نعيم تلحوق في “أرض الزئبق”… نص تغايري عبثي وتمردي

Views: 434

وفيق غريزي

الكلمة هي الجسر لعبور الحضارة من جيل الى جيل. وهي اطول واعمق الجسور واكثرها توهجا، ومن خلالها تتلاقح العقول البشرية.

 ابدع الانسان الكلمة او اللغة للتواصل، منذ أن عرف النطق وستستمر الى نهاية الجنس البشري. ورغم تعدد اللغات بين الامم والشعوب، فهناك لغة واحدة تجمعهم هي لغة الحب، والكلمة هي مناجاة بين الارواح، ومناداة الشوق الصامت، والتأمل في الاسرار الكونية، والنشيد الذي يعلو في معابد النفس، وهي مفتاح الابواب الى المطلق. 

 

عمل تغايري عميق

ثمة شيئان يمكن العمل عليهما في نص “ارض الزئبق” للشاعر الصديق نعيم تلحوق، العنوان والسؤال، الذي يصوغه فكرة مفردة، وليست الفكرة عامية فقط، بل انها عمل نثري لا تزيد كلمة من كلماته عن مصطلح واحد، وبمعنى من المعاني فهو مفهوم تماما، لكنه بمعنى آخر معتم وغامض، ولا بد أن يكون القارىء لهذا النص (ارض الزئبق) ماهر في فرز عناصره (السردي والدرامي والشخصي والحضاري) الحاضرة فيه، والذي يثير القلق فينا قبل كل شيء. ويجب أن نقدر أي اطمئنان نحصل عليه منه. والهدف من أي عمل سردي هو معرفة العالم ومكنوناته والعلاقات التي تربط الناس، ومعرفة الذات، وتطور الشخصية الانسانية في عملية التقدم والاتصال الاجتماعي، واذا كشف لنا عن جوهر الخلق والابداع فبإمكاننا نجيب بمقتضى ما يصار الى اعداده، بانه الطريقة العاصفة لانتاج جمالية العمل الادبي (شعرا او نثرا) فالأثر لا يمكن أن يتحقق الا بالابداع، كما هو حاصل في ”ارض الزئبق” ولكن ولأنه كذلك، فانه جوهر هذا النص الابداعي التغايري. وازاء هذا النص التلحوقي، لا تملك العامة احساسا تجاه اشياء جيدة فيه. اتجاه العراقة  واتجاه اللامنطق واتجاه الغرابة. نقول ذلك حتى لا نتحدث عن شيء افضل الا وهو الاسلوب الجزل الذي انتهجه نعيم تلحوق في نصه المذكور، ولا نعرف على أي اساس علينا تقييم مفاهيم كالنموذج والكمال، والمهارة، والاستاذية التي اتسم بها صديقي نعيم، انما نتوه في مجال القيم، وتبعا لغريزة قديمة في الحب والاعجاب نصل الى الاعتقاد الذي يقول: “إن ما هو جيد ومغاير هو ما يلذنا ويفرحنا”.

والهاجس الذي مكن تلحوق أن يدفعه الى حده الاقصى، اذا كان ذلك قابلا للتمثل بشكل ملموس باعتباره خطرا، او مشكلة، او اغراء، إن هذا الهاجس سيبلغ حدا، يعني تصورنا الجمالي، وثمة ما هو ثابت، قوي وصلب، انها الحياة التي على اتساعها وعلى فعاليتها تخفي قوتها، أن هذا ما يلذ، أي يتوافق مع ما يعتقد مؤلف “أرض الزئبق”، ليكون ما هو عليه بالذات. 

 

الانسان في الفكر المعاصر

بتنا نرى الانسان وهو يتحوّل في الفكر المعاصر، من مشيد للحضارات، ومبدع للثقافات، من سبيل بروميثيوس الى مجرد نسخة جديدة عن”سيزيف”. ففي الوقت الذي اغتنت فيه مجالات العقلانية والعقلنة، واكتسحت فيه ميادين جديدة من الفعاليات البشرية، صرنا نلاحظ انتعاشا حقيقيا للنزعة الظلامية. وللفكر العدمي والعبثي. وفي العصر الذي كبرت فيه تطلعات ومطامح الانسان الى مزيد من المعرفة، وبالتالي الى مزيد من التحرر، وتعاظمت فيه امكانات ووسائل العمل، خيم على الفكر ظلام دامس. وشعور قاتم بضآلة الانسان، وبالطابع العبثي لمبادراته. وفي ظل هذا العصر وجدت ”ارض الزئبق” صورة جلية عن هذا العصر العبثي. فليس الانسان  في حقيقة الامر الا مخلوقا سلبيا، منفعلا وعاجزا، انه كائن غارق في عالم لم يختره ولم تكن له يد في صنعه، وهو على الدوام اسير لوضعيته المشروطة بحتميات متعددة، تحدد ما يتخيل أنه اختياراته، أنه طيف عابر في عالم “معاد له ويغمره كليا”، وقد ابدع نعيم تلحوق في تصويره. 

 

الوجود العبثي والقلق الوجود

إن غريزة الافتراس نمت وتطورت عند الانسان المعاصر، وتفاقمت، بما جعلها تغدو آلاف المرات اكثر مما كانت في ذاتها البدائية الأولى، وان فعل التقدم الذي تعزى به الانسان زمنا ما، عن عصبيته وزواليته بين ايدي الحياة والقدر والحتمية، ولم يكن فعلا تقدما بل انه كان فعل تعميق وايغال  في الغرائز الأولى بحيث نال عليها قدرات ما كانت تتيسر له، وتلك الانفعالات المكبوتة على العنف والقسوة منذ العصور السحيقة، إنما كانت تتراكم وتتفاعل وتتعامل. لو تحرينا عن العبثية في العالم لرأينا أنها تصدح وتترنم على جمجمة العالم: هملت عبثي، ماكبث عبثي، كامو عبثي، عطيل هو العبثي الأكبر، بيكيت عبثي ونعيم تلحوق في عمله الجديد ”ارض الزئبق”عبثي، تتداعى نفسه على جدران الوجود. ولا شيء يقوي الشعور بالوجود، كالهمّ والقلق، والانسان يشعر وهو في الاسى انه موجود اكثر بكثير مما يشعر بذلك في السرور، ذلك أن الفرح احرى  بان يكون ارتخاء او تخديرا، كما انه يساعد على ضرب من تشتت الانسان في الكون. إن كل صلة بين موجود وموجود هي صلة ذات بذات، اما بين الاشياء فلا وجود لغير احتكاكات ميكانيكية، لا صلات، ولا تكون الأنا ذاتا، الا اذا انعكست على نفسها. وهذا الانعكاس او التأمل الباطني يسمح لها بامتلاك ذاتها، واكتساب حريتها وتأكيدها أن كل علاقة تأثير هي بالضرورة بين أنت وأنا، كما هو حاصل بين شخصيات ”ارض الزئبق” الحوارية.

ويؤكد الصديق نعيم تلحوق في نصه أن “الوجود عبثي لا معنى له، وأن ساحة الصراع هي أن تستدل على جرمك الاساسي في نهاية الأمر، لماذا أنا؟  لماذا كلنا؟  ما الغاية من وجودنا؟  ما المعنى من عبثيتنا؟  طالما اللغة بخار المعنى، ولم نصل اليه، وطالما السقوط حتى على غير طائل، ما هو المعنى من المعنى  اذا؟ “(ص 124). من هنا، نصل الى نتيجة هي أن التعلق بالحياة ليس مصدره العقل والتفكير، فقليل من التأمل كان لافتا هنا لا الحياة ليست خليقة بشيء من الحب والاستمرار؟  وليس من المؤكد أن الوجود خير من اللاوجود. بل لعل العكس قد يكون صحيحا. ولو استطعنا أن نسعى الى قبور الموتى، ونقرع  ابوابها، سائلين اياهم هل تريدون العودة الى الحياة؟  لرأيناهم يرفضون، وإلا فعلام التعلق بهذه البرهة القصيرة التي يقضيها المرء في الوجود، والتي لا تبدو شيئا وسط تيار الزمان اللانهائي.

والشاعر نعيم تلحوق ليس من الشعراء او الكتّاب السورياليين  يرف جناحه على الواقع، وما فوق الواقعية عنده، تقوم على تفكيك الواقع وفقا لنقرات وخواطر زئبقية لا تتغرب بها عنه، ولا نحس اننا امام حالة من الهذيان، انها تقوم على ظاهر اللاتواصل بين صلات الحوارات التي تجري بين الشخصيات التاريخية او الواقعية، وان كان ثمة تواصل عميق ومبثوث ومكتوم فيها:

“اذا دخل الوجود اليك فانت الحق، الوجود هو الحب وبغيره لا نور في العالم”، هذا ما قاله صديقه الفضائي الذي اضاف: “انت لست هنا انت الهناك”. 

واللاادرية نظرية تنكر كليا او جزئيا امكانية معرفة العالم. وأول من استخدم هذا المصطلح العالم البريطاني الدوس هاكسلي. واللاادري يفصل الجوهر من مظهره، ويبقى بعيدا عن الظواهر ويرفض أن يعترف بشيء، انه اصيل بخلاف الاحاسيس، وفي الفلسفة اليونانية ظهرت اللاادرية في صورة الشكية عند بيرون وانتشرت اللاادرية لدى هيوم وكانط، ولدى الشعراء عمر الخيام وابو العلاء المعري وايليا ابو ماضي وغيرهم. ولاادرية نعيم تلحوق في ”ارض الزئبق”شكية تمثلت في قوله: “لا اعرف الحكم من وجود الله، فليدعنا وشأننا ونحن قادرون على اقامة المعنى طالما معناه معنا … هو اختراع كائنات حية تتلمس طريقها نحو البقاء (ص 40). وفي مكان آخر يقول: ”كيف اعرف أن الله يحبني انا القادم من: الأين، والكيف واللماذا؟”(ص65). 

شكّية تلحوق تبرز هنا  الحادية  وليست ديكارتية، بل هي اقرب الى لا ادرية  بيرون الالحادية، فيقول تلحوق: ”كل فرد من افراد الكرة الأرضية يعتقد أن الله ملكه. ليس بمعنى الاله الحق هو له، بقدر ما يعني أن الله خلق لأجله، ولا يمكن أن يكون لغيره” (ص 71). هنا ظهرت الشكّية الالحادية جلية حين قال ”إن الله خلق” فالله خالق وليس مخلوقا. ولقد سبقه على طرح مقولة” من الأين والكيف واللماذا” الشاعر الراحل روبير غانم.

 ويواصل الصديق تلحوق سيره في طريق الشك فيقول: ”هل العالم مسكوت عنه، أم أن الذي اخترعه صامت من لا شيء. اخترع الجنون واخترع الصمت … واقفل على كل شيء ما تبقى من حروف تهجئة لتكمل حكاية التدوين؟  هل هو نفسه من اخترعنا له اسم القدر، السر، اللحظة، المكان، المهندس الاعظم، الزمن”(ص40). ولا شك أن الخالق هو الزمان الأول 

والشك الديكارتي نسبة الى الفيلسوف الفرنسي”رينيه ديكارت” هو ذو طابع ثوري. وهكذا نرى شك تلحوق ثوريا على غرار الشك الديكارتي، فالاثنين عازمان على الاطاحة بجميع معتقداتهما والشك في كل شيء، وللقيام ببحثهما عن فلسفة يقينية بصورة مطلقة، كانا  على استعداد للتخلي عن كل ما سبق لهما الايمان به، والتشكك بكل معتقداتهما الموروثة. لأن مذهب الشك هو الاسم الذي يطلق على الشك الديكارتي الشك المنهجي.  واستخدم هذا الشك للوصول الى المعرفة اليقينية، وبهذا اختلف تلحوق عن ديكارت، ويتساءل تلحوق: ”اذا كان الله هو الذي لديه فكرة عن الكائن اللامتناهي والكامل، يمكن أن يكون موجودا اذا لم يكن هذا الكائن موجودا فرضيا” وبلغت لا ادرية تلحوق الشكية حدها الاقصى حين قال: ”لا افهم لماذا يجب أن اكون على هذه البقعة الأخرى  من الأرض، هي فكرة يحملها التراب، منذ نشات وترعرعت وكبرت حتى صرت مخلوقا خرافيا، لا اقدر أن افهم كل ما يجري حولي لا بل بعضا او جزءا مني، وحتى كلي” (ص 1)

 

الاخلاق… والمراة 

يرى افلاطون أن الخير الاسمى للبشر هو السعادة، التي تنتج عن الوفاء بحاجات الاقسام الثلاثة للنفس التي تحت حكم العقل. وما هي الفضيلة طبقا للاخلاق؟  الفضيلة والسلوك القويم في الحياة هو العمل الناتج عن المعرفة، معرفة النفس، والصور ومثال الخير. وقليلون هم الذين يمتلكون المعرفة ويجب عليهم السيطرة على سلوك بقية افراد المجتمع. وتتميز الفضائل العقلية عن الفضائل الاخلاقية بأنها تقوم على تأمل الحقيقة؛ حقائق الفلسفة، والفن، والعقل الحدسي، والاخلاق. ولما كانت السعادة تكمن في تحقيق طبيعتنا، فان السعادة القصوى تكمن في تحقيق افضل جانب من جوانب طبيعتنا وانبله، تأمل الحقيقة. ويؤكد تلحوق: أن “هناك قيم قديمة وأخرى حديثة للنص الادبي، وهذا يعطينا فكرة أن الأدب واحة اخلاقية والابداع سمة قيمة لا سمة فرق، ثم أن اعذب الأدب اصدقه لا اكذبه، لأنه لا يمكن أن يتكلم عن الانسان الذي فينا بحرارة وحرية من دون خوف من الاساطير والكتب الدينية؟  (ص 10). 

والمرأة عند تلحوق بمنزلة الله، فهو يقول: “كنت جاهزا لأحدث ثورة في ضمير الكون، لكن السفينة كانت تقاد باشرعة مدروسة، تتحكم بالكون وخلقه من جديد” (ص 106). وترمز المرأة التي احتلت حيزا كبيرا في حياته المعنوية والمادية، الى الضوء، واللغة والصقيع وبالمقابل يرمز الرجل الى المعنى والنور والنار. 

 

التمرّد والثورة

الكاتب او الشاعر الوجودي – العبثي هو من جعل السيادة المطلقة للحياة الذاتية، مفهومة، على الحياة الموضوعية، فلم يعد باستطاعته أن يبين عن نفسه الا في صورة لمحات ولمع، أو الصدقية عندنا، على هيئة لوائح وطوالع ولوامع يصوغها في عبارات مصقولة لا تستطيع الانامل أن تلمسها عارية، فتضطر من اجل ادراكها الى لبس القفاز؛ لأن فيها حرارة وعليها طهارة وقداسة، فتخشى من وراء اللمس المباشر أن تحترق بنارها او تدنس طهارتها. هذا النوع من التفكير الوجودي يقتضي عند صاحبه قدرة ممتازة، على أن يوازن بين الحياة الذاتية والحياة الموضوعية ويجعل بين الاثنتين توازنا وانسجاما.

ويعبّر تلحوق عن حالة نقضية  فاقدة الرجاء من الانسان ومن الذات ومن الحياة والكون ومن القدر ومن الله ومن العناية ومن العقل، ومن العلم واللغة. ولا نجد في المعرفة الانسانية فعلية  وانما ضرب من وهم المعرفة ولا نجد في التعبير الانساني تعبيرا فعليا عن مكامن النفس كلها. وانما تمتمات دنيا لجزء، بل بذرة واهية مما تعانيه النفس. 

 الشاعر  نعيم تلحوق هو بطبيعته متمردا كأعنف  ما يكون التمرد على هذا الوقع العبثي والظالم، وعنيدا كأصلب  ما يكون العناد، وعبثيا كأعمق ما يكون العبث، وتمرده كتمرد الفيلسوف الفرنسي الوجودي البير كامو، ومثل هذه الطبيعة لا تعرف التفاني في الاشخاص، بالغة ما بلغت عظمتهم، لأن التمرد عنده كما هو عند كامو، هو تمرد على الناس ومعتقداتهم وتقاليدهم، اكثرما يكون تمردا داخل مملكة الفكر والشعر، تمرد شكوكي بارد، فيه مرارة وغيظ وعنف. وثورته صورة حديثة عن ثورة الفيلسوف بيرون والشاعر عمر الخيام، ففيها صراحة حادة وسخرية لاذعة وطابع فني راق وواضح. ولكن ثورة تلحوق اكثر جموحا وحماسة وحرارة من ثورة بيرون، لانها صدرت عن يأس باسم كاد أن يصل حد الاستهتار، بينما يأس بيرون يأس غضوب قوي المخالب حاد الاظفار. ولهذا التمرّد اهداف رئيسية هي: سيادة الخير على الشر واللذة على الألم، كالقضاء على الشر الذي هو اصل الوجود والخلاص منه، وايجاد الحرية، والقضاء على الفقر والجوع والاستلاب. يقول غيفارا: ”ايها الساجدون على عتبات الجوع ثوروا فان الخبز لا يأتي بالركوع”. وينقل تلحوق عن الامام علي بن ابي طالب قوله: ”لو كان الفقر رجلا لقتلته بحد السيف”. ويقول تلحوق:” الفلاح يزرع عرقه لكنه يحصد جوعه”.  إن ”ارض الزئبق” زئبقية وكل ما يجري عليها وعلى مسرحها من افكار واحداث هي ايضا زئبقية، غير ثابتة بل متقلبة ومتناقضة بين وقت وآخر، الايمان والالحاد، الألم واللذة، الذكورة والأنوثة، الوجود والعدم، العبث والتمرد… إن هذا النص مغاير لما سبقه من نصوص شعرية كانت او نثرية، فسلم القلم الذي نزفه…

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. نص الأستاذ وفيق غريزي غني بالدلالات والإيحاءات الجميلة…لقد أفرغ شحناته الفلسفية في روح القراءة…شكرا له…