حوض النيل والتحريض الإسرائيليّ ضدّ العرب

Views: 17

ممدوح مبروك*

يُعَدّ الغزو الإسرائيليّ لإفريقيا إحدى الأدوات التي تستخدمها إسرائيل للضغط على العرب وتحديداً في ملفّ حوض النيل، وهي استراتيجيّة قديمة أشار إليها “تيودور هرتزل” في العام 1903، وبلْورها “بن غوريون” في خمسينيّات القرن الماضي بإعلانه “أنّ مستقبل إسرائيل سيظلّ مُهدَّداً مع العرب من أجل الحصول على المياه”.

منذ ذلك الوقت بدأت إسرائيل حِيَلَها المُختلفة تجاه دول حوض النيل وعلى رأسها أثيوبيا، للحصول على مياه النيل، والسعي نحو تضييق الخناق على دولتَي المصبّ مصر والسودان.

في البداية لَعبت إسرائيل دَورَ الوسيط من خلال تشجيع الشركات الأميركيّة لتنفيذ مشروعات الريّ في بعض دول حوض النيل، أبرزها الدراسة التي تمّ إعدادها خلال الفترة المُمتدّة من العام 1958 وحتّى العام 1964 لاستصلاح الأراضي على الحدود السودانيّة – الأثيوبيّة لإنتاج الطّاقة الكهربائيّة.

في الستّينيّات من القرن الفائت حرصت إسرائيل على توطيد علاقتها بأثيوبيا، وقامت بدَورٍ كبيرٍ في تحريضها على مُعارَضة تنفيذ مصر مشروع السدّ العالي في العام 1960، كما عارضت مشروعاً مصريّاً آخر لتحويل جزء من مياه النيل لريّ سيناء؛ حيث تقدّمت إثيوبيا وقتها بشكوى إلى منظّمة الوحدة الإفريقيّة (الاتّحاد الإفريقي حاليّاً).

في العام 1964 أَنشأت إسرائيل مزرعةً في الأراضي الأثيوبيّة بلغت مساحتها 150 ألف فدّان قرب الحدود السودانيّة تمّ ريّها من مياه نهر النيل، كما أَنشأت بالاشتراك مع أثيوبيا شركة استثمار زراعيّة.

في الثمانينيّات انتقلت إسرائيل إلى العمل المباشر بإرسال خبراء إلى كلٍّ من أثيوبيا وأوغندا لإجراء أبحاثٍ تستهدف إقامة مشروعاتٍ للريّ على نهر النيل تستنزف حوالي 20% من موارد النيل إلى مصر، وذلك على الرّغم من عدم حاجة أوغندا إلى مشروعاتِ ريّ وقتها، ولاسيّما أنّها كانت تتلقّى أمطاراً استوائيّةً تبلغ حوالى 114 مليار متر مكعّب سنويّاً.

اتَّخذ التنسيق الأثيوبي الإسرائيلي في عهد “منغستو هيلا مريام” (1974 – 1991) الذي أطاح بالإمبراطور “هيلاسلاسي” في العام 1974 منحىً جديداً امتدّت مخاطره إلى جنوب السودان مع “جون قرنق” الذي كان يسعى إلى فصل الجنوب السوداني لتكتمل المؤامرة بسيطرة أثيوبيا على الشريان الرئيسي وهو النيل الأبيض، وسيطرة “جون قرنق” على الشريان الآخر وهو بحر الجبل.

لم تتوقّف سياسة التحريض التي تتبعها إسرائيل في علاقتها مع أثيوبيا حتّى وقتنا هذا؛ فوفقاً لآراء الخبراء تلعب إسرائيل الدور الرئيسي في تحفيز أثيوبيا على بناء سدّ النهضة منذ عهد الرئيس الأثيوبي السابق “زيناوي”، الأمر الذي تسبَّب مؤخّراً في توتّر العلاقات بين مصر وأثيوبيا إلى حدّ التهديد باستخدام القوّة العسكريّة باعتبار قضيّة مياه النيل إحدى أهمّ قضايا الأمن القومي المصري.

لماذا أثيوبيا؟

حرصت إسرائيل على توطيد علاقتها بأثيوبيا من أجل تحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجيّة هي:

  1. الضغط على مصر من خلال تهديد مَوردها المائي الوحيد، وإجبارها على الانصياع لشروط إسرائيل للسلام، ودفْعها لتقديم مزيدٍ من التنازُل بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي، وهذا ما أكَّدته مصادر عديدة بأنّ إسرائيل تؤدّي دَوراً جديداً من أجل إبعاد مصر عن القضيّة الفلسطينيّة مُستغلَّةً تدهوُر الأحوال الاقتصاديّة لأثيوبيا، وتطلُّعاتها السياسيّة، ناهيك بأنّ أثيوبيا تمدّ مصر والسودان بأكثر من 85% من مياه النيل بحُكم امتدادها مع السودان.
  2. تثبيت أقدام إسرائيل داخل القارّة كهدفٍ استراتيجي ثابت في السياسة الخارجيّة الإسرائيليّة؛ حيث ترمي إسرائيل إلى هدف أكبر وهو تقديم الخبرة الفنيّة والمساعدات الماليّة للدول الإفريقيّة، وبخاصّة أثيوبيا، ما سيُتيح لها فرصة كبيرة لترسيخ وجودها في شرق إفريقيا، ومن ثمَّ الانطلاق إلى بقيّة أنحاء القارّة من أجل تحقيق مكاسب أمنيّة وسياسيّة وذلك عن طريق إقامة الحصار السياسي على الدول العربيّة لتحييد دَورها تجاه مساعيها الاستعماريّة، وكسب تأييد الدول الإفريقيّة لمصلحة إسرائيل في قضيّة الصراع العربي الإسرائيلي.
  3. تنفيذ عددٍ من المشروعات المائيّة البالغ عددها حوالي 40 مشروعاً مائيّاً على النيل الأزرق، ويشمل 26 سدّاً، ومن أبرز تلك المشروعات السدّ التخزيني على نهر “فينشا” – أحد أهمّ روافد النيل الأزرق – إذ ترغب إسرائيل في التوسُّع في هذا المشروع عن طريق إقامة خزّانَين آخرَين على النهر نفسه.
  4. السعي نحو إعداد أثيوبيا لتُصبح مركزاً إقليميّاً استراتيجيّاً تدور في فلكه دولُ مجمّع البحار أي الدول المُشرِفة على مضيق باب المندب، ودول مجمّع الأنهار أي الدول المُشرِفة على حوض النيل، وذلك في إطار ترتيبات جيو – سياسيّة تمّ التخطيط لها منذ وقتٍ طويل مثل:
  • إنشاء كيانات صغيرة وضعيفة حول أثيوبيا مثل: أريتريا التي استقلّت عنها في العام 1993، والصومال، وأوغندا، وجنوب السودان.
  • استخدام أثيوبيا كقاعدة إسرائيليّة يسهل عن طريقها السيطرة على هذه المنظومة الإقليميّة، ومن ثمَّ إحكام السيطرة على المنطقة العربيّة، وشقّها في وسطها عبر محور أثيوبيا – إسرائيل – تركيا

تحرّكات دبلوماسيّة وسياسات تصعيديّة

من ناحية أخرى تَستخدم إسرائيل دبلوماسيّتها في التأثير على دول المنبع من أجل إفشال المفاوضات التي من شأنها أن تعود بالنفع على مصر والسودان، والأمثلة على ذلك عديدة؛ ففي العام 2009 لعبت إسرائيل دَوراً كبيراً في الأزمة التي حدثت بين دول المنبع وكلٍّ من مصر والسودان في “اجتماع الإسكندريّة” الذي حال دون توقيع الاتّفاقيّة الإطاريّة لمياه النيل.

وفي أيلول/ سبتمبر من العام نفسه زار وزير خارجيّتها الأسبق “ليبرمان” ثلاث دول تسيطر على منابع نهر النيل وهي: أثيوبيا، وكينيا، وأوغندا، حيث لكلّ واحدةٍ من هذه الدول أهمّيتها؛ فأثيوبيا تُسيطر على بحيرة “تانا” التي ينبع منها النيل الأزرق، وكينيا وأوغندا تسيطران على بحيرة “فكتوريا” التي ينبع منها النيل الأبيض.

تمكَّن “ليبرمان” خلال الزيارة من التوصُّل إلى تفاهُمات مع رؤساء تلك الدول حول المنشآت المائيّة التي وَعدت إسرائيل بإقامتها عند نقطة خروج النيل الأزرق من بحيرة “تانا” ونقطة خروج النيل الأبيض من بحيرة “فكتوريا” وهذه المنشآت عبارة عن خزّانات ضعيفة تهدف إلى رفع مستوى المياه في هذه البحيرات فضلاً عن التحكُّم بتدفّقات مياه النيلَيْن الأزرق والأبيض وضبْطها.

كما قامت إسرائيل أيضاً بدَورٍ كبيرٍ في تأييد أثيوبيا لاتّفاقيّة حوض النيل التي عُقدت في مدينة “عنتيبي” الأوغنديّة في العام 2010 التي نصَّت على إعادة تقسيم مياه النيل، الأمر الذي أثار وقتها مخاوف مصر إذ لم تُشِر الاتّفاقيّة إلى أيّ حصص محدّدة لدول الحوض في تقاسُم مياه النهر، الأمر الذي رفضته كلٌّ من مصر والسودان.

على أثر ذلك، اتّخذت الدول الموقّعة على الاتّفاقيّة سياساتٍ تصعيديّة ضدّ البلدَين بل وصل الأمر إلى أن ذَهَبَ رئيس الوزراء الأثيوبي السابق “زيناوي” إلى توجيه هجوم حادّ على دول المصبّ، وتحديداً مصر، واتّهامها بأنّها ما تزال واقعة تحت سيطرة الأفكار المتعلّقة بالحقوق التاريخيّة المُكتسَبة والاتّفاقيّات التي أُبرمت في الماضي (1929 و1959).

أيّدت كلٌّ من تنزانيا، وكينيا، وأوغندا، ورواندا الموقف الإثيوبي، مؤكّدةً على أنّ المُعاهدات التاريخيّة التي تستند إليها مصر قد عفا عليها الزمن.

على الرّغم من أنّ اتّفاق عنتيبي لم يتضمّن تقسيماً جديداً للحصص المائيّة لدول حوض النيل، إلّا أنّ خطورته تمثّلت في أنّه قد يتسبّب في فقدان الدول الموقِّعة عليه مشروعات كثيرة لن يتمّ تنفيذها إلّا على مستوى دول الحوض جميعها، فضلاً عن أنّ المانحين لا يُمكن أن يُسهموا في تمويل مشروعات تؤثّر سلباً على مصالح أيّ دولة من دول الحوض ليس بسبب مُخالفة ذلك لقواعد القانون والعرف الدوليَّين الخاصّة بالأنهار الدوليّة فحسب، وإنّما لكون ذلك سيؤثّر سلباً على علاقة تلك المؤسّسات مع الدولة المتضرّرة.

من ناحيةٍ أخرى، تشترك دول المنابع جميعها في تجمّع شرق إفريقيا، وهو تجمُّع يسمح لها بإقامة مشروعات تنمويّة مُشتركة تعتمد على مياه النيل وغيره، ومن ثمَّ ليس هناك أيّة قيمة مضافة ستتحقّق لها بتوقيع اتّفاقيّة جديدة تضمّ الدول نفسها.

في ضوء ما سبق، يُمكن القول إنّ إسرائيل تتبع الأساليب والوسائل كافّة من أجل إضعاف كيان الدول التي قد تمثّل تهديداً على مطامعها في المنطقة، وعلى رأسها مصر؛ لذا تركِّز إسرائيل على قضيّة حوض النيل باعتبارها إحدى أبرز القضايا الشائكة في السياسة الخارجيّة المصريّة، ومن ناحية أخرى تسعى إلى كسْب تأييد دول حوض النيل في المَحافل الإقليميّة والدوليّة في حالة التصويت ضدّ أي مشروع يدين مطامعها الاستيطانيّة في فلسطين.

وبالتأكيد كانت إثيوبيا الاختيار الأفضل بالنسبة إلى إسرائيل التي اتَّخذتها نقطةَ انطلاق لفرْض نفوذها على القارّة – مستغلّةً ضعف إمكانيّاتها الاقتصاديّة وتطلُّعاتها السياسيّة – من خلال التأثير على دول حوض النيل، الأمر الذي بَرز بشكلٍ واضح في قدرتها على إقناع تلك الدول بالتوقيع على اتّفاقيّة “عنتيبي”، الأمر الذي وصفه المحلّلون بالأخطر على مَدار تاريخ سياسة إسرائيل الخارجيّة تجاه إفريقيا، وربّما قد يصل هذا التأثير في المُستقبل إلى إقناع دول حوض النيل بتقليل حصّة مصر والسودان من مياه النيل.

***

*باحث في العلوم السياسيّة من مصر

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

(fooplugins.com)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *