لبنان.. بطاقةُ سَفَرٍ إلى “سفربرلك” جديدة

Views: 401

محمود برّي*

الحديث عن “سفربرلك” صار “ترند” في لبنان اليوم. فهذا التعبير باللّغة التركيّة مُقيم في وعي اللّبنانيّ، ويشي بالويل والثبور. معنى الكلمة: النفير العامّ أو الترحيل الجماعيّ والتأهُّب للحرب. لكنّ هذا ليس ما يَرمز إليه في هذا المعرض بل هو الاضْطهاد والسّخرة والمجاعة والموت الجماعيّ. وهذا لا يختلف كثيراً عن توصيف الحالة الرّاهنة التي تسود لبنان في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة – السياسيّة – الاجتماعيّة الجاثمة على الصدور.

“سفربرلك” الفقر المُدقع والاضْطهاد الجارِح وفقدان أساسيّات العَيش والأمان والإشراف على حافّةِ موتٍ وشيك: هذا كلّه يعيشه القسم الأكبر من اللّبنانيّين في ظلّ أزمةٍ عموميّة تمدَّدت إلى جميع مَفاصل الحياة وما انفكَّت تنهش الرقعة المُتبقّية من أمانٍ كان… وهو يُذكِّر بالظروف المأسويّة المُفجعة التي عَرفها البلد والجدود قَبل قرنٍ من الزمن، في غمرة الحرب العالَميّة الأولى بين العامَيْن 1914 و1918، حين كان الناس يتضوّرون جوعاً حتّى الموت، تحت حصارٍ رباعيٍّ غاشِمٍ فَرَضَهُ النّير العثماني في الداخل وقوّات الحلفاء برّاً وبحراً، وأسراب الجراد التي قضتْ على كلّ أخضر ويابس، ومَوجات الأوبئة والأمراض التي اجتاحت الجبال والسواحل. هذه كانت ويلات سفربرلك التي أَودت بثلث اللّبنانيّين إلى الهلاك وتَركتْ بصمةَ ألمٍ لا تزول من اليقين الجماعي، يبدو أنّها تنتقل بالوراثة عبر الأجيال.

مأساةٌ فظيعة ضَربت البلد (والمُحيط برمّته) قبل حوالي مائة سنة، وها هي نذائرها تطلّ من جديد في بلدٍ يبدو أنّه لم يتعلّم من نكباته… كأنّه مكتوب على هذا الوطن وأهله أن يعيشوا الويلات والمصائب عَينها كلّ مائة عام.

اليوم يُعاني لبنان أسوأ أزمة اقتصاديّة معيشيّة منذ تلك الأيّام السوداء الدامية، ممّا لم يَعرف له مثيلاً حتّى ولا في ذروة الحرب الأهليّة بين عامَي 1975 و1989.

الدولة واقعة تحت دَيْنٍ يفوق الـ 100 مليار دولار، والبطالة تضرب بشكلٍ غير مسبوق وتبلغ أرقاماً مُخيفة، والفقر ينهش المُجتمع، حتّى أنّ نسبة الذين يعيشون في حالة فقر مُدقع وَصلتْ في غضونِ عامٍ واحدٍ إلى حوالي 82% من السكّان، فانهارت جدران الأمان الصحّي والتعليمي والخدماتي والأمني، وفَقدتِ العملة الوطنيّة من قيمتها الشرائيّة أكثر من 90%.

هذا كلّه ليس كلاماً وصفيّاً بل هو ممّا وَرَدَ في دراسةٍ جادّة أَصدرتها لجنة الأُمم المتّحدة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغربي آسيا (الإسكوا) تحت عنوان “الفقر المتعدّد الأبعاد في لبنان: واقع أليم وآفاق مبهَمة”.

وما يزيد المأساة عمقاً أنْ لا علامات انفراجٍ تَظهر في الأُفق ولا بادرة أمل. الحلول المطلوبة غائبة بسبب انعدام التوافُقات السياسيّة من ناحية، وهَيْمَنة التدخُّلات الخارجيّة من ناحيةٍ ثانية، واللّبناني اليائس يلهث في طَلَبِ الهجرة إلى أيّ مكان، ولو في قوارب مُتهالِكة تحمله في الغالب إلى حتفه في الأعماق التي لا تَرحم…

سعْرُ صَرْفِ العُملة

هذا الهبوط المريع لم يحدث بين يَومٍ وليلة بل تهيَّأ على امتدادِ عقودٍ طويلة من الحُكم غير الرشيد. فقبل الحرب الأهليّة (العام 1974) كان الدخلُ السنويُّ للفرد اللّبناني يساوي 1.080 دولاراً أميركيّاً. ولم يتخطَّ سعر صرف الدولار الأميركي بالعملة الوطنيّة، حتّى في ظلّ سنوات الحرب الأهليّة وصولاً إلى العام 1982، الـ 3 ليرات لبنانيّة لكلّ دولار (والسعر اليوم تجاوَز الـ 32 ألف ليرة).

وإذ تمكّنت الحكومة من تثبيت سعْر صرف اللّيرة اللّبنانيّة على الدولار الأميركي 1500 ليرة منذ توقيع اتّفاق الطائف برعايةٍ عربيّة سعوديّة (العام 1989)، فقد استقرَّ هذا السعر حتّى نهاية العام 2019، من خلال سياسةٍ ماليّة قامت على تدخُّل مصرف لبنان المركزي بسوق الصرف لضبْطها والحفاظ على قيمة اللّيرة أمام العملة الأميركيّة والعملات الأخرى.

هذه السياسة حافَظت على استقرارٍ نسبيّ في مستوى دخل الفرد وقدرته الشرائيّة، وحافظت كذلك على حياض الطبقة الوسطى التي هي عادةً معيار الأمان الاجتماعي في البلد، يؤدّي اهتزازها أو تهديد وجودها إلى اهتزازِ الاقتصاد الوطني وتهديده. واستمرَّ هذا الوضع على مقوّماته ووسائل الأمان التي يرخيها على المجتمع حتّى مطلع العام 2017 حين جرى، خلافاً للمنطق الاقتصادي (وربّما لأسبابٍ شعبويّة أو لجهلٍ في الموضوع) إقرارُ سلسلة الرتب والرواتب للموظّفين في القطاع العامّ، من دون تأمين المَوارِد الماليّة الكافية لها. وكان هذا إيذاناً ببدء عمليّة الانهيار الكبير. وما إن أَشرف العام 2019 على نهايته، حتّى جاءت انتفاضة 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر التي ترافَقتْ مع اتّساع تفشّي وباء كورونا، فابتدأ الانهيار العميق، وسقطتِ القيمة الشرائيّة للعملة الوطنيّة بشكلٍ مريع، وانخفَض نصيبُ الفرد من النّاتج المحلّي الإجمالي بنسبة 40%، وشهدتِ الأسواقُ ارتفاعاً جنونيّاً للأسعار بفعْلِ عجْزِ الدولة عن الوفاء بالتزاماتها الماليّة للدائنين، وعجْزِ الإدارة عن كبْحِ مُخالفات أصحاب الأطماع من المصطادين في وعاء الاضْطرابات. رُفع الدَّعمُ عن الكثير من السلع الأساسيّة، وعانت البلاد من نقصٍ في الغذاء، والوقود، والأدوية، وتزايدتْ معدّلات الجرائم وحالات انعدام الأمن وتراجعَتْ خدمات الدولة وباتَتْ تكلفةُ الاستعاضة عنها من القطاعات الخاصّة، تتجاوز القدرة الماليّة للسواد الأعظم من المُواطنين.

ومع انهيار القطاع السياحي وتداعي الثقة في القطاع المصرفي، وهُما القطاعان الأساسيّان اللّذان يعتمد عليهما الاقتصاد اللّبناني، تفشّت البطالة وتعمَّم الفساد، فأَفلت زمام التضخُّم وتحوَّل الانكماشُ الاقتصادي الذي ظهر قبل العام 2019، إلى انهيارٍ اقتصاديّ شبه كامل في العام 2022.

التقصير الحكوميّ والنزوح السوريّ

لئن كانت أسباب هذه الأزمة الاقتصاديّة تعود في الغالب إلى قصور السياسة الماليّة والنقديّة التي اتَّبعتها الحكومات المُتعاقبة، والإحجام أو العجز عن مُكافَحة الفساد، فقد جاءت أعباء النزوح السوري الكثيف لتُضاعِف الضرر. هذا ما أشار إليه وزيرُ الشؤون الاجتماعيّة السابق رشيد درباس بكلامه على “تأثير النزوح السوري على ازدياد الفقر في لبنان، في ظلّ عدم إيفاء المُجتمع الدولي بالتزاماته تجاه النازحين”.

وفي تقريرٍ لها أشارت “الإسكوا” إلى بلوغ نسبة التضخُّم في لبنان 281% في الفترة ما بين حزيران/ يونيو العام 2019 وحزيران/ يونيو العام 2021 (وهي ارتفعت اليوم).

التعافي.. من الفساد

يُدرك الجميع في لبنان أنّ أيّ جهدٍ مُثمر للحدّ من حالة الفقر في البلد والحيلولة بالتالي دون “سفربرلك” جديدة، يحتاج إلى وضْعِ حلولٍ جديّة للأزمة الاقتصاديّة، تبدأ من وقف الانهيار أوّلاً واستعادة الثقة والبدء بمَسيرة التعافي. إلّا أنّ ذلك لن يكون كافياً ولا مُجدياً من دون التصدّي للفساد.

هذه لن تكون مهمّةً سهلة مع الوهن وحالة عدم اليقين ممّا يُعطِّل أجهزة الرقابة. وحتّى على المستوى الرسمي فالحكومة لم تُنفِّذ حتّى الآن متطلّبات الإجراءات الإصلاحيّة المطلوبة منها. وقد أَشار صندوقُ النقد الدولي إلى أنّه توصَّل إلى اتّفاقٍ مَبدئيّ مع لبنان بشأن تسهيل تمويلٍ مُمتَدّ مدّته أربع سنوات، مُشيراً إلى أنّ بيروت لن تحصل على المُوافَقة الكاملة إلّا بعد أن تقرّ الدولةُ سلسلةً من الإصلاحات المطلوبة (لم تقرّها بعد). هذا على الرّغم من اعتراف الجميع بأنّ مسيرة التعافي تحتاج بشكلٍ أساسي إلى تمويلٍ خارجي يَرفد الدورةَ الاقتصاديّة ويضخّ فيها أموالاً جديدة.

المعلوم أنّ عدم مُوافَقة الحكومة اللّبنانيّة على إجراء الإصلاحات ناشئ من خلفيّةٍ سياسيّة لها اعتبارات تتّصل بالصراع في المنطقة أكثر ممّا تتّصل بالوضع الداخلي اللّبناني، ومن بين هذه الاعتبارات مسألة ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان والكيان الإسرائيلي. وهذا أمر تُفترض المُباشَرة بتحريكه في المستقبل القريب. غير أنّ التعويل على الاستثمار بالنفط والغاز المُكتشفَيْن في البحر المتوسّط، قبل الاتّفاق مع الأطراف المَعنيَّة على ذلك، وقبل تلزيم هذه الاكتشافات لجهاتٍ مُختصّة وموثوقة، ليس أكثر ولا أقلّ من كتابةٍ على ماء البحر، ويحتاج إلى وقتٍ لتحقيقه يُمكن أن يمتدّ لسنوات، في حين أنّ الوضع اللّبناني أحوج ما يكون إلى مشاريع سريعة للحلول.

والغريب أنّ نسبة الفقراء من ذوي أعلى درجات التحصيل العلمي، باتت تُقارِب نسبة الفقراء من ذوي الدرجات العلميّة الدنيا، بحسب ما ذَكرت دراسة حديثة لـ “الإسكوا”. والمعنى أنّ الكفاءات الأكاديميّة لم تَعُد مُجدية لتدبُّر أمور العَيش تحت ضغوط الوضع البائس في البلد. وهذا ما دفَعَ بلجنة الأُمم المتّحدة إلى تشجيع الحكومة على إقرارِ قانونٍ للمُنافَسة (أقرَّه المجلسُ النيابي في شباط/ فبراير الماضي) على أمل بناء سوقٍ تنافُسيّة ديناميكيّة مُنتِجة ومُبتكرة تدعم التعافي الاقتصادي.

ولعلّه من المُجدي اليوم استعادة خطّة الحماية التي وضَعتْها الأمينة التنفيذيّة للإسكوا “رولا دشتي” في العام 2020، وتنصّ على أنّه يمكن للعُشر الأغنى من اللّبنانيّين، الذين يملكون ثروة قاربت 91 مليار دولار آنذاك، تسديد كلفة القضاء على الفقر من خلال تقديم مساهمات سنويّة لا تتعدّى نسبة 1% من ثرواتهم.

لكنّ هذا “أجمل من أن يتحقّق” وسط حالة الاستعصاء السياسي القائمة، على الرّغم من أنّه مَكمن الأمل الأبرز…، وإلّا فإنّ تسونامي الفقر سيُفضي إلى “سفربرلك” جديدة، يقوم فيها بعض السياسيّين بالدَّور الذي لعبه جمال باشا التركي قبل قرنٍ من الزمن.

***

*كاتب وإعلامي من لبنان

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *