الدكتور نديم نعيمه و “العبور الأخير إلى الشخروب”

Views: 173

صدر عن دار نلسن للنشر في بيروت كتاب “العبور الأخير إلى الشخروب” للدكتور نديم نعيمه ويتضمن ثلاث قصص قصيرة.  من الكتاب  نختار “كيس القمامة والنّسر”.

 

كان في طريقه إلى البنك؛ هو الطريق نفسه الذي يسلكه إلى عمله كل صباح منذ إحدى وثلاثين سنة، بالسيارة عندما يكون الطقس ماطراً، وعلى القدمين في ما عدا ذلك. يخرج من الدور الثالث في بناية “الزنتوت” ذات الطوابق الخمسة، ويهبط الدرجات السبع والعشرين إلى الزاروبة الضيّقة التي تفضي إلى الشارع العام. يردّ الصباح بهمهمة تخرج من مكان ما بين شفتيه المقفلتين وخيشومه، على أم العبد، زوجة الناطور السمينة المتصابية التي تشطف الزاروبة، من غير أن ينظر إليها، ثم يسلك الرّصيف بمحاذاة سور المعهد إلى أن يبلغ التقاطع على بعد ما يقارب الخمسماية متراً، فينعطف يميناً مايتي متر أخرى تقريباً، مارّاً أمام عدد من محال الأحذية والملابس والنظارات والأدوية والسكاكر إلى أن يبلغ بنك الإعمار في آخر الشارع.

كان في الثالثة والخمسين. أنيق منتهى الأناقة في ملبسه، نحيل البنية أقرب إلى الطول منه إلى القصر. في كتفيه بعض الإحديداب، لعلّه من طول جلوسه إلى المكتب مكبّاً على ما أمامه من أوراق ومعاملات .فهو ما كان يبرح كرسيه طوال ساعات الدوام إلا لضرورة تقتضي ذلك. عصبي المزاج قليل الكلام صارم القسمات. يلبس نظارتين رفيعتين على أنف طويل معقوف ينتهي إلى أرنبة حادة. أبرز ما في وجهه قسمتان اثنتان: جبين عريض تراجع عنه ما تبقى من شعر أملس لصيق، حتى منتصف الرأس فأعطاه هيبة العالم أو المخترع أو الفيلسوف، وفم برزت فيه شفة سفلی غليظة منقلبة حتى إذا أطبقت عليها أختها العليا الرقيقة بدت وكأنها شرفة يستظلّها ذقنه العاري إلا من غمازة ضيقة وعميقة في أسفله.

كان زملاؤه ومرؤوسوه في البنك، نادراً ما يسمونه فيما بينهم باسمه، وهيب، ويفضّلون لقب “لوجيك” الفرنسي، الذي باتوا يعرفونه به منذ زمن بعيد، فيقول واحدهم للآخر في فرع المحاسبة الذي كان هو مديره المسؤول: وقّع هذه المعاملة أو هذه الجردة أو هذا الشيك عند “المستر لوجيك”، أو إسأل في هذه العقدة المصرفية أو تلك “المستر لوجيك”، أو عليك أن تعود في هذه المأذونية أو هاتيك إلى “لوجيك”.

أما اللقب فيعود إلى مبدأ صارم عنيد إلتزمه صاحبه فغدا عنده بمثابة فلسفة حياة لا يمكن أن يحيد عنها مهما كانت الاعتبارات. أن يحيد عنها يعني بالنسبة إليه الضياع التام الذي لا يمكن الخروج منه إلا بالانتحار. ولقد اقترب غير مرّة خلال الحرب في بيروت أن ينتحر فعلاً، فكان يعود عن ذلك في اللحظة الأخيرة.

“يا أخي! الدنيا منطق، “لوجيك”، كان يقول، “ما خرب العالم إلا العواطف. في اللوجيك أو في المنطق، واحد زائد واحد يساوي اثنين. لا خلافات في ذلك ولا حروب ولا انقلابات ولا شدّ بالزرادیم ولا تمسك بالخناق ولا إحراق المدينة. لك معي إذن أعطيك تماماً على قدر ما لك عليّ. لي معك! تعطيني تماماً قدر ما لي عليك. لا زيادة ولا نقصان. فلا حواجز ولا خطف على الهوية ولا جثث محروقة ولا قذائف ولا مدن قد تحوّلت إلى رمم.

“في العواطف، واحد زائد واحد قد يساوي خمسة أو خمسماية، أو مليوناً أو بليوناً أو ملياراً والله أدرى. شاء الاسكندر، ‏مثلاً، ‏أو نابوليون أو هتلر أو غيرهم ممن لا يحصون في التاريخ، ‏وهم أفراد، ‏أن يساووا بأشخاصهم ملايين الأفراد الآخرين فخرّبوا أنفسهم وخرّبوا التاريخ. ويشاء المستغلّ وهو بمعدة واحدة، ‏أن تساوي معدته الواحدة في اتساعها ملايين المعد. وشاء بعضهم عندنا أن يستبيحوا بلدهم ويلتهموه آكلين حصتهم وحصة الآخرين. وإذ انفجرت الأحداث نتيجة ذلك، انتحوا جانباً في قيلولة ريثما يهضموه. وعندما هضموا ونهضوا ليأكلوه من جديد وجدوا أن ما استبقوه منه صار في المجارير.

“أنت حسب المثل الانكليزي لا تستطيع أن تلتهم تفاحتك وان تحتفظ بها في وقت واحد. إنه اللوجيك، ‏يا أخي، ‏إنه المنطق. زح عن اللوجيك ودخّل العواطف في حياتك وفي علاقاتك مع الآخرين، ‏تضيع. تغيم الحدود. ينخلع عقلك، ‏يطير صوابك، ‏تخرج عن توازنك، ‏تدخل الحائط، ‏تصير في موقف، إمّا أن تتمسك بزرادیم الآخر، ‏تخنقه، ‏تقضي عليه، ‏وإمّا أن تقتل نفسك..”.

بمثل هذه القناعات كان يباشر أعماله كلها في البنك. فاستجابته لكل شأن من شؤون العمل كانت دائماً قصيرة وجدّية وحاسمة وعلى قدّ النقطة بلا زيادة كلمة لا تقتضيها الضرورة أو إسقاط أخرى كان من الضروري أن تقال. وكل ذلك بوجه جامد لا تعبير فيه، ‏سواء أجاء السؤال من كبير أو من صغير، من ذكر أو من أنثى، من قبيحة قبح الهمّ أو مليحة ملح الرغيف الساخن. يجيب، ‏أو يقوم بالضروري ثم يعود إلى ما كان فيه من قبل حتى ولو ظلّ السائل واقفاً بانتظار المزيد. أن تسأل زيادة عمّا أوجزَتْ فيه الإجابة أو أن تخرج عن موضوع السؤال إلى ما لا يتعلق به أو يمتّ إليه من شأنك أو شأن العمل أو شؤون الآخرين، يعني أن تقع الكارثة: ينعقد ما بين الحاجبين، وتدق الأنف وتتشنّج أكثر مما هي دقيقة ومتشنجة، ثم يأتيك من فوق الشفة السميكة المنقلبة التي سرعان ما تتكور لتصبح في ضعف حجمها، لا سيل من الكلام، بل رشق من الإبر في صيغة الكلام، يسدد إلى مواطن الحساسية في عقلك أو قلبك أو مجرد انتمائك إلى الجنس البشري.

الكلّ يذكر يوم اجتمع البنك كلّه علیه وعلی إحداهنّ من المودعات. كانت من المترفات اللواتي ما زالت عليهن أطلال من جمال جسدي قديم. ولأن ما من جمال آخر فيهن يلجأن إليه، يتصرّفن بمقتضى ذلك

القديم وهن يجهلن أو يتجاهلن انه انقضى.

جاءته سريعة، وكعبها العالي يدقّ الأرض دقّاً، ووقفت أمامه ببنطالها الجلدي المشدود وقميصها المفتوح إلى ما يجاور الحلمتين، ووجهها المدبّج بالمساحيق، وشالت بكتفها اليمنى إغراءً على طريقتها ثم ألقت أمامه، متجاهلة سائر المنتظرین قبلها، كدسة من الأوراق المشكولة قائلة مع هزّة مدروسة بالرأس العامر بالشعر الأشقر المصفف:

-“مسيو وهيب، بونجور”.

وكانت حريصة على أن تخرج الراء الفرنسية بصيغة الغين.

فأجابها وهو مكبّ على ما بين يديه من معاملات المنتظرين، بتلك الهمهمة عينها التي اعتاد أن يخرجها من مكان ما بين الشفتين المقفلتين والخيشوم:

-“ه ه م”.

-مسيو وهيب، ‏ما لي غيرك. دبرني على السريع.

-أمّا أنا فلي غيرك كما ترين.

مشدّداً على الغين في الراء الأخيرة.

-الشوفير ناطر بالروفر برّا. عامل “باركن” على الرصيف بالمكان الغلط. أرجوك. والراء بصيغة الغين دائماً.

-وأنت أيضاً عامله باركن هنا بالمكان الغلط. أرجوك .

قالها وهو مستمر في عمله من غير أن يرفع إليها  عينيه.

-مهضوم أنت مسيو وهيب، ‏شو فاضي بالك. أقول الشرطي قد يمرّ في أي لحظة. أتريدني أن أعركها معه؟

وأخرجت من حقيبتها مروحة راحت تروح بها لا اتّقاء للحرّ، ‏فالمكان مكيّف، ‏بل تعبيراً عن ضيقها بالتباطؤ، ‏فسمع للسوارين الذهبيين في معصمها رنين ملفت.

-والشرطي هو أيضاً بارِك في المكان الغلط. أتريدين ان تعركيها معي ومع هؤلاء الواقفين؟ رجاء مدام، ‏خذي مكانك من الدور.

-مش معقول أنت مسيو، ‏هيدا مش لوجيك! أبداً مش لوجيك! أين المدير؟ أريد کلمة مع المدير!.

وظلّت واقفة تلوّح في عصبية بمروحتها، ‏ترفع كعباً عن البلاط وتنزل آخر.

كانت أول مرّة يرفع إليها عينيه، فبدا له ذراعاها المرفّهان وصدرها الوقح وشعرها المصنّع وصوتها الذي يخرج من خلف الأصباغ. “إذن هذه من الذين يأكلون تفّاحتهم ويصرّون على الإبقاء عليها في آن واحد، هؤلاء هم الذين تسبّبوا بإحراق البلد، قال في نفسه. ومرّت في خاطره مرور الشرر صورة بنت جيرانه الطفلة قبل سنوات حين اغتالتها شظية وهي مستلقية تلهو مع قطتها فوق الكنبة على الشرفة. كان هو أسبقهم إليها. حملها بدمها على ذراعيه فما لبثت أن لوت عنقها ومضت. ظلّ واقفاً من غير حراك كالأبله، ‏ينظر إليها بعينين غائمتين فيراها تكبر على صدره ثم تكبر ثم تكبر حتى تصبح بحجم الوطن المهدّم. ثم لا يلبث الوطن أن يصغر ثم يصغر ثم يصغر إلى أن يصبح بحجم طفلة ميتة.

لم يشعر إلا وهو يصيح بصوت منكر خضّ البنك كله:

-إنتوا اللي خرّبتوا البلد. بالدّور مدام! بالدّور! صدرك مش لوجيك، ‏وجهك مش لوجيك، ‏شعرك مش لوجيك، ‏وجودكم كله مش لوجيك، ‏الله مش لوجيك.

وكاد يصل بأصابعه المنفرجة ويديه الخارجتين كالسهم إليها، ‏لولا أن حال دونها عدد من الموظفين الذين أرعدهم الصوت. وإذ اقتادوه إلى غرفة ملاصقة لتهدئة أعصابه، ‏جلس على كرسي في الزاوية وأدار ظهره إليهم ووجهه إلى الحائط وراح يجهش کالطفل.

***

كان نادراً بصفائه وإشراقه ذلك الصباح من كانون الثاني، ‏عندما انعطف مستر لوجيك إلى يمينه عند آخر السور سالكاً طريقه إلى البنك. كان يرى عن بعد الجدران السود في وسط المدينة المهدّمة والحفائر الغائصة في مستنقعات من مياه المجارير الفالتة وأطلال الشوارع المهجورة إلا من بعض المعدمين من شتات الناس الباحثين كالذباب في أنقاضها عمّا يمكن أن ينضحه أموات لأحباء. كل هذا بالنسبة له لم يكن ليبدو نافراً وعدمياً في نهار شتائي ماطر، ‏أما هذا الصباح، ‏والثلج يتلألأ كالماس على الجبال البعيدة التي تلف المدينة من جهاتها الثلاث ومن جهة ثلجية رابعة، هي طيور النورس البيضاء التي تحوّم أسراباً فوق زرقة المتوسّط – أما هذا الصباح فالمدينة الخربة جرح في العين، ‏دمّل في الوجه الصبيح، ‏بل شظية في صدر طفلة.

كان يسير وكل هذا التجمّع من اللامنطقي واللامعقول يفسد عليه نقاء صباحه. إنه يحسّه كالبلاطة تضغط على صدره فتحول دون أن يتنفّس بملء رئتيه. كان قد أصبح بمحاذاة الصيدلية عندما تناهى إليه صوتها:

-من مال الله. الله يخلّي شبابك. الله يستر عليك. الله لا يجربك.

لم يأبه في البداية لها، ‏بل تجاهلها تماماً كعادته مع المتسوّلين منذ أول عهده بهم. أن يكن من “لا منطق” ولا معقول، ‏فإنهم إياه بعينه: يستنزلون من الله ما يسترون به عليك وهم المكشوفون. ويتوقعّون منك أن تصدق جدوى أدعيتهم الإلهية فتدفع لهم ثمنها وهم أوضح برهان على أنها غير مستجابة. إنهم كالبلد كله، ‏تجار عواطف ونفاق.

كان قد تخطّاها بضع خطوات عندما ردّه إليها ما يشبه السمّ الحاقد يتململ ثم ينسلّ من جميع أرجاء اللاوعي فيه ويتجمّع في صدره كتلة متفجرة من غضب:

-أنتِ! أنتِ! ألا تنقلعين من هنا. قومي انقلعي. كيف تطلبين من مالي أنا، ‏من ملكي “أنا”، ‏من عملي “أنا” ما لم تعملي “أنت” شيئاً، فقط شيئاً لتستحقيه. كنسي درجاً، نظّفي مغسلة، ‏إسقي حوضاً. أما من دم في هذه الجثة؟

وكان مع كلّ “أنا” في “مالي أنا” و”ملكي أنا” و”عملي أنا”، ‏يضرب بجمع يده على صدره وكأنه يضربها هي، ‏أو كأنه يضرب من خلالها جميع تجار العواطف الذين ذهبوا بالبلد.

كانت جالسة على الرصيف منفرجة الساقين وظهرها إلى الحائط. على رأسها نقاب أسود يلفّ شعرها وخدّيها وذقنها ولا يبقى من الوجه إلا ما ينبئ بأنها امرأة، وأنها في حدود الخمسين. على الباقي من جسدها شيء ما أسود أيضاً يغطيها حتى القدمين الحافيتين، ‏وقد بالغت في تقطيبه ولفقه وترقيعه حتى غدا وهو منتفخ بها كأنه كيس القمامة.

نزلت إِبَرُه كلّها عليها وكأنها تسقط على حائط.  فكيس القمامة لم يعدّل شيئاً ممّا كان فيه، ‏بل راح يكرّر بالرتابة عينها كأن شيئاً لم يحصل:

-من مال الله، ‏الله يخلّي شبابك، ‏الله يستر عليك، ‏الله يخلي محبّيك.

لم يكن قد لاحظ تحت غبار هجومه علیها، الطفل الجالس على بسطة الرداء. بين فخذيها على الرصيف، وهو يلهو بزجاجته الفارغة. كان عليه لباس صوفي أزرق بلون السماء يغطي كافة جسمه، ‏مزيّن بشرّابتين من أصل نسيجه متدليتين بخيطين من الزمّامة عند العنق، ‏وبشرّابتين أخريين على ظهر مجمع الأصابع في كل من القدمین. كان في حدود الشهر السابع من عمره. ولم يكن يفتقر هو والثوب إلى مزيد يذكر من نظافة.

وكأنّ منظر الطفل قد صبّ زيتاً على ناره فازداد هياجاً: الطفل حتماً ليس طفلها، ‏ولا مظهره مظهرها. أعُهْرٌ يتوسّل الطفولة؟ على من تضحك هذه المزبلة؟

-أتنقلعين من هنا؟ وإلا قلعتك بيدي هاتين وبقدميّ.

وكرّ عليها هذه المرة بعنف أشدّ محدِّباً ظهره مطاوعة لرأسه المسدّد بكل قسماته إليها، ومادّاً نحوها ذراعيه وكفّيه بأصابعهما المفتوحة على استدارة وتشنّج. فكأنهما المخالب لنسر أسطوري على وشك الإمساك بطريدته قبل أن يقلع بها ويطير.

وكأنّ المنظر الأسطوري هذا قد راق الطفل إلى أقصى حد فحمله محمل التودد والمداعبة، وراح وهو يحدّق إلى النسر الهاوي، يكرّ ضاحكاً مرسلاً مع كل كرّة تلك الترجيعة الطفولية في الصوت، التي ينشل معها كل هجوم.

وجاء من كيس القمامة المندلق على الرصيف الكلام نفسه مكرّراً بالرتابة نفسها.

-الله يخلي شبابك، الله يخلي محبّيك، الله يستر عليك، من مال الله…

كان قد استعاد وقفته الأولى من غير أن يستعيد هدوءه، وعيناه هذه المرة على الطفل الهازج في وسط ذلك الخضم من السواد:

-تطلبين من مال الله؟ وما دخلي أنا أو دخل غيري بينك وبين الله. هذا أنت وهذا هو.

“قالوا الكردي نطّ الحيط؟ هذا الكردي وهذا الحيط”.

وكان يقوم مع كل عبارة بالحركة المناسبة من يديه، حتى إذا وصل إلى الكردي والحيط وحرّك إحدى ساقيه بما يشبه النطة طار الطفل ضحكاً وانفرجت شفته السفلى عن سِنّين اثنين كان فمه القرمزي حديث العهد بهما. أما يداه، فواحدة كان يهزّ بها قنينته الفارغة وأخرى كان يمسك بها الشرّابة عند طرف القدم ويشيل رجله عالياً مع كل ضحكة ثم يحطها.

وانتبه هو إلى أن الحوار بدأ ينتقل إلى المحاور الخطأ، ويتخذ مجرى غير المجرى الملحق الذي كان له في الأصل. فلم يرقه ذلك. ولا راقه أن ينسحب من المباراة من غير أن يسجّل ولو ضربة واحدة ناجحة ونهائية ومفحمة. فلم يجد نفسه إلا صائحاً بعد أن أخرج محفظته من جيبه هازّاً بها في وجهها:

-أهذا مال الله الذي تطالبين به؟ الطفل أيضاً من مال الله. نحلّها مالاً بمال. خذي هذا وهاتي ذاك. منطق! لوجيك! أليس كذلك؟

وهمّ بذراعيه إلى الطفل، وهو يصطنع منتهى الجدية والغضب، يريد أن يوهمها بأنه فعلاً يقتنصه ويذهب به، علّها إذ ذاك، وقد وصل السكين إلى العظم، تنتفض فتستفيق على عبثية موقفها وعلى أن واحداً زائد واحداً يساوي بكل بساطة اثنين لا أكثر ولا أقل.

لكن شيئاً من ذلك لم يحدث. ظل كيس القمامة ملقى مكانه من غير أي تعديل في جلسته أو في نبرته التي جاءت كالمعتاد:

-من مال الله. الله يخليلك شبابك. الله يستر عليك…

فكأنه في جموده وجلبابه الحالك والطفل هازج زائغ بين ساقيه، كواحد من هذه الجدران المحروقة في المدينة، أو كواحدة من أكوام النفايات بين الخرائب التي غالباً ما يأتي الربيع فتنبت فيها الأعشاب البرية المزهرة.

عرف عن يقين أن ضربته “الفينالي” التي علّق عليها كل آماله، قد جاءت في الفراغ، ولم يبق أمامه سوى أن يعترف لنفسه بالهزيمة وينسحب. إلا أنه من بعد أن همّ بالطفل مادّاً نحوه ذراعيه إيهاماً بخطفه، لم يدرِ إلا ووجه طفولي ضاحك بسِنّين بارزين يشرئب نحوه، وإلا بأصابع طريّة تخبط نحوه فتنزلق على خشونة كفّيه. أحسّ  في عمق أعماقه أنّ “اللوجيك” بدأ يهتزّ، وأدرك، وهو الصارم الذي لم تأخذه يوماً عاطفة فيعشق أو يتزوج أو ينجب، أن التراجع لم يعد ممكناً. أخذ الطفل بمجمع كفّيه فشدّه إلى صدره شدّة طويلة، ثم أبعده على مدى ذراعيه لكي يستطيع أن يتملى وجهه بالكامل ثم قال:

-أنت! يا شيطان!

ثمّة أمور كثيرة هي بحاجة أن يعاد فيها النظر.

وبعد أن أعاد الطفل إلى حيث كان من كيس القمامة، نظر إليه بصمت ثم أدار وجهه ومشي.

20/ 2/ 1997

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *