في النظريّة النسويّة البيئيّة

Views: 138

ترجمة: د. رفيف رضا صيداوي*

تمّت ترجمة الجزء الأوّل من مقالة “النسويّة البيئيّة، حركة دوليّة”، للفيلسوفة الفرنسيّة لورانس هانسن لاف Laurence HansenLøve، التي لها إصدارات عدّة كان آخرها: كوكب في حالة غليانإيكولوجيا، نسويّة، مسؤوليّة Planète en ébullition. Écologie, féminisme et responsabilité. تمّت الترجمة نقلاً عندوريّة “علوم إنسانيّة” Sciences Humaines، العدد 349 (تمّوز/ يوليو 2022).

 

عادت النظريّات النسويّة البيئيّة في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2021 لتحتلّ النقاش في فرنسا كما لو أنّها تقتحمه. ففي احتفاليّة بيئيّة نظَّمها حزب أوروبا – الدّفاع عن البيئة – الخُضر (EELV)، قُبيل الانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة التي جرت في نيسان/ إبريل 2022، أثارت المرشَّحة ساندرين روسّو Sandrine Rousseau غضبَ كثيرٍ من المعلِّقين بسبب بعض أحكامها المتطرِّفة.

“العالَم يعاني ويحتضر بسبب ارتفاع منسوب العقلانيّة والقرارات التي يتّخذها مُهندسون. أنا أفضّل نساءً يطلقون تعويذات (في إشارةٍ منها أو إحالةٍ إلى السحرة، الشخصيّات الأيقونيّة أو البارزة في النسويّة البيئيّة) على رجالٍ يبنون مفاعلاتٍ نوويّة”؛ هذا ما صرّحت به ساندرين روسّو مثلاً في مقابلة معها أجرتها صحيفة “شارلي إبدو” في 25 آب/ أغسطس 2021. تصريحات كانت مَثار الكثير من النقد من قِبَلِ خصومها، على اعتبار أنّها، برأيهم، راديكاليّة للغاية، وطائشة، وحتّى ظلاميّة.

هذا التيّار الفلسفي والسياسي، الذي ظَهَرَ في السبعينيّات من القرن الماضي، انطلقَ من فرضيّة وجود علاقة أو رابط بين السيطرة الذكوريّة والنموذج الاقتصادي المسؤول عن الأزمة الأيكولوجيّة. وبحسب دُعاة النسويّة البيئيّة، فإنّ كلّاً من اضْطهاد النساء وتدمير البيئة هُما نِتاج المُجتمع البطريركي.

النسويّة البيئيّة قامت في الولايات المتّحدة الأميركيّة في ثمانينيّات القرن الماضي بوصفها حركة سياسيّة. وبقدر ما هي حركة واسعة وغير مُتجانسة، إلّا أنّها استطاعت أن توحِّد مُناهضين للأسلحة النوويّة، من دُعاة حماية البيئة، ودُعاة سلام، وبالطبع نساء من معتقدات مُختلقة، في جميع أنحاء العالَم.

 

السلطة الذكوريّة

في فرنسا، كان استقبال نظريّة النسويّة البيئيّة سيّئاً في البداية. وذلك لسببٍ وجيه، من بين أسباب أخرى، وهو تأثير سيمون دو بوفوار Simone de Beauvoir الذي ساعَدَ في زرْع فكرة أنّ كلّ فردٍ له ملء الحرّيّة في اختيار مصيره. في الفلسفة الوجوديّة أيضاً “الطبيعة” هي بناء أيديولوجي، ثمّ إنّ تعزيزها فلسفيّاً ما هو إلّا مراوغة خالصة. ففقد كتبت دو بوفوار: “نحن لا نولد نساءً، بل نصبح كذلك”. وانطلاقاً من وجهة النّظر هذه شكَّلت النسويّة البيئيّة قمّة البِدَع.

على الرّغم من ذلك، فإنّه في بلد رينيه ديكارت وسيمون دو بوفوار رأت أولى الأطروحات النسويّة البيئيّة النّور عند نهاية سبعينيّات القرن الماضي. في الخامس من أيّار/ مايو 1978، صرَّحت الكاتبة والناشطة النسويّة فرانسواز دوبون Françoise d’Eaubonne من خلال التلفاز قائلة: ” تثور النساء ضدّ الضَّيم الذي لحق بهنّ بشكل أقلّ من ثورتهنّ ضدّ الضَّيم الذي يلحق بالطبيعة، لكون هذا الأخير هو جريمة قد تفضي في النهاية إلى اختفاء النَّوع الإنساني بأسره، رجالاً ونساءً”.

فرانسواز دوبون هي أوّل مَن استخدم الكلمة الجديدة “نسويّة بيئيّة” في كتابها “النسويّة أو الموت” (Le féminisme ou la mort) الصادر في العام 1974، وذلك في مقابل مؤلَّف “اليوتوبيا أو الموت” (L’Utopie ou la Mort) لرينيه دومون، أوّل مرشَّح بيئي لرئاسة الجمهوريّة في فرنسا في العام نفسه.

في كِتابها هذا تُبيِّن دوبون كيف يعود مَنطِقا تدمير البيئة واضْطهاد النساء كلاهما في أصولهما إلى قواعد النظام البطريركي ومعاييره. وفي رأيها إنّ الحيازة السحيقة لخصوبة الأرض، وكذلك لخصوبة المرأة، والتي تقوم على استغلال الموارد وتدميرها من طرف سلطة الذكور، ليست نتيجة لمثل هذا النظام، كونها تشكِّل مدماكه.

 

هكذا تتميّز دوبون عن النسويّة المقيَّدة التي عرفتها الموجات الأولى للنسويّة (التي لا تدعو إلى تغيير مؤسّسيّ شامل)، وعن كلّ أشكال المشروعات الثوريّة التي، من وجهة نظرها، اكتفت بتوزيع السلطة بشكلٍ مختلف، لكنْ من دون أن يُصار إلى تغييرٍ جوهريّ للعلاقة بين الجنسَيْن. يجب إذن تغيير العصر: “إنّها مسألة انتزاع الكوكب من ذَكَرِ اليوم، لإعادته إلى إنسانيّة الغد. إنّه الخَيار الوحيد، لأنّه في حال استمرّ المُجتمع الذكوري، لن يكون هناك من إنسانيّةٍ غداً”. هذا ما أعلنه بيان “ولادة النسويّة البيئيّة” في العام 1974.

راديكاليّة فرانسواز دوبون لم تؤسِّس لمدرسة في فرنسا. في الولايات المتّحدة، اكتشفت الفيلسوفة الأميركيّة ماري دالي Mary Daly فكرَ فرانسواز دوبون في ثمانينيّات القرن الماضي، وعملت على التعريف به.

في الوقت عَينه، انضمّت ناشطات نسويّات جديدات إلى الحركة المضادّة للأسلحة النوويّة بمناسبة الفضائح البيئيّة. تلك الفضائح التي تُطاوِل قبل أيّ شيء الفئات الأكثر حرماناً وتهميشاً. والنساء هنّ في هذا السياق في الصفّ الأمامي. من رَحَمِ هذه الحركة، انتشرت الناشطات الأميركيّات الأوائل خارج الأسوار الجامعيّة. واحدة من أكثر أفعالهنّ إثارة تمثّلت في حركة “Women’s Pentagon Action“، وذلك في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 1980، التي قامت في أرلنغتون Arlington في فرجينيا. وقد سجّلت الفيلسوفة إيميلي هايش Emile Hache الآتي: “آلاف النساء اجتمعْنَ أمام البنتاغون [مقرّ وزارة دفاع الولايات المتّحدة]. كنّ يغنّين، ويصرخْنَ بغضب، ويبكين(…)؛ بعضهنّ كان يرتدي زيّ الساحرات، ويرمي بتعويذاته السحريّة المؤذيَة على البنتاغون”.

نساء وطبيعة

في مطلع التسعينيّات من القرن الماضي، تابعت باحثات أنكلوساكسونيّات في العلوم الإنسانيّة والفلسفة مثل سوزان غريفين Susan Griffin وكارولين ميرشنت Carolyn Merchant وكارين وارين Karen Warren التنظيرَ حول النسويّة البيئيّة أو الأيكولوجيّة. وفي مقالة بعنوان “القوّة ووعد النسويّة الأيكولوجيّة” (1990)، بيَّنت كارين وارين لماذا لا تنفصل المسألةُ الأيكولوجيّة عن مسألة النساء. العالَم الحديث يتميّز بالازدواجيّة القائمة بين الرجل، كذاتٍ واعية، والطبيعة ككائن غير حسّاس وقابل للاستغلال. بالنسبة إلى النسويّات البيئيّات الأميركيّات، فإنّ هذه الازدواجيّة تشكّل ما هو غير مدروس أو غير المفكَّر به على وجه التحديد، بقدر ما تشكِّل المصدرَ لتبرير الاستغلال اللّامحدود للمَوارد الطبيعيّة. هذه المُغالاة أو هذا التطرُّف، فضلاً عن العنف، يستندان إلى تشابهٍ ضمنيّ بين سلبيّة الطبيعة (أو خنوعها وعدم فعاليّتها) والوضعيّة الدونيّة للنساء.

 

في كِتاب “موت الطبيعة: المرأة، والبيئة، والثورة العلميّة” الصادر في العام 1980 ، تؤكّد كارولين ميرشنت، أستاذة التاريخ البيئي والفلسفة والأخلاق في جامعة باركلي، أنّه منذ العصور الوسطى وحتّى عصر النهضة، تمثَّلت الأرض كأمٍّ راعية تحمل الحياة في داخلها. وهو تمثُّل تربطه ميرشنت بالقيود الأخلاقيّة الصارمة، كمثل عدم طعن الأمّ، وعدم اختراق أحشائها، وعدم تشويه جسدها. عمليّاً، فإنّ ذلك يعني عدم الإفراط في استغلال الأرض وترْك الوقود الأحفوري في مكانه. في القرن السابع عشر، ومع فرنسيس باكون Francis Bacon وديكارت Descartes، أضحت الطبيعة مادّة سلبيّة (أو غير فاعلة) مسخَّرة لأن يتمّ التحكّم بها والتفتيش فيها لخدمة تقدُّم العِلم، والتكنولوجيا، والصناعة. قبل ذلك بوقتٍ قليل، في نهاية القرن السادس عشر، كانت مَحاكم التفتيش تُجبر الساحرات على الكشف عن أسرارهنّ باتّباع منطقٍ يَجمع بين الاستجواب القضائي والسيطرة الجنسيّة.

بالنسبة إلى بعض النسويّات، دخلت النساء بشكل طبيعي في صدىً مع الأرض، أي أصبحْنَ صدىً لها؛ وبات هناك، في بعض النواحي، تقاربٌ طبيعيٌّ بين العنصر الأنثوي والطبيعة – الخصوبة، الهشاشة، النعومة.

وإذا كانت كلٌّ من كارولين ميرشنت وإليزابيث ماير ElizabethMayer قد حذَّرتا من أيّ شكلٍ من أشكال “النّزوع الطبيعيّ”، فإنّ ذلك لم يمنعهما من الدعوة إلى علاقاتٍ جديدة بين النساء والطبيعة، تتّصف بكونها غير هَرميّة، وغير قائمة على السيطرة. بالنسبة إلى إليزابيث ماير ينبغي تعزيز أخلاقيّة معيّنة “تحتلّ مركز الصدارة بين قيَم العناية والحبّ والصداقة والتبادُل”، كقيَمٍ تفترض أنّ علاقاتنا بالآخرين هي ذات دَورٍ محوريّ في فهْم علاقاتنا بالطبيعة والمُجتمع.

مثل هذا البرنامج تمّ العمل به منذ سنوات من خلال المُمارسات التقليديّة للنساء الأيكولوجيّات من العالَم بأسره: النسويّة البيئيّة كانت، ولا تزال، مُمارَسة مُجتمعيّة وتكافليّة قبل أن تكون فلسفة جامعيّة أو أكاديميّة مُناهِضة للديكارتيّة(…).

***

*مؤسّسة الفكر العربيّ

*نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *