاة يراعه، وراحت تنزل على الوجدان كحبات مطر  على الرخام وتغيّره”.

وتتابع نهاد الحايك:

“يقف ريمون شبلي ثابتا بين نهرين أصالة خائفة من الجمود وحداثة حائرة من الجنون”.

أجل لقد سطر ريمون شبلي في شعره ملحمة باهرة في حداثة الشعر وشكّل دفعا للشعر الحديث القادم بخطوات متقلقلة إلى رحاب الوجود، فأحياه وانقذه من سقوط ذميم في غياهب التكرار والقوالب البالية السمجة التي تصنع نعوشًا وأضرحة للّغة والشعر على حد سواء..

ولشعر ريمون شبلي امتداد لاهوتي عارم وغامر ونزهات إيمانية صادقة واصيلة تروي عن ذاتها الصافية في كل حرف وخاطرة ؛ وقد تكون الروح الإلهية الإيمانية ماثلة في كل ديوان وكل زاوية من منزل ريمون الأدبي الشامخ و المنيف، باسطًا بإيمان وثقة وتسليم  يد الخالق على أوراقه وآثاره!.

لذلك التفت الأب مارون الحايك إلى هذه النفحة ووضع كتابا جريئا حول الايسكاتولوجيا في شعر ريمون شبلي، وقد أظهر مدى ارتباط شعر شبلي بمفهوم النهيوية في الدين المسيحي وكيف أن ريمون هو في عمق ذاته إنسان مؤمن أصيل وعميق عاش حياته برمتها ينظر إلى العالم الآخر باشتياق وكثرة تأمل ، خاصة بعدما  صار الاحبة هنالك في الحياة الأخرى كثرًا، فكان شِعره شِعر صلاة ومزامير وفرض رهباني يتلوه بحرارة المؤمن كمن يعيش في حياض كاتدرائية نورانيّة مرتّلا في الأمداء كواحد من اتقى وانقى ملائكة السماوات..

يقول القديس توما الاكويني :

الصلاة ضرورية ليس لكي يدرك الله احتياجاتنا ، وإنما لكي ندرك نحن حاجتنا للجوء إلى الله..

ريمون شبلي كرّس في مفهومه للحق والخير والجمال؛ الصلاة والشعر والبسمة والمحبة والرّقي في نبل الأخلاق وتجاوزها؛ منهاجا لحياته وسلوكه على هذه الأرض، فرحل  وارتفع إلى الخالق الأعلى متدثرًا بعباءة فارس شاعر، كما افتدى نفسه وافتدانا معه بعذاباته وآلامه من عذابات مطهر الروح حاملا في رحلته نتاجًا صافيًا وعطورًا زكيّة من تسابيح وصلاة !! ..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *