غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير”: غوغائية لا تعقل

Views: 28

وفيق غريزي

في بداية حياتي الأدبية، وقع تحت يدي كتاب للمفكر الفرنسي غوستاف لوبون ، ما زلت احتفظ به حتى اليوم، نظرا لاهميته الثقافية والعلمية – التاريخية، وهو “سيكولوجية الثورات”. ومؤخرا اهدتني دار الساقي كتابا جديدا/قديما للمفكر نفسه وهو”سيكولوجية الجماهير”. وقبل ان نتحدث عن هذا الكتاب في طبعته الجديدة، يتوجب علينا القاء الضوء على هذا المفكر الكبير، لأن اجيالنا الطالعة قد تكون لا تعلم شيئا عنه. (https://www.madisonavenuemalls.com/)  

غوستاف لوبون هو مؤسس علم نفس الجماهير. ولد في منطقة النورماندي الفرنسية عام 1841 ومات في العاصمة باريس عن عمر طويل عام 1931، وقد عرف بأنه ذو روح موسوعية من حيث البحث عن المعرفة، ايمانًا منه بأن المعرفة محيط لا متناه. وقد كتب في مجالات وفروع علمية مختلفة، فمن علم الطب الى علم الفيزياء النظرية الى علم الانثربولوجيا والاثار في الهند. 

لقد كان مسار لوبون طويلا ومتشعبا، وانتهى به اخيرا الى ساحة علم الاجتماع وعلم النفس، أو بالاحرى علم النفس الاجتماعي. وقد اعطى خيرة ما عنده ونال شهرة كبيرة. ويكفي ان نذكر هنا اسماء كتبه التي لاقت رواجا منقطع النظير وهي: حضارة العرب – حضارات الهند – الحضارات الاولى – القوانين النفسية لتطور الشعوب – سيكولوجية الاشتراكية – الاراء والعقائد – سيكلوجية الثورات “، وهذا الكتاب موضوع بحثنا “سيكولوجية الجماهير” الذي ينطبق الى حد كبير على جماهيرنا في لبنان. 

 

علم النفس الاجتماعي 

من المعروف ان علم النفس يهتم عادة بدراسة النفسية الفردية ومشاكلها وتعقيداتها من فترة الطفولة حتى سن المراهقة. وعلم التحليل النفسي، الذي اثبت قواعده العالم سيغموند فرويد، يرتكز على استبطان الذات الفردية لا الجماعية من اجل تشخيص عقدها النفسية التي قد تكون ابتليت بها في سن الطفولة، تمهيدا لتحليل انعكاساتها، ثم علاجها اذا امكن ذلك. والكل يعلم مدى تعقيد مصطلحات علم النفس والتحليل النفسي، ومدى تشعب مدارسه واتجاهاته وفروعه. ولكن علم النفس الاجتماعي يستخدم مصطلحاته بطرق اخرى. وهدف هذا العلم دراسة العلاقة الصراعية بين الفرد والمجتمع. اي مدى انسجام الفرد اجتماعيا، او شذوذه عن خط المجتمع. ولكن العلم يتجاوز هذه المسالة في ما بعد لكي يدرس المجموعات في المجتمع وليس الافراد فقط. وعلم النفس الاجتماعي ليس حديث العهد كما يعتقد البعض. بل جذوره تعود الى عصور سحيقة. الى فلاسفة قدماء مثل: افلاطون وارسطو. والى مؤسس علم الاجتماع العربي ابن خلدون. وصولا الى عصر النهضة والفلاسفة: هوبز (1588-1679) وجان جاك روسو (1712- 1778) وفورييه (1792- 1837)  واوغست كونت (1798- 1857). 

يشير مترجم الكتاب هاشم صالح الى ان وسائل العمل التي يستخدمها علم النفس الاجتماعي هي: الرواية الخاصة بعلم المقاييس النفسية. مثلا: دراسة الذكاء. والاستفتاء. والمقابلات. والتحريات الميدانية. والتجارب المخبرية. وحوالي العام (1940) كانت تتنازعه ثلاثة تيارات اساسية هي: التيار السلوكي او التجريبي من حيث المنهج. التيار التحليلي النفسي (او العيادي الطبي). والتيار الثقافي المعتمد على علم الاناسة (الاتنولوجيا).

 

فرويد ودوره في تطوير علم النفس 

إن العالم النفسي سيغموند فرويد الذي شهد الحرب الكونية الاولى وتصاعد اللاسامية في اوروبا، الأمر الذي دفعه الى الهجرة الى بريطانيا، ما كان بامكانه الا ان يطرح بعض التساؤلات على ظاهرة الجماهير وكيف تتحرك وتهتاج وتلعب دورا كبيرا في حركة التاريخ،  “فقد كانت جماهير النازية والفاشية امامه في طور التحضير والتهيئة”، وعلم النفس الاجتماعي بالنسبة الى فرويد: “ليس الا نقلا لمصطلحات التحليل النفسي وتطبيقها على العالم المذكور مع اجراء بعض التعديلات عليها. بالطبع لكي تتناسب مع الجماعات او الجمهور”.

 ورأى روبير ماندرو احد رواد علم النفس التاريخي أن “فرويد كان يريد اكتشاف المنهجية التي تمكنه من ردم الهوة التي تفصل علم النفس الفردي عن علم النفس الجماعي”. 

روح الجماهير 

إن مجمل الخصائص المشتركة المفروضة من قبل الوسط المحيط والوراثة على كل افراد شعب ما، تشكل روح هذ الشعب، وبما ان هذه “الخصائص ذات اصل عائد الى الاسلاف، فانها ثابتة جدا، لكن عندما يحدث ان يتجمهر مؤقتا عدد كبير من الافراد بتأثير من عوامل عديدة، فان الملاحظة العيانية تبيّن لنا بأنه تنضاف الى خصائصهم السلفية – الموروثة مجموعة اخرى من الخصائص الجديدة مختلفة احيانا الى حد كبير عن خصائص العرق الذي ينتسبون اليه”، وتجمهرهم يشكل روحا جماعية جبارة. ولكن موقتة. ولا شك ان الجماهير لعبت في التاريخ دورا مهما. ولكنها لم تلعب هذا الدور بنفس حجم الاهمية الذي تلعبه اليوم. فالعمل اللاواعي للجماهير يمثل احدى خصائص العصر الحاضر. ويقول غوستاف لوبون: “ان الانقلابات الكبرى التي تسبق عادة تبديل الحضارات. تبدو للوهلة الاولى وكأنها محسومة من قبل تحولات اساسية ضخمة”، ويوًكد ان الجماهير غير مبالية كثيرا للتأمل، وغير مؤهلة للمحاكمة العقلية، ولكنها مؤهلة جدا للانخراط في الممارسة والعمل، والتنظيم الحالي يجعل قوتها ضخمة جدا. والعقائد الجديدة التي نشهد ولادتها امام اعيننا اليوم سوف تكتسب قريبا نفس قوة العقائد القديمة: اي القوة الطغيانية والمتسلطة التي لا تقبل اي مناقشة او اعتراض. وهكذا نجد ان الحقوق الالهية للجماهير قد اخذت محل القانون الالهي للملوك”. ومعرفة نفسية الجماهير تشكل المصدر الاساسي لرجل الدولة الذي يريد الا يحكم كليا من قبلها. ولا اقول يحكمها، لأن ذلك قد اصبح اليوم صعبا جدا. ويقول لوبون: “ودراستنا لروح الجماهير لا يمكنها ان تكون إلا توليفة مختصرة او مجرد تلخيص لابحاثنا”. 

 

الجماهير وأخلاقيتها

ثمة العديد من الخصائص الجماهيرية الخصوصية من مثل سرعة الانفعال والنزق والعجز عن المحاكمة العقلية وانعدام الرأي الشخصي والروح النقدية والمبالغة في العواطف والمشاعر. ويرى لوبون ان الخصايص الاساسية للجمهور مقود كليا تقريبا من قبل اللاوعي.. فاعماله واقعة تحت تأثير النخاع الشوكي اكثر مما هي واقعة تحت تأثير المخ او العقل، ويمكنها 

 ان تنجز هذه الاعمال بكل دقة وتمام من حيث التنفيذ. ويقول: “إن الانفعالات التحريضية المختلفة التي تخضع لها الجماهير، يمكنها ان تكون كريمة او مجرمة، بطولية او جبانة، وذلك بحسب نوعية هذه المحرضات، ولكنها سوف تكون دوما قوية ومهيمنة على نفوس الجماهير الى درجة ان غريزة حب البقاء نفسها تزول امامها”. والعواطف التي تعبر عنها الجماهير طيبة كانت ام شريرة تتميز بطابع مزدوج بمعنى انها مضخمة جدا ومبسطة جدا. وفي ما يخص هذه النقطة وغيرها من النقاط نجد ان الفرد المنخرط في الجمهور يقترب كثيرا من الكائنات البدائية. فهو غير قادر على روًية الفروقات الدقيقة بين الاشياء. وبالتالي فهو ينظر الى الامور ككتلة واحدة ولا يعرف التدرجات الانتقالية. وفي ما يخص الجمهور نلاحظ ان المبالغة في العاطفة مدعمة من قبل الحقيقة التالية بما ان هذه العاطفة تنتشر بسرعة شديدة عن طريق التحريض والعدوى. 

وبشان اخلاقيات الجماهير فان لوبون يربط بكلمة الاخلاقية معنى الاحترام الحقيقي لبعض الاعراف والتقاليد الاجتماعية ثم القمع الدايم للنزوات الانانية. فمن الواضح ان الجماهير صاحبة نزوات وغرائز شديدة الهيجان وبالتالي فغير مهيأة لاحترام النزعة الاخلاقية. 

هذا ويتضمن الكتاب ثلاثة اقسام، وخلاصة موقف غوستاف لوبون هي انه يرى ان الجماهير غوغائية لا تعقل. فهي ترفض الافكار او تقبلها كلا واحدا. من دون ان تتحمل نقاشها او مناقشتها. مما يقوله الزعماء لها يغزو عقلها سريعا فتتجه الى ان تحوله حركة وعملا. وما يوحى به الى الجماهير ترفعه الى مصاف المثال ثم تندفع به. في صورة ارادية الى التضحية بالنفس…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *