قراءة في كتاب رجاء شاهين “نعيم تلحوق دراسة في شعره”

Views: 368

في لحظات غير مرئية قد يصل المرء منا داخلياً إلى التلاشي، فيخيل إليه أنها النهاية، ويصبح كل شيء حولـه سديمياً عدمياً، ولعلنا في هذه الحال نُقهر ونتقهقر إلى جحيم اليأس، وكأن الخلاص بات بعيداً والذاكرة أصبحت شظايا، هذي الحال التي ربما وصل إليها شاعرنا “نعيم تلحوق” في لحظة تسللٍ، وهو جالس خلف مكتبه يتمزق اللون في عينيه،‏وينكسر الضوء في مرايا نفسه المفجوعة بوطن ممزق، غير أن شلال الأمل ما زال يتدفق في أوردته ليقينه بأن الوطن عائد، وبأنه وغيره من أصحاب الأقلام المناضلة لن يذهب نتاجهم هباء الريح، فهناك على الضفة الأخرى آذان تتلهف لسماع أصوات كهذه وتعمل على تفعيلها.‏

وحدها الكلمة الحرة، البناءة، قادرة على تحطيم الحواجز، واجتياز الحدود، لتتوحد مع أختها في أي بلد عربي آخر، إنها وحدة الأمة الصامدة في وجه المؤامرة الصهيونية، “والنص المبدع هو الذي سيحكم لغة الوجود الحتمي” هذا ما عبر عنه الشاعر “تلحوق” في “هو الأخير” ص 5، ولعل أجمل ما في حياة الإنسان أن يصبح عمله ملكاً للآخرين، هكذا بات نتاج الشاعر “نعيم تلحوق”، حيث خرج كتاب الناقدة “رجاء كامل شاهين” “نعيم تلحوق دراسة في شعره” الذي افتتحته بـ “كلمة تتأتى” ضمنتها الحب الكبير، الفلسفة، العمق، والنظرة إلى ما ورائية الأشياء.‏

في الصفحات الأولى من هذا الكتاب تحدثت الناقدة “رجاء” عن الدور الشعري وأهميته: “قيمة الشعر هي في ذاته، كامنة فيه وفي إبداعه” ص 11.‏

ثم انتقلت إلى تحديد هوية شعر “تلحوق” وأشارت إلى أن الحقيقة الشعرية عنده “تتم في اللاوعي واللاواقع” وهما أعمق من الحقيقة المادية والخيال.‏

كما أنها شرحت أطر شعره وبحثه المستمر عن وطن يوحّد الأقانيم، وقد شغلته ماهيّة وجود الإنسان الذي بإمكانه أن “يسيّر الزمن ويصيره روحاً لما يريده من معنى” ص 12‏.

الشاعر نعيم تلحوق

 

ركزت “رجاء شاهين” بأسلوبها البعيد الأغوار ـ من خلال ديوان “لكن ليس الآن” في قصيدة “هواء المسافات” على إغراق الشاعر في تأمل الليل، وصراعه القائم مع الموت، وردّت تكرار مفردات الليل ومرادفاته عند هذا الشاعر إلى دلالات مختلفة، أولها الحرب التي أرْختْ ستائر الليل على نفسه الهائمة:‏

“ليل تذرفه رياح النضال /…/ كل يموت في الوقت القتيل /…/ هذا ظلام” وهذا يمثل تطوراً شعرياً جوهرياً، فالحرية، تكون حرية بطبيعة الشيء وبأسلوب السعي إليه.‏

تغوص الناقدة “رجاء شاهين” إلى بحر المفردات في شعر “تلحوق” وتصطاد منه اللآلئ الثمينة، فتشير إلى: “الكابوس، الأحلام، الظلام” وإلى الحركة في تحولات نصوصه التي منحت شعره الموسيقي الداخلية والغرابة مضافاً إليها الجاذبية والتشويق. من ثم نجدها تنتقل من هذا المنحى الجمالي إلى دراسة الناحية الرومانسية عنده من خلال الحلم ومفرداته: “المطر، البرق، النهر، الشموع، الحب، الورد”.‏

كما أنها تناولت ديوان “وطن الرماد” ودرست فيه القصيدة المعنونة باسمه، الغنية بالرموز وبأفعال الأمر التي خرجت عن معناها إلى التقريع: “قمْ.. نمْ.. سرْ.. درْ../ إلى كل الجهات، فهذا الزمن أسود/ احمل الفرح وامشِ الزمن/ زمن الحزن و”الخلايا الموقوته” ص 18.‏

وهذا الأخير، الفرح، “هو الوطن الذي يسبق الحدث” كما قال عنه الشاعر تلحوق في مقدمة ديوانه “هو الأخير”.‏

شعر “نعيم تلحوق” فلك واسع دارت فيه الأديبة “رجاء” وأوضحت دور الواقعية والرمزية فيه، وحللت بعض النواحي المهمة عنده، بحيث نجد التكثيف اللغوي، المعنوي، والإيقاع الداخلي الذي منح القصائد الحرية والانفعال، فهو شاعر مرتبط بالفضاء المكاني والزماني بخاصيتهما، والالتفات إلى الماضي ليس إلا في سبيل إحياء المستقبل، وهذا الذي خلق الغرابة في تجديد الصور لديه مثل وصفه للعربي الحاضر وتقريعه لخموله، بما لم نلحظه من قبل في جرأته وتحدّيه وواقعيته على هذه الشاكلة:‏

“قمْ… سرْ…/ لا تنتظر عربياً / فساعته معلقة بين فخذيه /../ لا تحلم بعربي “فالكابوس” يأتيك ليلاً بين الملحفة وقميص النوم!” ص 20.‏

أسلوب مشوق، موضوعي، قدمته لنا الناقدة المبدعة “رجاء كامل شاهين” حين درست “نعيم تلحوق” كشاعر وطني مقاوم، في مجموعتيه “لكن.. ليس الآن” و”وطن الرماد” تحدثت عنهما أنهما:‏

“تجربتان كبيرتان لشاعرٍ واحدٍ ماردٍ، تعبران عن مشاكل إنسانية فعلية” ص 27.‏

ذاك التشريح لقصائده وتفكيك أجزائها، أمدنا باليقين بأن شاعرنا “نعيم” كما قال في قصيدته “تأشيرات دخول إلى القراءة” من ديوانه “لكن.. ليس الآن”ص 29:‏

“قادر أن أبدأ / حين يصبح الكلام / لا تبدأ؟”‏

كما أننا نجد عنده غزارة العبارات الشعرية، الفاعلة، المنفعلة، والموغلة في العمق، و “دم القيامة” في “هو الأخير” الأمل والتأكيد على أنّ الوطن هو الأخير، وبالقصيدة نصنع القيامة، قيامة الوطن وعودته من الجحيم.‏

لم تغفل الكاتبة “شاهين” عن البعد الوجداني عند “تلحوق” وموآخاته بين ذاتيته والموضوعية راجعاً بذلك إلى رموزه القديمة وتوظيفها في أطرٍ حديثةٍ خادمة للنص وللمستقبل.‏

امتلكت “رجاء شاهين” المقدرة على التفوق في أسلوبها الشفاف المميز في إبداعه وتحليله المنطقي والموضوعي. نجدها في قصيدة “رحلة الغيم” من ديوان “هو الأخير” تفكك الرموز التي استخدمها الشاعر “تلحوق”؛ لتصل بنا في ص 58 إلى شاطئ آخر وقف عنده، ألا وهو التحدث “عن النزف المؤدي إلى الموت” وإبرازه القرينة ما بين الزمن والواقع:‏

“سطوة الأرق، كيف تغادر الدم / وكيف نصير الأبطال أشباحاً / تستظل صفوة الموت اللذيذ / المزين بالأسود / المتشح بالأحمر”.‏

وقد تجلّى الحنين الماضوي عنده عبر النداء المتواصل لكل ما يمتّ لـه بصلة “يا تموز، ليلتي الحمقاء ارتدادي، أردّ الباب على حالي” وذلك أملاً منه بانبعاث تموز، الخصب في عروق الحاضر والمستقبل.‏

وفي “أقحوانة الشوق” من “هو الأخير” منحتنا الأديبة رجاء صورة أخرى للشاعر في رقة عباراته وشفافية صوره وروحانية الرمز، وتصالحه مع ذاته. “أقام علاقة بين الدال والمدلول، كما ذكرت، وذلك في إطار مضمون متجدد، متدفق، حيوي، “حيث منح اللغة آفاقاً بتغيير شكلية القصيدة والتعبير عنها بالطاقة الشعرية، فهدأة الليل عنده هي الفاصل بين اللهو والجد.‏

وفي صفحة مئة أشارت إلى أن الشاعر “صعد سلم الارتقاء من الطيش إلى النصح، على الناسك المبصر ذو الرؤيا الصافية” ولعلنا لمسنا شيئاً من هذا القبيل في شعره الوطني، وفي بعض قصائده من ديوانه “يغني بوحاً” و”هي القصيدة الأخيرة” التي تجلت فيها النظرة الصوفية الراقية من حبه للآخر وللوطن: “إلى من خرج من جبة الحلاج، ليلتقي بي في الظل /…/ إلى الله في أعلى النهار”.‏

وبالإيماء إلى أسلوب “نعيم” تقول عنه الكاتبة:‏

“تلحوق شاعر “حريف” استطاع عبر تجربته أن يدمج بعض الأساليب في أسلوب واحد، وبعض الإيقاعات في إيقاع واحد شامل” ص 103.‏

أطلقت الناقدة “شاهين” على وعي الشاعر في الشعر، تسمية اللاوعي المرتبط بالوعي التراثي الماضوي وردت ذاك الوعي إلى رؤية حقيقية للحياة الماضوية والاستفادة منها، وصولاً إلى مستقبل مزدهر بالقومية والتحرير.‏

فيما بعد انتقلت أديبتنا إلى دراسة الواقعية الحسية والملحمة الغنائية عنده وقد استطاع أن يجمع ما بين الواقعية الحسية والنفسية، واعتبرت أن طول القصيدة لديه مكان صالح للبحث في الحس الدرامي، وهذا ما وجدناه في قصيدتيه: “وطن الرماد” و”تعلمت علم الأزمان” بحيث أعاد الملحمة الغنائية التي أنتجت في رأي “رجاء”: “عالماً مدهشاً من خليط جمع الألم والمأساة والعبور”.‏

وبالإشارة نذكر أن الكاتبة ضمنت في هذا الكتاب الدراسي الأكاديمي ـ الذي نسيتْ سهواً أن تفهرسه ـ مجموعة قصائد للشاعر من دواوين متعددة له، نوردها تباعاً:‏

من ديوانه “لكن ليس الآن” ضمنت “تأشيرات دخول إلى القراءة ـ رحيل الصوت الممتد ـ هواء المسافات” من ديوانه “وطن الرماد” ضمنت قصيدة وطن الرماد من ديوانه “هو الأخير” ضمنت “ما كان أن تخرج إلا إليك ـ رحلة الغيم ـ دم القيامة ـ انتصار الانتظار ـ أقحوانة الشوق” من ديوانه “يغني بوحاً” ضمنت “تعلمت علم الأزمان”.‏

هنا أكدّت الكاتبة أن تجربة الشاعر في كتاباته كلها: “تعبر بأصالة عن الأزمة، الأزمة الشعرية التي تبنى على تغيير الآخر”.‏

وفي باب نقدها لشعر “تلحوق” أشارت في ص 97 إلى وقوع الشاعر في المباشرة وإقحامه القافية في بعض قصائده، وردت ذلك لفشله في القبض على المستقبل، كذلك انتقدت الخطاب الشعري لديه في أقحوانة الشوق” ص 98 حيث تراوح ما بين التقرير والتصوير، وبالمقابل أشارت إلى القصائد المكثفة والمهمة لزمننا، واعتبرتها الأفضل، كذلك انتقدت بشكل ضمني مبطن الرموز المصطنعة في بعض قصائده ص 96: “يخيل للمتلقي أن الشاعر يحبو وهو مجهد برموزه وأن بعض صوره مصطنعة مغتصبة، وبعضها الآخر آية في الجمال والجدة”. غير أنها تركت المجال مفتوحاً لرأي الآخر، وأكدت على ذلك حين قالت ص 132: “نصوص تلحوق تأخذ أكثر من معنى وأكثر من دلالة”.‏

وهذا دليل على أن “رجاء شاهين” كاتبة تملك مهارة عالية في الأداء الأدبي وموضوعية في تطبيقه.‏

“نعيم تلحوق” شاعر أدمته المعاناة. من أفمام الحروف بثّ الأمل بوطن محرر، موحد لا يحكمه الاستغلال والمصالح الشخصية، فبات بذلك ينتسب في شعره إلى الكواكب التي شعت في سماء التاريخ ومنحت أسمى أسباب الوجود الإنساني حراً كريماً.‏

وفي فسحة أسمح لنفسي بالقول: ليست عطور الكاردينيا، والفلّ، والياسمين الدمشقي.. ولا المساء الليلكي الذي أثر على قلمي فقدم ما قدمه من على الشرفة الصغيرة، إنما سحر وعطر وجزالة العبارات، وموضوعية الدراسة المنبعثة في أسلوب الناقدة “رجاء كامل شاهين” هو الذي طغى على عبير الطبيعة في دراستها جوانب من شعر “نعيم تلحوق” الذي شدني فيها ذاك الأسلوب المشوق، المعتمد على الناحية المنطقية الفلسفية، وهذا دليل قاطع على امتلاكها مقدرة فائقة في انسياب العبارة بشفافية وصدق فني، ولا نبالغ إذا قلنا، إنها أجادت الغوص في مضامين شعر “تلحوق” واتحفتنا بدراستها عن شاعر قومي وطني لا نعرف سوى النزر القليل من جوانبه الشعرية نسبة لما قدمته لنا.‏

وأخيراً أقول: إن هذا الكتاب “نعيم تلحوق دراسة في شعره” الصادر عن دار الينابيع دمشق ـ بـ 154 صفحة من الحجم الوسط ـ هدية طيبة، عطرة، أضافتها “رجاء شاهين” إلى المكتبة العربية، وطرزت بها الرفوف الأدبية، فباتت وردة منقوشة على حجر.‏ 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *