في العتمة ذات البصيرة

Views: 552

علي البزّاز*

اللّون الأسْود، والذي يرمز إلى الظلمة والعمى، لا يُعدّ من الألوان الرئيسة كالأحمر والأزرق والأصفر، إلّا أنّه يتميّز بانعكاساته المتنوّعة على سطح اللّوحة، ويحتاج إلى وجود كتلة لونيّة يتّصل بها لتُبرز هي جماليّته وحميميّته، وتتولّى توزيعه بكثافة على “الكانفاس”، بخلاف الألوان الأخرى التي لا تمتلك صفة الانعكاسيّة، اللهمّ إلّا جزئيّاً.يقوم الفنّان المشتغل على اللون الأسود باجتراح فواصل أو خدوش أو حزوز، كسراً لسجيّة أو روتينيّة المنظر، ولاسيّما أنّ “أسوده” يتقبّل ذلك التكنيك، ويجعله منعكساً بحدّة ذات تفاوت لونيّ، تنتقل أمداؤها من الخفيف إلى الكثيف.

لا يُحبّذ جلّ البشر وجود الأسود طاغياً على اللوحة؛ كما لا يحبّذونه في الديكور والستائر، وأحياناً يكون مصدر شؤمٍ وتطيّر. يتطلّبُ استعماله الجرأة والمعرفة التشكيليّة بشخصيّة الألوان، فلا يوزَّع تلقائيّاً. ولربّما تشتغلُ السجيّة في توزيع الألوان الأخرى، لكنّ الصرامة مقرونةٌ به حصريّاً. هناك من الفنّانين مَنْ اقترن بهذا اللون، ونظّر له، مِثل الفنّان الفرنسي الشهير بيار سولاج؛ بينما ارتبط نظيره الإرجنتيني لوسيو فونتانا باللون الأبيض حصراً. والملفت إنّه، وعلى الرّغم من أنّ سولاج وفونتانا يشتغلان على لونين مختلفين “ظاهريّاً”، إلّا أنّ أصلهما واحد، وهو بصيرة اللون وليس عَينه، أي بعيداً من ثنائيّة الظلمة/ العمى، والعين/ الضوء، ومصدر تكنيكهما واحد أيضاً، وهو إظهار الحزوز والأخاديد على سطوح اللوحات، لكنّ سولاج يشتغل على الحجوم والسطوح الكبيرة التي بفضلها ينعكس الأسْود محقِّقاً ذاته، بينما حجوم فونتانا صغيرة ومتفاوتة الظهور، والسبب يعود إلى اختلاف ماهيّة اللّونين.. يقول سولاج: “إنّ أبيض الصفحة يلمعُ بفعل اللّون الأسْود الذي يُحدث تأثير السطوع. عندما أستيقظ أكتشف من خلال الدهشة أنّ حالات الضوء الأسْود تعكس النور أو الضوء. وحينما أنتقل في الغرفة من اليسار إلى اليمين، ألاحظُ تغيير التركيبة اللّونيّة لتغدو ذات انعكاسات نحاسيّة أو زرقاء أو خضراء.. وهذا التنوّع اللّوني كان كَشفاً فنيّاً لي”.

يشتملُ الأسْود إذاً على ألوانٍ كثيرة، بداعي الانعكاس الصادر منه تشكيليّاً، بخاصّة في الظلمة أو العتمة، والمقصود هنا هو بصيرة اللون.

عرَّفتِ العربُ البصيرَة بأنّها: قوَّة الإدراك والفطنة، والعلم والخبرة، والمكنة من النفاذ إلى خفايا الأشياء. ولعلَّ دلالتها تتوسَّع فتحيل على الحجَّة، والعبرة، والحذق، والمهارة، والحكمة. وقد احتلَّ العميان بآدابهم ومعارفهم، منطقة البصيرة، وما تركوا لسواهم إلّا الهوامش الجانبيَّة. وقد اعتبر جوزايا رويس، فيلسوف التبصّر الأخلاقي الأميركي، البصيرةَ “نوعاً من المعرفة”.

سلفيّة معرفيّة ولونيّة

العمى هو بمثابة فقدان عضو كاليد أو القدم أو الإصبع، ويشار إليه قَدحاً بـ “عاهة”، بينما يجعل الفقدُ الإنسانَ البصيرَ مُعتمِداً على نفسه من خلال الحواس، يدرّبها لتصير من خواصّه ومواهبِه، ومن دون مِنّةٍ بيولوجيّة، بخلاف غالبيّة البشر.. حواسّه هي عيناه؛ أدواته ووسائله، كِفاحاً ونتاجاً.

إذا كانت الألوان تُقرَن بالنظر والعين والضوء والنهار والحميميّة (جزافاً)، فإنّ اللون الأسْود هو البصيرة والحجّة. لا يمكن الاستغناء عنه في الرسم، فهو يشدّ عناصر اللوحة بعضها إلى بعض، بينما يمكن الاستغناء إلى حدٍّ ما عن لونٍ ما، وذلك بإحلال بديلٍ عنه: يحلّ الأصفر، مثلاً، عوض الأبيض لتضوئة اللوحة، بخلاف الفكرة الفيزيائيّة الشائعة التي تحصر الإضاءة بالأبيض انصياعاً لمركزيّة الشمس.

إنّ ربط الأسْود بالظلام، ثمّ بالعمى، هو سلفيّة معرفيّة ولونيّة، مثلما يُستعمل إجحافاً اللون الأصفر كدلالةٍ على المرض أو القدح والشتيمة، مثل عبارة “الصحف الصفراء”، مثالاً لا حصراً، بينما عملُ الزهرة الداخليّ في صناعةِ اللّونِ هُو غامضٌ ومعقَّدٌ كيمائيّاً، ويستحقّ الثناء والتقدير، وهو مِن جِنْس عملِ الإبداع والخلق.

العمى في الفنّ فلسفيّاً

موضوع العمى في الأدب العربي والعالمي رحبٌ وعريض، وهو مهمّ وجوديّاًّ، بخاصّة تجاه جماعةٍ لطالما اعتُبِرَت ذات خصوصيّات إبداعيّة لافتة؛ من أمثال الكبار: بشّار بن برد، أبو العلاء المعرّي، طه حسين، عبد الله البردوني…إلخ، ثمّ هوميروس، جون ملتون.. ووصولاً إلى خورخي لويس بورخيس. واللّافت في التراث العربي، هو تناول ما يتّصل بهم من الحولان والعوران، والنظر في سِيرهم الفقهية، مثل “رسالة في قضاء الأعمى وجوازِه” لأبي سعد عبد الله بن محمّد المعروف بابن أبي عصرون الشافعي الموصلي.

أمّا الفلسفة، فهي تتناول موضوع العمى بتجليّاته في الفنّ، ليس نظريّاً فحسب، بل تشريحاً بيولوجيّاً، ما يمنح ذلك الفعل صفةً علميّة وأدبيّة. يقول ماريون شوتين: “لم يُخصِّص سوى عدد قليل جدّاً من الفلاسفة أحد أعمالهم للعمى. لكنّ جاك دريدا يشكّل، فيما يُعرف بتقاليد المُمارسة الفلسفيّة، حالةً فريدةً من نوعِها حين نشر رسالته الشهيرة حول “المكفوفون في خدمة مَنْ يرون؟” في العام 1949. ثمّ نشرَ كتاباً بعنوان: “مذكّرات المكفوف.. بورتريه شخصي وأطلال أخرى” 1990.. عندما طلبَ منه متحفُ “اللوفر” في العام 1989 اقتراحَ معرضٍ يختاره هو بنفسه، كما ويكتب التعليق عليه. وقد توافق ذلك مع إصابة عينه اليسرى بمرضٍ فيروسي منعَ عنها حراك الرمش”.

يدهم العمى الإنسانَ بيولوجيّاً كلّ لحظة: في أثناء النوم ولدى غلق العينين نتيجة الاجهاد أو تحاشي رؤية شيء ما، وعند التذكّر والاسترخاء، وصولاً إلى حركة رمش العين وغمزتها التي نزاولها يوميّاً، وبمئات المرّات؛ وهي بحسب جاك دريدا “لحظة العمى التي تضمن للرؤية البصريّة تنفّسها، فمن دونها لن تتمكّن أعيننا من الرؤية البصريّة”. في تسجيل فيديوي مثير جدّاً للفنّان التركي الضرير أشرف أرمكان (وُلِد أصلاً من دون عينين بسبب طفرة جينيّة) في قناة “ديسكفري” يقول: “لا أحد يدعوني الأعمى، فأنا أستطيع أن أرى عن طريق أصابعي أكثر ممّا يراه الناس بأعينهم.. الفنّان لا يحتاج إلى عينيه لينظر، بل هو يرى العالم تحسّساً بأصابعه… ولهذا ترونني أعملُ خطّةً متكاملةً لرسم اللوحة في رأسي أوّلاً، ثمّ أقوم بعدها بتنفيذها بطريقة الرسم تحسّساً”.

كان الفنّان الهولندي فنسنت فان كوخ، يفكّر أدبيّاً في لوحته، وذلك عبر الترابط بين “الاسكتش” الفنّي الذي سيأتي لاحقاً بعد كتابته لنصٍّ أدبي، يشرح خلاله طريقة تنفيذ اللوحة. في بعض رسائله، يظهر “الاسكتش” الأدبي، مُصاحِباً للـ “الاسكتش” الفنّي، وهذه طريقة رسم اشتهر بها فان كوخ حصريّاً. كتب إلى أخيه “ثيو” بخصوص لوحته: “آكلوا البطاطا” يقول: “أريد أن أرسم الفلاّحين يجتمعون حول طبق بطاطا عند المساء، أو ربّما في النهار. سأبدأ بدراسة الشخصيّات. الظلام هو لونٌ أيضاً، أنا مشغول بمتابعة الألوان، خصوصاً الأحمر في أثناء غروب الشمس”. إنّه إذاً يمتلك صورة أدبيّة كامنة للوحة الفنيّة التشكيليّة في رأسه، وهذا ما أراد الفنّان أشرف أرمكان قوله.

يقول الأساتذة الرموز في جامعة هارفرد بخصوص حالة أشرف أرمكان: “المذهل هو استعماله الظلّ والضوء بشكلٍ متداخل، وحيث لا يوجد حدود أو أخاديد بينهما (تداخل اللّون هو تكنيكيّاً حِكر على الفنّان “المُبصر”). ويستطرد الأساتذة في هارفرد، وهم يحاولون تصوير دماغه مقطعيّاً: لا يمكن رسم اللوحة بذلك التكوين من دون عينين!! لكنّه يقوم بذلك عن طريق نواقل عصبيّة في”الدماغ البصري”، بمعنى أنّه لا يحتاج إلى عينين إذاً، فقد حلّت البصيرة محلّ النظر والبيولوجيا لديه.

يقول النحّات رودان: “أعمل من وحي الذاكرة”، أي أنّه يستعيد التفاصيل باطنيّاً، حيث قرارة العمى، ولا ينقلها مباشرة، مثلما كان يرسم الفنّانون الانطباعيّون “نقلاً” آليّاً عن الطبيعة مباشرة، ولكن، حتّى في ذلك “النقل الآلي”، وهو تجلٍّ وليس استنساخاً، ثمّة ما يقودنا إلى موضوع النسخة – المُسوّدة والأصل – المبيضّة، إذ الأصل هو نسخة مسوّدة، يوجد استدعاء وحضور للحظات من العمى التلقائيّ عبر رمشة العين أو رفّة جفن الفنّان، فلا يمكن استدعاء الشيء كاملاً، فإمّا أن يكون ناقصاً أو مضافاً إليه. وهذا هو عمل العمى، نقصاً وزيادة. وهنا سوف نخرج من الثنائيّة التقليديّة؛ العين وعدمها، النظر – النور، الضرارة – الظلمة، إلى رؤية العالم باطنيّاً بالبصيرة، وتشكيليّاً لَمساً بالأصابع، وعبر العيش تنصّتاً واستماعاً (التنصّت حياة بالأُذن.. كما يقول ستيفن كوسيستو) وعبر العمى الدريدي، إذ اكتشف فيلسوف العمى الفرنسي ذاته، وعلى خطى هي أبعد من ديدرو “بأنّ العمى هو من مبادئ الرسم، وبأنّ الكتابة هي في علاقةٍ مع الخطّ /التشكيل. فهو أعمى بدوره إذاً، ككاتب وكفيلسوف. وعليه فليس الرسّام وحدَه هو الذي يعاني من العمى”.

***

كاتِب وشاعِر من العراق

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *