الأب ريمون الهاشم قارئًا “أكتُبُني… حينَ أحبَبتَني”: سحر حيدر تكتُب اليومَ بحُروفِ الأمس

Views: 670

 الأب الدكتور ريمون الهاشم 

(مدير الجامعة الانطونية – فرع زحلة – ونائب رئيس جمعية “عدل ورحمة”)

 

هناكَ عبارةٌ شهيرةٌ بالعامّيّةِ تَقول “المكتوب بيُنقرا من عنوانو”.

كلُّنا يعلَمُ بأنَّ أصعبَ مرحلةٍ في الكِتابةِ النثريّةِ أو الشعريّة هي طبعًا عمليّةُ انتقاءِ العُنوان، فهو بوّابةُ القارئِ التي يدْخُلُ بواسطتِها إلى صَدْرِ المُؤَلَّفِ يدفَعُه الشغَفُ والفُضول أو تلك التي يتمسْمَرُ عندَ عتبتِها غيرَ آبِهٍ بما تُخفيهِ خلفَ سِتْرِها. 

أمّا عُنوانُ الكِتابِ الذي يجمعُنا اليومَ في الرّحابِ البِقاعيّةِ للجامعةِ الأنطونيّة، فهو من صُنفِ العناوينِ التي تَسحَرُ ألبابَنا وتقْتنِصُ ذوقَنا الأدبيّ وتَجتذِبُنا لاهِثينَ لاكْتشافِ مادَّةِ التَأليفِ التي أنْتَجَتْ عُنوانًا يَضيعُ العقلُ بينَ ثناياه وتغرَقُ المُخيّلةُ في غَمْرِ معانيه.

“أكتُبُني…حينَ أحبَبْتَني” عنوانٌ إنْ أخضَعْتُه لأُصولِ التّحليلِ الكِتابيِّ الضيّق، خاطرْتُ بقصِّ جَناحيْه وحرمْتُه من التحليقِ في الفَضاءاتِ الوجدانِيّةِ الواسِعةِ التي صيغَ لأجلِها؛ ومع ذلك سأتجرّأُ على تَفنيدِ مُركَّباتِه علَّني أنجحُ في التعبيرِ عن المشاعرِ التي جيّشَها في داخِلي؛ وبهذا أكونُ قد فتحْتُ بوّابةَ الكتابِ على مِصراعيْها أمامَ القارئِ ليدْخُلَ مع الكاتِبةِ في مُغامرةٍ تكشِفُ فيها ما “عاشَتْه، عايَشَتْه، أو كانت شاهدِةً عليه” وذلك بحسبِ تعبيرِها.

عندما يجتمِعُ الماضي بالمضارِع في عُنوانٍ واحِدٍ “أَكْتُبُنِي…حينَ أحبَبْتَني”، لا بُدَّ لعقارِبِ الساعةِ أنْ تتوقَّفَ، لأنَّ التزاوُجَ الحاصِلَ ينْفتِحُ على العلاقةِ الوثيقةِ بين الكيْنونةِ والصيْرورة، بين الذاكرةِ والهُويّة، بين “ما كانَ” في الزمان وما “تَكوّنَ” الآن، بين “ماذا لوْ لم يكنِ الحال” وألفُ احتمالٍ في البال، وبين “لأنّه كانْ” وحالٌ واحِدٌ لا مَحال. نعم! لا بدَّ لعقاربِ الساعةِ أنْ تكُفَّ عنِ الدوران أمامَ عُنوانٍ يُطوى فيه الزمان كما يُطْوى في غياهِبِ ثُقوبِ الفَضاءِ السوداء.

د. سحر حيدر توقع “أكتُبُني… حين أحبَبتَني”

 

منْ أرادَ كُنْهَ جوْهرِ العُنوانِ والكِتابِ في آن، عَرَجَ على إِدراكِ المُقايَضةِ بينَ البصرِ والبَصيرة؛ “أَكْتُبُنِي… حين أحبَبْتَنِي” قالَتْها الدكتورة سحر حين أيقَنَتْ بأنَّ شخْصِيَّتَنا هي في الحقيقةِ نِتاجُ ما استنْتَجْنا على دُروبِ حياتِنا، وباطِنَنا هو وليدُ ما استنْبَطْنا، وعقلَنا هو حَصيلةُ ما عَقَلْنا…نحنُ لا نُكَدِّسُ خُبُرات، بل بالأَحرى انْطِباعات، ولسنا مُستنْقعَ ذِكريات، بل بالأحرى مُستودعَ قناعات. نحنُ لسنا مجموعةَ مشاهِدَ وأحداث وقَعَتْ عليها أبصارُنا بل خُلاصةَ مَفاهيمَ ومُدْرَكات كوَّنَتْها بصائرُنا، وبينَ الإِبصارِ والتَّبصُّرِ تتأرجَحُ المشاعرُ الإنسانيّةُ بين إيمانٍ بالحبّ أو جُحودٍ بوُعوده. أمّا أديبتُنا العزيزة، فقدِ اختارَتِ الإيمان وأبَتْ أنْ يكونَ حاضِرُها استِحْضارًا لأشْجانٍ أثْقَلَتِ الأزمنةَ الغابرة، وسَعَتْ، مُتَقلِّدَةً بمَلَكَةِ الكتابةِ لديها، إلى تَأْوينِ الماضي بكَلِماتٍ مُفعمةٍ بالأملِ والرجاء، فشَهِدَتْ لحاضِرٍ يُكْتَبُ اليوم بحُروفِ الأمس، لتَصيرَ بذلك نِهايةُ القِصةِ هي البِداية: بدايةُ الفرح، بدايةُ النضج، بدايةُ التسامُحِ والغُفران. وأجملُ بدايةٍ هي تلك التي نَكتشِفُ فيها اليدَ الخفيّةَ التي تُرافِقُ لحظاتِنا العابِرة وتتوسَّم فينا، بين الماضي والحاضر، أنْ ننْموَ في الحِكمة والنِّعمة ونخْطُوَ صوبَ نهايةٍ هي في آخِرِ المَطافِ بدايةُ البدايات.

بينَ صفَحاتِ كِتاب “أَكْتُبُنِي… حين أحبَبْتَني”، مئاتٌ من القِصَصِ أرادتْها الكاتبةُ أنْ تنتهِيَ ببداياتٍ واعِدة لتكونَ عِبْرةً وعَبّارةً في آنٍ واحد؛ عِبرةً لكلِّ منْ لا يزالُ في البدايةِ الأولى من قِصّتِهِ ليَعْتَبِرَ بها، فيُدرِكَ بأنَّ المُستقبلَ يَخُطُّهُ البصيرُ لا المُبْصِر، وعَبّارَةً لكلّ منْ لا يزالُ عالِقًا في نهايةِ قِصّتِه ليَعبُرَ بواسِطتِها إلى بدايةٍ ثانية، فيها لا يكونُ الموتُ موتًا ولا الألمُ سيّدًا ولا الأَذى انتقامًاـ…إنّها بدايةٌ نَروي فيها علاقةَ الحُبّ التي جمَعَتْنا بذلكَ العاشق، أم ذلك الوالِد، أم ذلك الصَّديق، أم ذلك الحبيب، أم حتّى بذلك الإلهِ الذي زارَ أرضَنا بالأمسِ البعيد وبذَلَ ذاتَه لأجلِنا، فأعطانا أن نشهَدَ لما نحنُ عليهِ اليوم وأنْ “نكْتُبَنا…حين أحَبَّنا”.

***

*ألقيت في حفل توقيع كتاب الدكتورة سحر حيدر “أكتُبُني ….حين أحببتني” (منشورات منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحاده الثقافي) في الجامعة الانطونية -البقاع.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *