التقاطع المعرفي بين كمال جنبلاط وميخائيل نعيمة نقطة الارتكاز هي الكائن الانسان 

Views: 139

وفيق غريزي

منذ أن نشأت المعرفة ومشكلتها، ترافقت مع الفلسفة، وما زالت حتى اليوم محور خلاف مستمر في مختلف العلوم الانسانية، وتحت التأثيرات العلمية المتطورة، ويشهد عصرنا الراهن هجوما مركزا على المسلمات التي كانت ترتكز عليها كل معرفة كبراءة العلم وسلطة العقل ومركزيته. ولا بد من أن نذكر في هذا المضمار الفيلسوف الالماني يوجين هابرماس والفيلسوفين الفرنسيين ميشال فوكو وجاك دريدا، ذلك أن العلوم الانسانية من اقتصاد والسنية وتحليل نفسي قد عززت الثقة بالصرح العقلاني الانساني، ومن هنا كانت الصعوبة في الحديث عن أية نظرية للمعرفة في عالم يبدو الآن وكأنه فقد البوصلة التي تستطيع أن ترشده الى الاتجاه الصحيح. ولا شك أن المعرفة كما تقول الموسوعة العربية تفترض وجود ذات أو فاعل يريد أن يعرف موضوعا قابلا لأن يعرف..

ومن المعلوم أن كل معرفة تمر بمراحل متشعبة عبر التاريخ البشري، ففي بلاد الاغريق (اليونان القديمة) كان هم افلاطون محاربة السفسطة، التي انكرت امكانية وجود حقيقة مطلقة، وبالتالي امكانية قيام معرفة موضوعية، ولقد اكد بروتاغوراس أن الظاهر هو كل الحقيقة والواقع، في حين أكد افلاطون أن العالم الحسي ليس سوى انعكاس لحقيقة اسمى هي عالم المثل، وبالتالي فان كل معرفة هي تذكّر، تذكّر لما كانت النفس قد رأته سابقا في العالم الأعلى .

 

ومع بداية انتصار المسيحية ومطلع العصر الوسيط رد القديس اوغسطين على الشكّاك الذين كانوا ينادون بعدم قدرة العقل على الوصول الى حقيقة مطلقة. أمّا الفلاسفة العرب فقد كان لكل منهم نظريته في قضية المعرفة التي لا تخلو من جديد، فهناك نظرية ابن باجة الاندلسي التي عبر عنها في “رسالة الاتصال” وهي تميز بين ثلاثة مستويات للمعرفة .

1-مستوى المعرفة الحسيّة .

2- مستوى المعرفة النظريّة .

3-ومستوى المعرفة المباشرة، أي المعرفة الحدسية التي لا تنطلق من المادية، بل تحاول أن تدرك كنه الاشياء بعيدا عن كل مستوى مادي، وهذه النظرية نجدها في القرن السابع عشر الميلادي لدى الفيلسوف سبينوزا في كتابه “الاخلاق”، وفي العصر الحديث تطورت قضية المعرفة وتشعبت على ايدي كل من الفلاسفة: رينيه ديكارت – عمانوييل كانط – فريدريك نيتشه وبول ريكور.

وبحكم العلاقة التي قامت بين الحضارات وتفاعلها ببعضها البعض عبر التأثر والتأثير، برز نوع من التقاطع المعرفي بين فلاسفة ومفكرين من جنسيات مختلفة، وعلى سبيل المثال: جبران خليل جبران وفريدريك نيتشه، نيتشه وشوبنهاور، كمال جنبلاط وميخائيل نعيمة، وموضوع هذا التقاطع كان محور كتاب رياض سليم والمعنون “التقاطع المعرفي بين ميخائيل نعيمة وكمال جنبلاط .”

في هذا المجال يؤكد الكتاب المذكور على أن المعرفة متصلة، شاملة، عميقة 

” والتقاطع المعرفي” قائم منذ القدم، ولا يزال، بين العديد من المفكرين والأدباء والفلاسفة، واختيارنا لشخصيتين ثقافيتين بارزتين هما كمال جنبلاط وميخائيل نعيمة في تاريخنا المعاصر للمقاربة المعرفية، لم تكن محض مصادفة، حيث غرفا من معين المعرفة العميق، مع بحث دائم متواصل عن الحقيقة، فكثرت مساحات التقاطع بينهما في المناحي الدينية والفكرية والروحية والصوفية، والتقيا في الاعماق والأبعاد، وفي أمور اساسية ومهمة “. ويضيف الكاتب: “إن البحث في اعمال وافكار المفكرين جنبلاط ونعيمة والغوص في ابعاد الالتقاء والافتراق، والتحليل والمقارنة بينهما، كلها موضوعات تستحق البحث والتحليل، وتعتبر لبنة من لبنات البناء المعرفي الضخم، وجديدا يضاف الى الدراسات المعرفية والاجتماعية”. وهنا لابد من الاشارة الى أن الكثير من العاملين في الحقل المعرفي والثقافي حاولوا الخوض في بحث القضايا المعرفية التي تتعدى الإطار العام لمواضيع العلوم على اختلاف انواعها الا “انه اية كتابة في مسائل العرفان العميقة هذه ستبقى دون الهدف المنشود ما لم تكن منطلقة من قناعة او اية هرمسية ذهنية، تقول: “واعلموا انكم وما ترونه، شركاء بين البسيط والكثيف، والعرض والجوهر، واللطيف والمركب، سواء في الافلاك واختلاف الألوان، والحرارة والرطوبة، ومولاكم هو الذي جعل الانسان تكوير التنزيل”، هذا ما اكده جنبلاط في مقالة “في الممارسة السياسية” التي صدرت في كتاب مستقل.

 

العصر والزمن 

بعد أن يعرض الكاتب الصديق الدكتور رياض سليم لمحة موجزة عن حياة كل من ناسك الشخروب نعيمة وجنبلاط، يتوقف عند الزمن الذي عاش فيه المفكران وهو زمننا الحاضر، حيث يشير الى أن البيئة التي يولد فيها الانسان، والتأثيرات الأولية التي يتلقاها في المحيط الاجتماعي، تشكل البداية لمدى معين من التأثر والتأثير المتبادل، وتظهر الملامح العامة للشخصية المستقبلية، وتبين مدى اهمية البيئة والمحيط الاجتماعي  في تحديد الافكار وتوجهيها، وبلورتها في ما بعد. والشخصية الاساسية تتكون من خلال التنشئة الاجتماعية في البيت اولا، ثم في المدرسة ثانيا، والبيئة المكونة لهما . يقول الدكتور سليم :” أن الزمن الذي عاشه كل من نعيمة وجنبلاط مليء بالاحداث والحروب الكبرى والصغرى، ومثلما هو مليء بالتغيرات الاجتماعية والفكرية والسياسية، وكلها عوامل ساعدت واسهمت في تكوين شخصيتيهما ونظريتيهما المعرفيتين. كما أن مجموعة من العوامل والحوافز، اسهمت في عطاءاتهما، تكشف عن جوامع مشتركة في الهدف والمصدر عموما، مع اختلاف في الوسائل والادوات والنتائج “. ومن ابرز الاحداث والتطورات التي اعقبت الحرب العالمية الثانية، في لبنان على وجه الخصوص، نيل لبنان (بين هلالين) استقلاله، واعلان الميثاق الوطني عام 1943، وبروز القضية الفلسطينية على واجهة التطورات السياسية في المنطقة منذ عام 1948، والثورات التي شهدها لبنان ( 1952 / 1958- 1975) هذا على الصعيد المحلي والإقليمي، أما عالميا فان الصراع الذي كان يدور في العالم من اجل تكديس الثروات، عبر الاستعمار في وجوهه المختلفة، الارض والانسان والفكر والثقافة، هذا الصراع بالإضافة الى العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، حرب حزيران ضد العدو الصهيوني عام 1967، والاحداث اللبنانية الدراماتيكية التي جعلت جنبلاط يحمل على الغرب الذي يدأب على ارتهان الانسان عبر تقنياته وقوته المادية .

كمال جنبلاط كما يرى المفكر الراحل الصديق عفيف فراج، ليس بفيلسوف أو عالم وإنما صاحب روًية تأتلف في تكوينها عناصر العلم والحكمة، العقل والعاطفة، الزمن والمطلق، وعلة ومعلول ائتلاف هذه العناصر هو انسان يحيا على مستويين :مستوى العلم الحسي، حيث يمكن معرفة الشيء في ذاته بواسطة الحواس والمعرفة به هي بالتالي نسبية، ومستوى المطلق وهو المستوى الثاني الذي يساند فيه الحدس ما يعجز عنه العقل الحسي ادراكه.

 

ويوًكد المؤلف رياض سليم أن نظرية جنبلاط المعرفية في المجالات والمواضيع الأدبية والعلمية والمعرفية والاجتماعية والدينية والتوحيدية و”العرفانية”، ترجمت في بعض الاعمال والنشاطات، وكان لها بعض الأثر في النسيج الاجتماعي لا سيما اللبناني، واقترنت نظريته بالممارسة والتي لا تخلو من بعض الاخطاء والهفوات، ككل عمل بشري عى مستوى الناس. ويقول سليم :

” خلاصة نظرية جنبلاط المعرفية كانت التعدي في ظواهر الاشياء الى حقيقتها، وتجاوز شتى الاشكال الصنميات الى الجوهر، وجعل الانسان قطب الوجود وغايته”. وفي منظور الفلسفة الدينية، التوافق تام بين التوحيد القديم والمعقولية (الأولى). وفي هذا الصدد يسترجع جنبلاط نصوصا من بطون الحكمة، محاولا بإشارات لطيفة تفسير بعض الرموز والامثال المسطرة وبناء مقارنة جديدة على أساس تنميطي علمي،  ” فيستخلص من كل مقارناته وتأويلاته نماذج عدة اولية لتوحيد مظهري معقلن نسبيا. ولكنه يصر على المضي قدما في قراءة الخطاب التوحيدي الشامل، فنراه مأخوذا بفرضية العرفان الشرقي”. وهذه الرؤيا ليست رويا جنبلاط بل هي خلاصة الفكر المعرفي – العرفاني عبر التاريخ، فجمعها في عقد التوحيد الجامع. ولهذا، فان المجرى الزمني المتواصل “يتواصل الفكر العرفاني – الحكمي الهندي، وعلى رأسه كريشنا وبوذا  وشنكارا وامنحوتب في مصر القديمة، ولاوتسي في الصين، ويتصل هيراقلطس وديموقراطس وكافة ابطال الفكر الاغريقي خاصة: سقراط – افلاطون – فيتاغورس، بأبطال الفلسفة الغربية المعاصرة الجدليين والحركيين: كانط – هيغل – ليبنتز – شلنج – شوبنهاور – برغسون، وغيرهم .  والروحانية عند جنبلاط ليست نظريات حول ماهية الروح ومسارها وتكوينها وحسب، وانما ممارسة وطريق اعطته القدرة على مواصلة العمل في المجالين الاجتماعي والسياسي من اجل خدمة الناس. وفي هذا المجال يقول الدكتور سليم: “الروحانية تجربة وطريق من خلال اليوغا التي مارسها جنبلاط بأوجه مختلفة واعتبرها مشكلة او طريق تطهيري للجسد وللفكر تتشعب فروعه وتتنوع مواجهاته حيث كثرت الاسماء وتعددت توجهات الارشاد فيه الى ما يصعب حصره  في مثل هذا البحث او سواه “. 

واستعرض سليم نظرية جنبلاط حول “التربية- الفن والادب – العلم والتربية – المدنية والانسان – الاجتماع والتقاليد الاجتماعية – العمل والطبيعة  – السياسة وفكرة التعاون الاجتماعي – والروحانية والاختبار”. وبالمقابل فقد كانت نشاطات نعيمة في عالم الفكر والثقافة والأدب، مع التصاقه الحميم بالأرض (الشخروب خاصة) وحبه لها وتعلقه بها، وممارسة بعض النشاطات فيها، في حين كانت نشاطات جنبلاط تقوم على العمل الاجتماعي والسياسي مع التصاقه وحبه للأرض  ايضا، وعودته الى اصول التوحيد والبحث والممارسة في مسالكه الصعبة.

كما يرى الدكتور سليم، الذي يقول عن  نظرية نعيمة المعرفية بعد أن يستعرض مجالات ممارستها: “إنها كخلاصة للحياة التي عاشها بكل وجوهها، ترجمها عملا مباشرا في بعض المجالات ولو القليلة والمحدودة، ومنها عمله المتواضع في فترات متقطعة في أرض الشخروب، والزيارات الاجتماعية واللقاءات الأدبية التي كان يقوم بها، وحفاظه على كائنات الطبيعة وموالفته لها، والرحلات التي كان يقوم بها الى البرية بغية التأمل والوحدة والابداع …”

 

التقاطع المعرفي

المعرفة التي يبحث عنها الدكتور سليم في هذا السياق هي المعرفة التي تتعدى ظواهر الاشياء في مظاهر الحياة الاجتماعية التي يعيشها الانسان -فردا، والبشرية جمعاء، وانطلاقا من ذلك فان دراسة التقاطع المعرفي بين جنبلاط ونعيمة ليست دراسة بيانية او عددية وانما دراسة معرفية لحقول الالتقاء بينهما في مواضيع وعناوين عديدة، والافتراق في بعضها الآخر، والبحث في النظرية المعرفية بين الهدف والمحور مع المقارنة والتقييم والنقد وصولا الى مقاربة معرفية سوسيولوجية عامة “. يقول ميخائيل نعيمة في هذا الشأن: “إن المعرفة وحدها الفرح الاكبر… إنها الغبطة في الوجود الذي تتلاشى في رحابه التناقضات كلها”. أما جنبلاط فيقول من جهته في كتابه “السلام”: “إن الموت في نور المعرفة المرشدة هو ذوبان في السلام، كما تتلاشى في الامواج حبة ملح لكي تستحيل وتبقى في البحر كما كانت في ابديتها”. 

وأكد سليم أن معرفة نعيمة بدأت مع “معرفة الكلمة” وتعمقت اكثر بوصوله الى “كلمة المعرفة”، طريق المعرفة التي سارها وقطع اشواطا بعيدة فيها . كانت من خلال ثلاث لحظات متعاقبة هي “الحدس فالخيال والايمان”. ثم اضاف شرطين ضروريين هما الدهشة والمحبة. (https://flossdental.com) أما معرفة جنبلاط فيقول سليم: “إانها تبدأ مع حياة الانسان وتلازمها سعيا الى معرفة الحقيقة”، مستشهدا بقول  لجنبلاط في كتابه “في ما يتعدى الحرف” ان نحيا وأن نعرف في الوقت ذاته اننا نحيا، هو وجه من وجوه الوعي وارتقائه او تمظهره في الانسان” . وهنا ثمة مبادىء رئيسة لدى كل من جنبلاط ونعيمة تشكل معادلة الالتقاء بينهما من خلال محاور كتاباتهم هي: 

 

بالنسبة الى نعيمة “طمانينة المعرفة” – “معرفة الله في الانسان” – شرطها المعرفي . اما بالنسبة الى جنبلاط فـ “الانتصار على الجهل” – “الواحد في تعدد الكثرة “- لا تقوم الا بالمعرفة، ولا توجد الا بالمعرفة “. هذا على مستوى المعرفة ثم يظهر سليم الاشكالية ذاتها على مستوى الفن والأدب، والعلم والمعرفة، وسائر حقول الثقافة والمعرفة .

ويتوصل الدكتور سليم في النهاية الى نتيجة تحليلية مفادها أن نظرية نعيمة المعرفية، في شتى المجالات والمستويات للحياة الاجتماعية، لها خصوصية مميزة، مما جعله يتحمل عناء البحث والدراسة والتحليل، ومحاولته الوصول الى خلاصة الافكار التي تتقاطع معرفيا مع جنبلاط او تتمايز في بعض منها. ويشير سليم الى أن التقاطع المعرفي بين جنبلاط ونعيمة يعود في اهم عوامله الى التقاطع الواسعتين مصادرهما المعرفية الاجتماعية، لتتأكد فرضية البحث ومنها العلم والاديان والفكر الهندي واعلام الصوفية والفلسفة والثقافة الشرقية والغربية، وخاصة تراث الشرق وحضارته العريقة. ويقول سليم: “مكان الالتقاء والتقاطع المعرفي في مفاهيم وموضوعات عديدة، وكانت نظريتيهما المعرفية الشاملة للكون والوجود اللتين اوضحتا ملامح الحالة المعرفية، ورسمتا خطا دائريا  في افق الحياة الاجتماعية، وامكانية ادراكه  ومعرفة مساحة دائرته من خلال نقطة ارتكازه وهي الانسان”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *