مَنْ يكتب الآخر، الشّاعر أم القصيدة؟!

Views: 1105

د. رفيق أبو غوش

مَن يكتب مَن، الشّاعر أم القصيدة؟ ومَن ينبثق من الآخر؟ سؤال الكتابة الدائم! القصيدة بالنثر أم قصيدة النّثر، أين قواعدها، كيف نحدّد أبنيتها، أهي شعرٌ أم نثرٌ أم جنسٌ ثالث؟! أسئلة لا تنفكّ تحاصرُ الشّاعر والنّاقد، والباحثَ والدّارس معًا. أسئلة، وإن تكرّرت، تبقى من دون أجاباتٍ، فالأجوبة أحكامٌ ناقصة، وما يصحُّ هنا لا يصحُّ هناك، إشكاليّة مستمرّة تبقى مسرحًا للنقد ولجولات الأخذ والرّد بوصف الشّعر حالةً عصيّة على التأطير والتّجنيس، وممارسة جماليّة مشروطة بالإبداع، فمن أيّ الزّوايا نقارب القصيدة، وبأيّة عدّة نعبرُ فضاءاتها المترامية؟ 

 يهدف هذا البحث إلى إضاءة مفهوم القصيدة بالنّثر غير المكتملة العناصر كما يسمّيها بعضهم، أو قصيدة النّثر المكتملة وجودًا ومشروعًا كما ينظر إليها آخرون. ويطمحُ البحث أيضًا إلى مقاربة جوهرِ تشكّلها في البدايات المتعسّرة التي مرّت فيها وصولاً إلى تكونّها وجودًا مستقلاً له شخصيّته المشكليّة متخطّيةً المعيقات والسّجالات التي رافقتها، فالسّجال النقديّ الذي افتتحهُ عبد القادر الجنابي على صفحات مجلّة فراديس سنة 1961، وأدونيس، وأحمد عبد المعطي حجازي الذي نعتها بالقصيدة الخرساء، وقبلهما كتّاب مجلتي “شعر” و”الآداب”، وغيرها من النقاشات لم تتوصّل إلى أجوبة، ولم تجد مَن يصوّب مساراتها، فما نظر إليه النّقاد لم يقدّم مادّة مقنعة، ولا إجاباتٍ كافية، إنّما كانت تلك المقاربات مجرّد انطباعاتٍ وتهويمات لا ترقى إلى مستوى الأحكام. ثمَّ، هل استطاع شعراؤها وبخاصّة أنسي الحاج أن يقدّموها قصيدةً مكتملة، وكائنًا له وجوده الوازن؟

 أبدأُ بقول الشّاعر الحطيئة: 

“والشّعر صعبٌ وطويلٌ سلّمه/إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه/زلّت به إلى الحضيض قدمه/والشّعر لا يسطيعه مَن يظلمه/يريد أن يعربه فيعجمه”.

 

تمييز الشّعر من اللاشعر

 من هذه الزاوية يمكن أن نُطلَّ على الآراء النقديّة المتّبعة في تمييز الشّعر من اللاشعر، فهو علمٌ شديدُ المِراس، ولا يستطيعه غير الرّاسخين في العلم. وأزمة قصيدة النثر في بعض جوانبها تشبه أزمة ما بعد الشّعر الجاهلي والأموي، وهناك ما يُشبه الشّبهة في شّعر ما بعد العصر الأمويّ، فقد سمّى ” بروكلمان” الشعر الجاهلي والأموي شعرًا عربيًّا، وسمّى الشّعر العبّاسي (الشّعر الاسلامي باللغة العربيّة)، فإذا كان هذا الكلام صحيحًا، فالشعر العربيّ ما بعد العصر الأموي يمكن أن تطاله “شبهة” اللاشعر، وأن كلُّ ما أبدعه العرب بعد ذلك التّاريخ يندرج في سياق التّساؤل، وأن كلّ مُحدَث بدعة، وكلُّ ما هو جديد نُسلكهُ في مسار العجمة الفنية أو القوميّة. 

 وقصيدة النّثر خروجٌ متمرّد وثوريّ على الأطر القديمة، وبالتّالي، فكل ما تنجبه إذًا يُعدُّ مخلوقًا مشوّهًا بالضّرورة، وهذا ما واجهته القصيدة في بدء تشكّلها، إذ شُنّت عليها هجوماتٌ وأصواتٌ تتّهم شعراءها بخيانة القوميّة العربيّة واللغة والانتماء، وليس آخر هذه التّهم ما ساقته نازك الملائكة في كتابها ” قضايا الشّعر المعاصر” وما قاله الشّاعر شوقي بغدادي من أن قصيدة النثر “مؤامرة يستغلّها الصّهاينة لضرب التّراث واللغة العربية”،(شريف رزق، مجلّة قصيدة النّثر)، أو ما قاله حافظ صبري من أن هدف قصيدة النّثر “تدمير اللغة وإدخال تراكيب شديدة الغرابة فيها ما يسهم في خلقِ الغربة بين الشّعر والقارئ بشكلٍ عام” (مجلة الآداب العدد 3، آذار 1966، ص 152). وهذه التّهم لم تقف عند حدود الشّعراء العرب، إنّما تعدّتها لتطالَ القصيدة الفرنسيّة، فقد عدَّ المنافحون عن التّراث في فرنسا الشّعر الحرّ بأنّه مؤامرة لتخريب أسس الشّعر الفرنسيّ من خلال (البحر السّكندري). 

 

القصيدة الجديدة

 وإذا كانت القصيدة الجديدة في بعض تجلّياتها تهمة، وشاعرها سجين أوهام الحداثة، فإنها في الغرب مارست دورًا بنائيًّا، وترعرعت في فضاءٍ واسعٍ من الحرّيّة مع لويس برتران وشارل بودلير، ودخلت إلى الشّعريّة مشفوعةً بوجود أشكالٍ شعريّة مختلفة (الملحمة، الشّعر الغنائي وغيرهما)، وعبّرت عن مفاهيم جديدة أوجدتها المدرسة الانطباعيّة في الرّسم في ستّينيّات القرن التّاسع عشر، وكانت استجابة لموجاتٍ جديدة من الأفكار الثّوريّة التي أوجدتها التغيّرات الجذريّة على الصّعد كافّةً (سياسيّة، اجتماعيّة، ثقافيّة …). 

 وهذا التّغيّر أصاب في ما أصاب كوكبةً من الشّعراء اللبنانيين في محاولات التّجديد وكسر بنية الشّكل النمطيّ للقصيدة القديمة، متّكئة إلى كثافة متحقّقة يصعب معها تتبّع نسقيّتها الفوضويّة، وانبثاقها كبناءٍ مضغوطٍ من مستويات النّحو والمعنى، والتي تمَّ انتهاكهما من دون الإساءة إلى قواعد الفصاحة. ففي البناء النحويّ كانت قصيدة النّثر”أشدّ ابتكارًا في بناء الجملة، وفي الجانب التّخييليّ حقّقت القصيدة مروحة واسعة من الحرّيّة والجوازات، وفي جانب المعنى نقلت النقاش إلى موضوعاتٍ جديدة” على حدّ تعبير شربل داغر. وفي هذا كلّه، كان الشّعراء يتطلّعون إلى مساحاتٍ وآفاق ينشرون فيها أجنحة أفكارهم وتطلّعاتهم بما يلابسُ الثّقافات الجديدة، ويُفسحون في المجال لحرّية التّعبير من دون ضوابط، وينظرون إلى الشّعر بوصفه بوّابة خلاص، وعلاجًا للنفس من كل الأمراض والشّوائب والأفكار المكرورة، ويجنحون نحو الميتافيزيقي والرؤيوي بعيدًا من اليوميّات لأن “القصيدة الحديثة ضدّ اليوميّات تمامًا لأنها تتعدّى الفرد والزّمن، في حين تحفلُ اليوميّات بالذّاتيّ واللحظويّ” كما ترى النّاقدة الفرنسيّة ” بياتريس ديدياي”. وعليه، فقد قبل الشّعراء الجدد العناوين الجديدة، والأفكار الوافدة بفعل حركة المثاقفة، وتصالحوا مع الثّقافات المتعدّدة وما حملته من قيم دخيلة على الوجدان العربيّ. واستلهموا تجارب الشّعراء المجدّدين و”المشاكسين” وغيرهم الذين كانوا شهودًا على تطلّعات جديدة تكسر رتابة التّقليد في المعنى والمقاربة، وتؤسّس للغةٍ مغايرة، فآفاق الحياة لا تقف عند حدود التّراث، إنّما تنحاز إلى مواكبة العصر والتّأثير فيه، والإفادة من معطياته. وقد وعى العرب في الأندلس هذه المسألة، فلو استمرّ الشّعر على الوتيرة نفسها التي أرسى قواعدها الأقدمون لقلنا مع الصّاحب بن عبّاد عندما قرأ كتاب ” العقد الفريد” لإبن عبد ربّه، ولم يجد فيه شيئًا جديدًا عمّا رآه من موضوعاتٍ ورواياتٍ ومساجلات في الشّرق العربيّ “هذه بضاعتنا رُدّت إلينا”.

 

خيار جمالي

 إذًا، فالخيار الأساس في قصيدة النّثر هو خيار جمالي، وخيار التّحرّر والنّجاة من قبضة الماضي، واستيلاد البراءة في عالم ظالم، والرّد على قبح الواقع وتسطيحه. فهذا محمد الماغوط ” يكتب كي ينجو”، و” هايدغر” يعدُّ الشّعر ” أكثر الأفعال براءةً” وهو ما يؤكّده على لسان شاعره” هولدرين” من أن الشّعر ” عيشٌ بريء منفتحٌ على الحياة”، وهو فضيلةٌ في تعلّم الصّمت، فسوادُ الصّفحات مساوٍ للبياض، واللامكتوب لا يقلُّ شأنًا عن المكتوب، وهو ما يسمّيه كلوديل بالبياض الذي يُعدُّ مساحة تنفّسٍ وجوديّ يخلقها الشّاعر ليجعل الحياة أخفَّ وطأة.

 ولأن اللغة العربيّة لغة أحياء لا لغة أموات إستمرّ النّقاش حول مصطلح الكلمة، واستوعبت اللغة هذه النّقاشات، وتعاملت معها بروح الانفتاح، فلم ينتهِ المسرح على الرغم من كونه فنًا جديدًا، ولم يبهت شعر الزّجل ولا الشّعر العامّي مع كل الجدل المُثار حول التّجارب الجديدة. وهنا، قد يكون السّؤال مشروعًا عن سبب رفضِ أشكال فنّيّة وقبول أخرى، وهذا مجالٌ مفتوحٌ أيضًا لنقاش عقلانيّ، إذ كيف يُكالُ بميزانين مختلفين في مسألة واحدة؟! وإذا كانت مقولة أبي حيّان التّوحيدي ” أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظمٍ كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم”، فأين الغرابة في أن تزخر قصيدة النثر بمعطياتٍ شعرية، وأن يكون بعض الشّعر الموزون خاليًا من ومضاتٍ شعريّة. فكثيرٌ من القصائد الموزونة لا تجد فيها روح الشّعر، إنّما هي إلى النّظم أقرب، في حين تجد في مقطوعة نثرية شعريّةً تفوق ما في بعض هذه القصائد، فما هو معيار الشّعريّة إذًا؟! أهو البيت والقافية والوزن؟! وقد حسم الجرجاني النّقاش حول هذه المسألة، إذ ليس كلّما اتّفق الوزن والقافية انتجا شعرًا، فـ”الوزن والقافية ليسا من الفصاحة في شيء، إذ لو كان له مدخل فيهما لكان يجب في كلّ قصيدتين اتّفقتا في الوزن أن تتّفقا في الفصاحة”. وهذا أيضًا ما تبنّاه العقّاد من أن ” معظم صفات الشّعر هي صفات النّثر مع شيء من التفاوت في الكّم والتّغاير في المقدار” وما أورده المنفلوطي من أن الكاتب الحقيقي “شاعرٌ بلا بحرٍ ولا قافية، وما البحرُ والقافية إلا حلية زائدة وأصباغ وألوان لا علاقة لهما بجوهر الشّعر”. وهو القول الذي تنبّه إليه رومان جاكوبسون في دراساته اللسانية، وقد تحدّث عن خطابٍ شّعريّ من دون وزن. 

 

آفاق غير مسبوقة

 لذلك، لم تنتهك قصيدة النّثر بنية الشّعر ومعياريّته، إنّما شكّلت إضافة إلى ما سبقها وما سوف يليها مفتّشة لنفسها عن مكانٍ داخل الأجناس الأدبيّة، وذلك، من داخل بيت اللغة الذي وسّع شعراؤها له في العبور نحو آفاق غير مسبوقة، وساعدهم في ذلك ازدهار الطّباعة وانتشار الصّحف ووسائل التّواصل الكتابيّة والرّقميّة، وتراجع الاهتمام بالقصيدة الموزونة، وحال التّرهّل والتّراجع المجتمعي في مستوياتٍ عديدة: اجتماعيّة، سياسيّة وإنسانيّة. فكان الرّدّ من خلال الصّورة التي ظهرت بها، لكنّها اصطدمت بموقف النّقاد الذين راحوا يكيلون لها أيديولوجيًا من دون النّظر إلى فنّيّتها، فحُوكِمت، وصدرت بحقّها أحكامٌ مسيئة من معارضين. في حين قبِلها آخرون، ودافعوا عنها، وعدّوها جنسًا أدبيًّا جديدًا استطاع أن يخلخل البناء القديم، وأن يبني بموازاته بناءً جديدًا يعكس حال الوعي المتشكّل، والتّغيير المطلوب من دون استسهالٍ في كتابتها. وقد لخّص ماكس جاكوب حال شعرائها بقوله ” لكي تكون شاعر قصيدة نثر يجب أن تكون شاعرًا كبيرًا جدًا، وليس أصعب على المرء من أن يكون شاعر نثرٍ أصيل”. 

 وبالعودة إلى تجربة أنسي الحاج المثيرة للجدل، وإلى سؤال الكتابة: مَن يكتب الآخر، الشّاعر أم القصيدة؟ وهل الشّعر يُورَّث؟ أم يبقى بصمةً ماثلة للشّاعر ترافقه من دون تجديدٍ أو ترشيقٍ القصيدة؟ ألا تحتاج اللغة كما الجسد لأن تغتسلَ من أتربةٍ علقَت بها كي تبدو عارية مصفّاة وقابلة للحياة؟! ألا يحقُّ لأصحابها أن يبدعوا شكلاً جديدًا، وفكرًا أجدّ؟ وإذا كان ” لكلّ مقام مقال” ولكلّ زمنٍ لغة تنهض به، وتتلبّسه فاعلة ومنفعلة، فقصيدة جديدة أحرى بها أن تترجمُ روح الحياة المتدفّقة، وتعكس رغبة الإنسان في التغيير والتّطوير، وترسيخ عمارة الروح لأنه وفق مقولة ” جون بيرس ” لا تاريخ إلا تاريخ الرّوح”.

 

الشّعر كائن متحرّر

 ما أريدُ الوقوف عنده هو أن الشّعر كائن متحرّر إذا حبسناه في قفصٍ أزهقنا روحه، وإذا قيّدناه بضوابط دائمة يتحوّل إلى زنزانة، وإذا اعتبرناه نبعًا دافقًا فقد ينضبُ نبعُ الشّعر، ويخفّ تدفّقه، هذا ما اقترفه “رامبو” عندما توقّف عن كتابة الشّعر في عشرينيّاته، ويمّم شطر السّفر والتّرحال محاولاً العيش بين الخاطئين والمجرمين لفهمِ لغتهم، وسكبِ رؤيته في قالبٍ كونيّ، أو “إدغار الان بو” حين ضنَّ عليه نبع الشّعر، فاتّجه إلى القصّة القصيرة، أو “أدونيس” الذي أخرج بعض شعره من الصّفحات وراح ينقّح ويشذّب ليخرجهُ مخرجًا جديدًا، أو ” إزرا باوند” الذي اتّجه نحو التّرجمة لشعراء كبار كي يعيد إنتاج شعرٍ جديد يبقيه قريبًا من الفنّيّة بانتظار تدفّق نبع الأفكار مجدّدًا. 

 وقد يكون الشّعر عبئًا على الشّاعر، وهذا الأمر يطرح سؤالاً ميتافيزيقيّا عن ماهيّة الشّعر: أهو سابقٌ للوجود أم لاحقٌ له؟ هل اللغة هي كساء القصيدة أم عريها؟ أهو طقسٌ يُمَارسُ بسرّيّةٍ وذاتيّة مفرطة؟ أم هو متلبّسٌ الشّاعر وطريقه نحو محو الخطيئة وتطهير الذّات؟ 

 لقد طرح ” رولان بارت” فكرة موت المؤلّف بوصف النّصّ بعد كتابته يخرج من عباءة الشاعر ليصبح ملك المتلقّي، أو كما رأى ” نيتشه” في محاولةٍ لخلقِ قطيعة فلسفيّة بين اللغة (الذّات) والآخر. فلغة الشّاعر ورهافة إحساسه قادتا إلى اختزال العالم وإعادة تشكيله كما يرى ” رامبو” وتموضعه في “المنطقة الخطرة” التي يعبث فيها الشّاعر حيثُ لا مكان للمحايدين والنمطيّين، وهو حصانٌ خاسر حين ينزاح إلى منطقة الوعي. وهذا يعني سؤال التّواصل والفردانيّة، فقد تتطوّر القصيدة إلى أن تكون لسان شاعرها، أو أن تستقلّ عنه، أو أن تتمدّد لتصبح سادنة اللغة وشريان التّغيير المنشود؟! وذلك من خلال السؤال الدائم: هل نحن بحاجة إلى الشّعر، وهل الشّعر مهنة، أم هواية، أم صنيعًا فنيًا يفقد وجوده بقدر فقدان فنيّته؟ 

 ينطوي هذا الأمر على كثيرٍ من التّساؤلات حول كتّاب القصيدة وقرّائها ونقّادها، فكتّابها في ازدياد، وقرّاؤها أكثر من قرّاء القصيدة الموزونة، ونقّادها الذين أولوها العناية اللازمة قليلون. وإذا كانت القصيدة عانت من مشكلة التّلقّي من ناحية القارئ، فإن النّقد أكمل دائرة الأزمة، وذلك، من خلال تجاهل كثيرٍ من الدّراسات الأكاديميّة حولها، وتركيز النّقد على بعض الدّراسات المنفعلة. فالشّعراء إذًا أكثر من النّقاد، والنقد بمعظمه متشدّد، فمَن يحدّد الغثّ من السّمين؟ ومَن يحدّد معايير الشّاعرية وتمثّلاتها التي تعبّر عن واقعٍ جديد بعيدًا من مقولاتٍ قَبليّة او تمثّلاتٍ صراعيّة يتداخل فيها المعرفيّ مع الأيديولوجيّ من دون الالتفات إلى المرجعيّات الجماليّة.

 

تجربة أنسي الحاج فاتحة التّغيير

 يدور مستقبل القصيدة الجديدة في فلك القرّاء والنّقاد، ويأتي تقدّمها السّريع نتيجة التّطور الحياتي، وما رافقه من تغيّراتٍ في مختلف الجوانب تمامًا كالتّجديد الذي يرافق الحياة الأدبيّة في كلّ العصور. ومن هنا كانت تجربة أنسي الحاج فاتحة التّغيير، والطريق الواضح إلى نصٍّ جديد مواجهًا النّقاد بثقة من دون أن ينكسر أو يتراجع عن مشروعه الجديد كالفارس النّبيل الذي يُسقطُ الخصمَ عن حصانه من دون أن يقتله. 

 إن تجربة ” لن” تجربة باذخة التّمرّد، تنطوي على رفض لكل ما هو عصيّ على التّغيير، وهي تصيب المستقبل من دون أن تُسكتَ روح الماضي التّراثي. ويظهر أنسي في مجموعته هذه رائيًا متفرّدًا في المقاربة. لقد نقل الشّعر من الصّالونات والمنتديات إلى رحاب الكون، وأجرى تغييرًا بنيويًّا في روح العبارة وفي جسد اللغة، وقدّمها نابضة بالحياة، رافضة، حرّة من قيود الشّكل، وقدّمها بنية حيّة وعملًا فكريًّا متكاملًا ومتناميًا ومنسجمًا مع وحدة الشّعور والرّؤيا، فالشّاعر حين يكتب أو يتهيّأ للكتابة، إنّما يُواري شيئًا من روحه مع كلّ خلجة أو كلمة، إنّه لا يقطع حبل الخلاص معها، بل يبقى يغذّيها من روحه، فالقصيدة نزفٌ دائمٌ في الرّوح، والشّاعر ولاّدُ كلمات ورؤى، لهذا، فالقصيدة لا تعيش من دونه، هو علّة وجودها، وهي حياته الباقية. وأكثر ما يصل إليه الفنّان، فالقصيدة، كما يقول أنسي الحاج هي ” أرحب ما توصّل إليه توق الشّاعر على صعيد التّكنيك والغموض في آنٍ واحد، فصنيع الشّاعر خاضعٌ أبدًا لتجربة الشّاعر الدّاخليّة” (لن، ص 19). وهي نتيجة طبيعيّة لحياةٍ جديدة. أمّا الاجتهادات التي تصدرُ عن اتّجاهاتٍ نقدية مختلفة، فإنها ولا شكّ، تدفع إلى مزيدٍ من التعقيد وضبابية الرؤية والإشكالات الأجناسيّة من دون أن تبلورَ حلولًا منطقيّة لها.

 يبقى أن أشير إلى أن دراساتٍ بينية موضوعيّة تتوخّى الكشف عن مناطق التّخوم (التّجاور والتّلاقي والتّقاطع والتّشابك) كافية لأن تصل بالقصيدة إلى مناخات جديدة، فلا تبقى القصيدة عندها أسيرة مواقف فردانيّة تطاردها في ساحة النّقد، فتحتكم هذه المقاربات إلى مواقف منصفة. لقد آن الأوان لتغيير الخيول المتعبة من غبار الماضي كي نستطيع مواصلة رحلة الإبداع بسلام! وهو مطلوبٌ لكبح جماح الأصوات المعترضة، والسّير بالنّقاش البنّاء نحو آفاقٍ جديدة.

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. إحاطة شاملة بقصيدة النثر، وتعريج مفيد على الأشكال الشعرية الأخرى. سلمت يراعتك العزيز الدكتور رفيق أبو غوش، وطابت مغارسك العزيز الأستاذ جورج طرابلسي، “قمر مشغرة وبدر وادي التيم”
    سلمان زين الدين