نعيم تلحوق: ابن أم اللغة، وابن أب المعنى 

Views: 54

أنور الخطيب

أن تلتقي بنعيم، تكون الحياة قد أنعمت عليك كثيرا، ولكن أن تستمع إليه، تكون الحياة قد فتحت كوّة في تراكمك المعرفي، لتدخل منها الأسئلة المتوحّشة، وتحشرك في زاوية لتعيد فيها ترتيب أفكارك، وأشعارك، وإيمانك، وأناقتك، حتى إذا استأنست لمجرى الحوار الكثيف وانبسطت أساريرك وغمرتك السعادة، فاجأك نعيم بنظرته الحادة من عينيه الصغيرتين الجذابتين بجملة: ما رأيك لو قلّدتُ خليل حاوي؟! وجملته الأبعد من السؤال، تشبه كميناً مُحكماً، لهذا تجيبه بسذاجة ومحبة وعاطفة جياشة صادقة أقرب إلى الاستجداء: كلا كلا.. ليس أنت. لكنك تراجع الحديث بسرعة البرق، وتدرك أن نعيم كان يمهّد للمعنى، بأن الحياة باتت غير محتملة: البحث عن الشعر، تشرذم الثقافة وتلوثها، المحافظة على الكرامة… وكلمات قاسية تصف الثالوث المربك، في وطن لم يعد وطنا، يدفشك للهجرة مع كل عودة إلى البيت من العمل، من المقهى، من جلسة حوارية مع المثقفين والمبدعين، من تأمّلك للخرائط السياسية والشعرية والفكرية والاجتماعية وخرائط أخرى… ونعيم لم يعرف أنه أشعرني بأنني أعيش في رفاهية أمام التشظّي الذي يكابده، والمعضلة الوجودية التي لن يجد لها حلاّ، لكنه يدرك ذلك فينهض كي يحضر كتابه (أرض الزئبق).

لم يتوقف عن الكلام الحميم الصادق الجميل المتأزّم المنفرج حتى نصل البناية التي يقطنها، ويجب أن يصعد ستة أدوار وطلب منّي الانتظار، فخشيت على قلبه، لكنه عاد بعد دقائق سالماً نشطا، فأدركت أنه لن يكرر ما فعله خليل حاوي: إرادة الصعود والهبوط لم تكن جسدية فحسب، إنما هي قوّة مقارعة الحياة.

تحدثنا أيضاً عن محمود درويش وأحمد دحبور وعبّاس بيضون وعنّي، وشكوت له عزلتي الفلسطينية، وأنني سأبقى محافظاً على استقلاليتي رغم كل المواقف السلبية، ولن أنقل ما قاله نعيم في شعري وأدبي كي لا أُتّهم بالنرجسية.

الحديث مع نعيم حديث ملغوم، غير آمن، محرّض ومستفز، لكنه مُطَمْئن، لي على الأقل، شعرت أنني أجلس أمام بعض لوركا، وبعض رامبو، وبعض بوكوفسكي، وبعض ناظم حكمت،  وبعض كولبريدج، وبعض بودلير، وبعض أبولينير، وبعض أبي العتاهية، وبعض الجاحظ ومجانين آخرين، ومع كل نعيم تلحوق. 

هذه ومضة من حديث أكثر من مهم دار بيننا قبل يومين، وما تسمح به أمانات المجالس..

شكرا نعيم تلحوق.. تعمّدت ألاّ يسبق اسمك أي لقب، لم أرغب في تكبيل معناك، (لأن المعنى ينظر إلينا أو يتلقّانا.. فمن يدري..)، وهي العبارة التي خطّها في (أرض الزئبق) كإهداء لي. أما الإهداء الذي قدّم به كتابه فكان: (إلى أمي اللغة.. وأبي المعنى.. رواية لن تكتمل فصولا..)…

(https://andeglobal.org/)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *