ميشال أسمر… عهد الندوة اللبنانية

Views: 575

المحامي معوض رياض الحجل

انَ دراسة وتوثيق مسار تطور الحياة الفكرية والثقافية والاجتماعية الحديثة في لبنان تستدعي التوقف مطولاً عند عهد رائد: عهد “الندوة اللبنانية” التي أسسها الراحل الكبير ميشال أسمر في العام 1946، أي بَعدَ مضي ثلاث سنوات على نيل لبنان استقلاله التام عن فرنسا. استمرت نشاطات “الندوة اللبنانية” الفكرية حاضرة بزخم وتجدد في أوساط النخب الثقافية والسياسية والإدارية اللبنانية طوال الربع الثالث من القرن العشرين، حتى عشية أندلاع شرارة الحرب المشؤومة في العام 1975.

“كان على هذا المنبر أن يُقدم في ما يُقدم ميشال شيحا وشارل قرم في فكرتهما المُتوسطية وبيار الجميل وبيار أده وجميل مكاوي وغسان تويني في مفهومهم الديموقراطي، والفريد نقاش وحميد فرنجية وصائب سلام وفيليب تقلا في قولهم بتنظيم الدولة، ومحيي الدين النصولي وأدوار حنين في برلمانيتهما، وكمال جنبلاط في أشتراكيتهِ، وأن يقدم غبريال منسى وجوزف نجار وموريس الجميل وأبراهيم عبدالله وشارل عيساوي في ما يذهبون اليه من تصميم أقتصادي، وفؤاد البستاني في كيف يرى العروبة المُنفتحة”(ميشال أسمر – 1967).

 

ميشال أسمر في سطور

ولدَ ميشال أسمر في العام 1914 في بلدةِ جديدة المتن الساحلية. تلقى علومهُ في مدارس الاخوة المسيحيين(الفرير) في بيروت ونالَ منها شهادة البكالوريا. في البدء أختارَ التعليم مهنة فدرس مادة الترجمة في مدرسة الحكمة والجامعة الأميركية في بيروت ثم أنصرفَ إلى عالم الأدب والفن.

أسسَ في العام 1946 “الندوة اللبنانية” وأصبحَ في العام 1955 مُديراً أدارياً للبعثة العالمية لترجمة الروائع العالمية – مركز بيروت.

-أوجدَ مع بعض الأدباء والفنانين الجمعية اللبنانية للأدب والفن. تم تعيينهُ أميناً عاماً لمهرجان الأديب ميخائيل نعيمه(أيار 1978).

– أطلقَ في أيلول 1977 حركة مُتجددة في الندوة اللبنانية دعاها “حركة الندوة اللبنانية” تهدف إلى أعادة بناء لبنان والتمسك بهِ كجمهورية مُستقلة والولاء لهُ والالتزام بمصلحتهِ ومُساعدة المواطن في تنشئتهِ الوطنية ليكون للأمة اللبنانية ضمير مُشترك.

– في أيار من العام 1980 عيّنهُ الوزير بطرس حرب مُستشاراً ثقافياً لوزارة التربية والفنون الجميلة، وكان أول نشاطهُ الدينامكي أجراء مسح ثقافي شامل لكافة الاراضي اللبنانية ليكون نقطة الانطلاق لتحرك رسمي فعلي.

 

مؤلفاتهِ:

  1. يوميات ميشال سرور
  2. لبنان أرض المحبة.
  3. بعد المحنة وقبلها.
  4. نشرة الندوة اللبنانية.
  5. مُحاضرات وأبحاث أذاعية وعلمية وأدبية.

– آخر نشاط فكري لهُ كان اصدار الخماسية الانطاكية/ ابعاد مارونية للأب يواكيم مبارك (باللغة الفرنسية).

– وآخر كلمة كتبها لتقديم هذه الخماسية في اكليريكية غزير المارونية بعد ظهر يوم السبت 15 كانون الاول 1984(أي قبل أيامٍ قليلة من رحيلهِ).

 

أثر جبران وطيف شيحا

وقد يكون الأثر الفكري والفلسفي لجبران خليل جبران دور كبير في تكوين شخصية ميشال أسمر في بدايات شبابه، ومن العوامل الدافعة نحو ولادة تلكَ الفكرة الرائدة التي طبعت عملهُ ونشاطه في “الندوة اللبنانية”. بالاضافة إلى تأثير جبران، يحضرُ أمامنا أيضاً طيف ميشال شيحا، المُنظّر الابرز”للفكرة اللبنانية” وأب الدستور اللبناني(1926)، صاحب كتاب”لبنان في شخصيتهِ وحضورهِ” الذي ترجمه إلى العربية فؤاد كنعان، وصَدرَ في العام 1962 عن “منشورات الندوة اللبنانية”. كان ميشال شيحا قد حَاضرَ بالفرنسية في عنوان “لبنان اليوم” عام 1942، مُختتماً سلسلة مُحاضرات نظّمها “نادي الشبيبة الكاثوليكية” وتناولت “لبنان على مرّ التاريخ“. 

لبنان ميشال شيحا “شيخ جاوزت سنّه ألوفاً ” من السنين، من دون أن “يَعْجَبَ حينما يقال إنه في ريعان شبابه”. فهو كذلك “الطائر الأسطوري، فينيق، الناري الريش، الذي ما كان ليحترق حيناً ويموت حتى ينبعث من رمادهِ”.

سرعان ما أصبحَ ميشال شيحا أحد أبرز الرعاة الثقافيين لـ”الندوة اللبنانية”، وكثيراً ما وقف على منبرها مُحاضراً في مُناسباتٍ ثقافية مُتتالية، قبل أن يرحل في العام 1954، بعدما كتب خواطره التأملية باللغة الفرنسية في صحيفته “لوجور”، ما بين 1943 و1948، فترجمها إلى العربية جميل جبر، وأصدرتها “دار النهار” و”مؤسسة شيحا” العام 1997. في هذه التأملات لم يكف ميشال شيحا عن مديح لبنان المتوسطي “الذي يتقبل الناس مناخهُ من أين أتوا وتتزاور فيه الحضارات وتتبادل المُعتقدات واللفات والطقوس تحيات إجلال. بلادنا متوسطية قبل كل شيء، لكنها، شأن المتوسط نفسه، تُحسُّ بشعر العالم”.

 

ظروف نشأة الندوة اللبنانية

الانطلاقة كانت في صيف العام 1946. كان ميشال أسمر حينئذٍ في الثلاثين من عمرهِ وكونهُ من مواليد الحرب الكبرى أتيحت لهُ الفرصة في خلال الحرب العالمية الثانية وفي السنوات القلائل التي سبقتها أن يعيش الوقائع التي كان لها في حياتنا الوطنية الكلمة الفصل:

1936: مفاوضات لم يُحالفها النجاح لابرام معاهدة فرنسية/لبنانية.

1943: الاستقلال وما رافقهُ من علامات أستفهام كبرى لم تقترن بجواب يطمئن الشعب اللبناني.

1945: انتهاء الحرب العالمية الثانية وأنضمام لبنان إلى جامعة الدول العربية والى هيئة الامم المتحدة. 1946: جلاء جميع الجيوش الاجنبية عن أراضي لبنان وفتح صفحة جديدة في تاريخنا الوطني.

في ظل هذهٍ الاحداث التاريخية المُتسارعة دولياً وداخلياً بزغت فكرة أنشاء منبر مُلتزم يُهيىء الشعب اللبناني لمعرفة ذاتهِ بشكلٍ موضوعي وعلمي دونما تحيز عاطفي أو مذهبي مع طرف ضد آخر.

من أبرز المُحاضرين من على منبر ” الندوة اللبنانية”(مع حفظ الالقاب):

– كمال جنبلاط (1917-1977)

– غسان تويني (1926-2012)

– نادية حماده تويني (1935-1983)

– رينه حبشي(1915-2003)

– ناصيف نصار (1940-)

– يوسف الخال (1917-1987)

– جورج نقاش (1904-1972)

– المفكر ميشال شيحا (1891-1954)

– الأب يواكيم مبارك (1928-1995)

– الشيخ صبحي الصالح (1926-1986)

– الأب جوزيف لوبريه (1897-1966)

– فؤاد فرام البستاني(1904-1994)

– موريس الجميل (1910-1970)

 

“الندوة اللبنانية” برلمان فكري ثقافي طليعي

إلى جانب البرلمان اللبناني الحديث التكوين، إب أن انتهاء ذيول الانتداب الفرنسي، ليكون إطاراً سياسياً لتعارف أقطاب السياسة والعائلات السياسية، نشأت “الندوة اللبنانية” بعيد الاستقلال لتشغل دور “برلمان فكري وثقافي” يرعى فكرة الاستقلال ويشرح وصيغتها الميثاقية والدستورية، يُفعّلها ويمنحها أبعاداً جديدة، ويربطها بحقب التاريخ اللبناني المُفترض، وبدور لبنان في مُحيطهِ الاقليمي والدولي، لذا كان لا بد من أيجاد أطر ومُنتديات فكرية ومنابر، إلى جانب الندوة البرلمانية، تعملُ على إعطاء معنى فكري وثقافي مُتفاعل ومفتوح للبنان ودوره الفاعل على الصعيدين الاقليمي والدولي، مُتجاوزاً الدائرة السياسية الضيقة الى الدوائر الاجتماعية والثقافية، فكانت “الندوة اللبنانية” الاطار أو المنبر الوطني الأرحب من دون مُنازع.

“الندوة اللبنانية”: منبر جديد “رحب غير عكاظي”

بموازاة “الاكاديمية اللبنانية للفنون” و”مهرجانات بعلبك الدولية” اللتين تأسستا في خمسينيّات القرن الماضي واللتين أستقطبتا خبرات وطاقات جديدة في فنون الرسم والمسرح والموسيقى والغناء والعروض الفولكلورية، نشأت “الندوة اللبنانية” وتوسّعت نشاطاتها وأعمالها كمنبر ثقافي وطني للتعارف والتلاقي والتواصل بين النخب الفكرية اللبنانية المُتنوعة، وتفاعلها الحر والايجابي، لمُتابعة صوغ “الفكرة اللبنانية” الاستقلالية والدستورية وتطويرها.

وقد شَرحَ مؤسس “الندوة اللبنانية”ميشال أسمر في شهادةٍ لهُ (نشرتها جريدة”النهار” اللبنانية غداة وفاتهِ في 24 كانون الاول 1984)، دوافع ولادة فكرة “الندوة اللبنانية” في خاطرهِ، وأشارَ الى ان “بزوغ” تلكَ الفكرة لديه، جاء للخروج من إطار المنابر “العكاظية المتوافرة يومذاك في جامعتي القديس يوسف والاميركية”، وذلك لإيجاد منبر جديد أرحب لـ”حشد القيم اللبنانية الأصيلة من دون تمييز واستنهاضها للعمل معاً رجاء أكتشاف وجه بلادنا من جديد (…) وأشراك جميع اللبنانيين في هذا الجهد البنّاء”.

 

المراحل الثقافية لــــ”الندوة اللبنانية”

مرت “الندوة اللبنانية” في عقودٍ وعهود ثقافية مُتعددةأبرزها:

بين عامي 1946 – 1958: كان هدفها تعميم فلسفة سياسية للبنان، وتوضيح هويتهِ وترسيخ ثقافتهِ الميثاقية، وكان ميشال شيحا وجواد بولس وأبراهيم عبد العال وشارل عمون ورينه حبشي، من أبرز المُحاضرين، إضافةًإلى كثير من الشخصيات السياسية. 

بين عامي 1958 – 1967: شعرت “الندوة اللبنانية” بحاجة لبنان المُلحّة إلى الرؤية الاجتماعية، بعد انتهاء أحداث 1958 الدموية، فعملت “لتكون رافعة ثقافية” لمشروع بناء الدولة اللبنانية الحديثة وتطوير مؤسساتها الرسمية في العهد الشهابي ثم عهد الرئيس شارل حلو. 

بين عامي 1967-1975: بَعدَ هزيمة حزيران 1967(حرب الايام الستة) وظهور المُنظمات الفدائية في لبنان، أستشعرَ مؤسس”الندوة اللبنانية” حجم الاخطار الكارثية المُحدقة بالوطن، لذا بذلَ ميشال أسمر جهداً أستثنائياً لتثبيت أواصر “التعايش بين العائلات الروحية اللبنانية”، مُتنوراً بطروحات الإمام موسى الصدر والأب يواكيم مبارك والشيخ صبحي الصالح. 

في العام 1970 جمدت “الندوة اللبنانية” محاضراتها الثقافية العامة مُعتمدة أن المحاضرة لم تعد هي الاداة الفضلى للخدمة الوطنية ولنشر الوعي بين الناس. ووجهت نشاطها نحو النشر والتعامل بقصد التعجيل بتحويل الكلمة إلى فعل والرأي إلى تحقيق. 

في العام 1975أندلعت شرارة الحرب المشؤومة، فوهنت شعلة “الندوة” وهمّة مؤسسها ميشال أسمر لحين وفاتهِ ليلة عيد الميلاد من العام 1984 عن عمرٍ يُناهزُ السبعين عاماً.

في العام 1977 عندما أحتدمت الصراعات والمؤامرات على أرض الوطن طوّر ميشال أسمر “الندوة اللبنانية” وحوّلها إلى حركة أجتماعية. تجمعَ حولهُ كوكبة من رجال الفكر والاعلام والأدب والاقتصاد والسياسة.

وفي مؤتمر صحافي شهير عقد في مكاتب الندوة – 22 ايلول 1977 ركز ميشال أسمر على تطوير ” الندوة اللبنانية” بعد 31 سنة من منبر محاضرات إلى حركة اجتماعية فكرية فاعلة. 

 

مُستقبل “الندوة اللبنانية”

صحيح أن ” الندوة اللبنانية” كمنبر فكري أنتهت مع وفاة مؤسسها ميشال أسمر في العام 1984، ولكن كريمتهُ رينه ميشال أسمر هربوز أرتأت في العام 2010 تكملة المسيرة التي بدأها والدها في العام 1946 من خلال تأسيس جمعية مُسماة “الندوة اللبنانية” مركزها بيروت ومن أبرز أهدافها:

– أعادة أحياء ذاكرة المؤسسة والقيام بالنشاطات الهادفة إلى خلق مساحة مواطنة للتفكير وتبادل الافكار والاقتراح.

– ومن أجل تحقيق اهدافها، للجمعية، مع مراعاة القوانين النافذة، أن تنظم مُختلف النشاطات الانسانية والثقافية والتعليمية والاجتماعية على أنواعها ومنها على سبيل التعداد وليس الحصر: أنشاء نوادي ومُلتقيات ثقافية ومكتبات عامة وخاصة وأصدار المنشورات الدورية والكتب والافلام، وأستحداث مواقع على الانترنت، وتنظيم المحاضرات والندوات والحلقات الدراسية والحوارية.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *