قراءة في رواية “حبيبتي مريم” لهدى عيد: فساد الأنظِمة.. ومسؤولية المُواطِن

Views: 596

د. نجلا البزري 

تأتي رواية “حبيبتي مريم” (دار الفارابي، 2022) للرّوائية والناقدة الدكتورة هدى عيد، كصرخةٍ أدبيّة عاليةِ النبرة في وجهِ الظُّلم والاستبداد الذي يحياهُ اللبنانيون على أرضِ وطنٍ باتوا يشعُرون فيه بقلقٍ دائم على أمنِهم وسلامتِهِم واستقرارِ عيشِهِم. 

روايةٌ فيها الكثير من التّوصيفِ الدقيق للوجعِ والألم، أَلَم الفراق والخيبة، كيف لا وفُصولُها  تتمحورُ حولَ شخصيّاتٍ طَبَعتها بعُمق أحداثُ السّنوات الأخيرة: من إنفجارِ مرفأ العاصمة، مروراً بجائحة كورونا، وصولاً إلى الانهيار المالي الاقتصادي الكبير.

بطلة الرّواية هي “مريم”، الصّحافية الشُجاعة، التي أبَت أن تكون كالباقين لا تُحرِّكُ ساكناً أمام ما تُشاهِدُهُ أو تسمعُ عنهُ من مخالفاتٍ ورشاوى وسرقة للمالِ العام، فراحَت تتقصَّى عنها وتُوثِّقُها، تمهيداً لنَشرِها، ما كان سيؤدّي حتماً إلى إدانة الـمُرتكِبين والـمُنتفِعين. 

وهنا نتوقّف: هل كان لديها من الإيمانِ ما هو فائضٌ جعلَها تَثِق من قدرتِها على الإلقاء بِهؤلاء في السّجون من دون أن يطالَها تهديدٌ أو ترهيب من قِبَل حُماة نظامِ التواطؤ والفساد القابِض على الدّولة بكُلِّ مفاصِلِها ومؤسَّساتِها؟ أم أنّ عزمَها على تنفيذِ مخطّطِها هذا ليس إلّا دلالةً على قلّةِ خبرةٍ في التعاطي مع من تمرَّسَ -لعقودٍ من الزمن- على إخضاع البلاد وترويضِ العباد وفقاً لأحكامِه وأهوائِه الخاصّة؟

أسئلةٌ كثيرة تستثيرُ ذِهنَ القارئ الذي لا يمكنُه إلا التعاطفُ مع قضيّة مريم، التي هي قضيّة كلّ مُواطن نالَ قسطَه من الإذلال والإفقار على يدِ من كان يُفترَض أن يحمِيَه ويسعى إلى تأمين مصالحِه والحفاظ عليها، فهل الإقصاء أو حتّى القتل المباشر هما الجزاء الذي قد يلحقُ بكلّ من يتجرّأ على قول الحقيقة أو يذهبُ بعيداً في طموحِه أكثر من “القدْرِ المسموح”؟

ترفضُ الكاتبة أن تُسلِّم بالقدَر الذي ترسِمُه هذه الشلّة من “الطُّغاة “، الذين لا حياءَ ولا رادِع أخلاقيّاً أو قانونيّاً لديهم، لكن تُزعِجُهم المثاليّات وتُخيفُهم سلطةُ الأقلام الحُرّة. هم الذين انغَمَسُوا إلى أقصَى الحدود في لعبة الصّفقات وتهريبِ البضائع واحتكارِها ، مع حرصِهِم الدائم على إضفاءِ سِمةَ الخيرِ والإحسان على أعمالِهم للظهور أمام الملأ بصورة الأتقياء والـمُخلِّصين!

يقول”غريب”، زوج مريم المقهور، وموظّف الدولة المتقاعِد، عند وصولِ العائلة إلى “لندن” حيثُ قرّرَ ابنُهُما “حكيم”، مهندس الاتّصالات الشابّ الإستقرار والعمل : “الزعامة ليست تمظهُراً فارغاً، الزعامة الجديرة باللقب، تضحيةٌ حقيقيّة في سبيل شعب، لا التضحية بالشعب في سبيل الزعيم”.

ليست المرّة الأولى التي تُصوِّب فيها هدى عيد سِهامَها على رجال السّلطة الذين يعتمدون نهج التفرقة والتحريض،  فهي التي حذّرت من تبِعاتِ تعسُّفِهم في العديدِ من رواياتِها ومقالاتِها السابِقة، وهنا يكمُنُ بالتحديد دور “الروائي الـمُلتزِم”: تنبّؤ الأزَمات ومحاولة تفاديها، وفي حال وقوعِها، المساعدة على استيعابِها وتخطّيها. وها هي الكاتبة الآن تُحذِّرُ مجدّداً من الوقوع في فخّ التأقلُمِ والالتفافِ على المصير… فالناسُ بمُعظمِهِم خائبون، مستسلِمون، ربّما لاعترافِهم الضمني بمسؤوليِّتهم عن تردّي أحوالِهم – إن بالصّمتِ عن الأخطاء أو المشاركة الجماعيّة فيها- وإن بإعادة إنتاجِ ذاتِ الطبقة السّياسية عند كلّ استحقاقٍ انتخابيّ، رغم اختبارِهِم لفشلِها في تأمين أدنى مقوّماتِ الحياة الكريمة لهم على مدى دوراتٍ كاملة. هذا من دون التكلّمِ عن شريحةٍ كبيرة لا تهتمُّ بالشأنِ العام أو فقَدَت اهتمامَها بِه نتيجةَ التهميش والإهمال الـمُزمِنين… كما أنّ بحثَ الناس (أفراداً ومؤسسات) عن النجاحِ السّهل على حسابِ بعضِهم البعض، كان مآلُهُ الحتمي ذلك الدّرك الأسفل الذي وصَلَ الجميعُ إليه.

 تستذكِر “جودي”، إبنة مريم ما كان يقولُهُ لها زوجُها “دانيال” قبيل استشهادِه الـمُـروِّع: 

“لا حلَّ لنا جودي إلا بالعِلم، بغسل العقول والقلوب، وبنشر الأمان والسلام، في هذه الأرض، التي كثُرَ فيها القتَلة، وعاثَ في أنحائها المارِقون.”

فهل اللبنانيّون على استعدادٍ لنفضِ غبارِ الظُلمِ عنهم وتَنقية عُقولِهم وقلوبِهم ، متجاوزين أنانيّاتِهِم الضيّقة،  للسيرِ في دربِ الخلاصِ والقيامة؟ أم يؤثِرون على ذلك حياة الذُلِّ والانهزام؟ 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *