“قُلِعَتْ عَيْنَاهُ فَأبْصَرَ” و”لَمَّتْنَا الحياة”

Views: 482

د. جان توما

 

“كان “للرشيد” جاريهٌ سوداء، اسمها “خالصة”. ومرةً، دخل “أبو نُوَاس” على “الرشيدِ”، ومَدَحَهُ بِأَبْيَاتٍ بَليغةٍ، وكانتْ الجاريةُ جالسةً عندهُ، وعليها مِنَ الجواهرِ والدُرَرِ ما يُذْهِلُ الأبْصارَ، فلمْ يلتفِتِ “الرشيد” اليهِ. فغضِب “أبو النُواسِ” وكتبَ، لدى خُرُوجهِ، على بابِ “الرشيدِ”: 

لقدْ ضاعَ شعري على بابكمْ 

 كما ضاعَ دُرٌ على “خالصة”

ولما وصلَ الخبرُ إلى “الرشيدِ”، حَنِقَ وأرسلَ في طلَبِهِ. وعنْد دُخولهِ مِنْ البابِ محا تجويفَ العينِ مِنْ لَفْظَتِيْ (ضاعَ) فأصبحت (ضاءَ).  ثم مَثُلَ امامَ “الرشيدِ”. فقالَ لهُ: ماذا كتبتَ على البابِ؟ فقالَ:

لقد ضاءَ شِعْرِي على بابِكُم 

كَما ضاءَ دُرٌ على “خالِصَة”

فأُعْجِبَ “الرَّشيدُ” بِذلِك وأجازه، فَقَالَ أحدُ الحاضرينَ: هذا بيتٌ قُلِعَتْ عَيْنَاهُ فَأبْصَرَ”.! 

فاسمحوا لي،  وفقَ واقعِ الحال، أنْ أقلعَ، بقبلة،  عينَ عنوانِ الكتابِ لنبصِرَ،  فنقرأُ: “لَمَّتْنَا الحياة”، وجمعتنا في هذه الأمسيّة على حدّ الأبجديّةِ، فَضَاءَ دُرُّ الكلامْ في “خالصةِ” الأيامْ.

كأنَّ العالمَ، في هذا الكتابِ، سورُ توتِ علّيق، تُشحْبِرُ حبّاتُهُ أصابعَنا لنعاودَ شيطَنَتَنا على ايقاع” رح حلفك بالغصن يا عصفور”،.

كانَّ الحياة، في هذا السِفْرِ،  صارت في هذه الأُلْفة، هنا، والوفاء، حباتِ عِقْدِ ياسمين تطوقُ الجيدَ، تغمُرُ المِعصَمَ، تعطيكَ حريتَكَ، تُطلِقُ يديكَ، بعد أن “أعطيتَ وما استبقيتَ شيًّا”.

أتٍ أنا من طرابلسَ، قارورةِ العطرِ في الزمنِ الجميلِ، إلى جورج طرابلسيّ، لتجديدِ العُروةِ الوثْقى في ثقافةٍ عربيّةٍ تخترقُ الحدودَ، وترفعُ الورقْ في عالمٍ لا أرقّْ، وأشقّْ، وأدقْ، وأحقّْ.

علّمتنا الحياةُ أنَّ الحياةَ تغرَقُ فيكَ، وأنّك بحرُ التناقضاتِ والتّعبِ والتعزيةِ والرجاء. 

أمّا في ما ذهبَ إليه من ترجموا حياتَهم نصوصًا في هذا الكتاب، فهم نصبّوا جسورَ مودَّةٍ لا تنقطع أوردتُها، لأنَّ المِحبرَةَ واحدةٌ، والقلمَ واحدٌ، والإبحارَ على الورقِ وإليه منديلُ وداعٍ مطرّزٍ بيدِ الأمّهات يلوّحْنَ به على رصيف الدنيا  حيث “العمر شراع مسافر”.

جورج طرابلسيّ أَخَذْتَنا إلى عاصمةِ الأبجديةِ، وصيّرتنا مواطني حرفٍ وهُويَّةِ حبر، في زمن المواطنية المفترضة، ساحتْ، في هذه العاصمة، أرواحُنا وضاعَتْ، ولما انتبهنا إلى مسرى العمرِ اكتشفنَا الموتَ، وحينها وقعْنَا على جمالاتِ نبض الحياة.

هذا ليس كتابًا، هذه حارة السقايين. هنا الماءُ الحيُّ الذي نَهَلَ منه الكتّابُ، فصارَ ماءً للعطاش، تطيّبه خُبراتٌ، وما جمعَهُ الخُبزُ والملحُ لا تفرّقُهُ مِحبرةٌ ولا يراع. 

كلّ الوجوهِ في الكتابِِ صارَتْ وجهًا واحدًا، كوجهِ رغيفِ خبزٍ يجمعُ حبّاتِ القمحِ المشتّتةَ من كلّ سهل إلى واحد، يَطْحَنُهُ حجرُ أبجديّةِ منتدى شاعرِ الكورةِ الخضراءِ عبدالله شحادة الثقافيّ، برئاسة الشاعرة ميراي شحادة، وتطهّره نارُ إبداع الكاتِبينْ.

اليومَ اليومَ أقولُ لك : إنْ دَخَلْتَ الكتابَ، ستخرجُ منه، لكنه لن يخرجَ منك، فإنْ قرأتَ الكتابَ، كُلْهُ وكُنْهُ.

والسلام.

***

* كلمة الدكتور جان توما في ندوة عن كتاب ” علّمتنا الحياة”، مسرح جديدة المتن- الخميس 7 تموز 2022

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *