“فلسفة الفنّ في حضرة النّغم” للدكتورة مارلين يونس

Views: 707

  “هل ما زالت الجماليّات ممكنة في زمن ازدهار الكوارث؟ ماذا أقول في حضرة الفلسفة والموسيقى؟ فالأولى تحاول التفكير في الوجود، والثانية (كايروسيّة) تسرّي عن الإنسان عناء التفكير، من المفيد القول أنّ اعتلان  الماهيّة في الموضوعين قد لا يتحدّد على أساس قاعدة ثابتة ، لذلك لن أدخل في سؤال الفلسفة ودلالة النغم، بل إلى فنّ الاستكشاف (ars inveniendi) أو الكشف عن المانح سحرًا وغبطة لفلسفة السؤال والمانح أفقًا ورفعة للسؤال الفلسفي… وسأتطرّق مع الزملاء المشاركين إلى بعض القصائد الّتي تناولت تصوّرات فلسفيّة، بخاصّةٍ تلك الّتي غنّتها فيلسوفة الغناء أم كلثوم والموسيقار محمّد عبد الوهاب، لإظهار المديات الفلسفيّة في القصائد والأنغام”.

    هكذا استهلّت الدكتورة مارلين يونس كلمتها من على منبر قاعة المؤتمرات في الرّابطة الثّقافيّة طرابلس، ضمن فعاليّات معرض الكتاب السّنوي التاسع والعشرين، من تنظيم “منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة الثّقافي”، في ندوةٍ ثقافيّةٍ موسومةٍ بـ“فلسفة الفنّ في حضرة النّغم”، وذلك نهار الأربعاء الواقع فيه 17 أيار 2023، بعد كلمة الأديبة ميراي شحادة التّرحيبيّة الّتي نوّهت بتميّز هذا العمل الرّاقي والفريد من نوعه حيث طرحت الدّكتورة مارلين يونس مقاربة بين الفلسفة والفنّ، وذلك بحضور ومشاركة الأساتذة الباحثين في مجال الفلسفة والأدب ريم الدندشي، يحيا ملص، جوزيف كرم، وكاتيا نادر في مداخلاتٍ بين التّجريد والتّصوير لقصائد: “عندما يأتي المساء”، “رباعيّات الخيّام”، “شمس الأصيل”، و”حديث الرّوح”.

   تابعت الدكتورة مارلين يونس القول: “إنّ التّفلسف ليس ادّعاءً للحكمة أو علمًا نظريًّا بعيدًا عنّا، بل هو فنّ ومسلك وجوديّ (art de vivre) محايث ومتأصّل فينا (immanent)، لا يشعر ويتمتّع به إلّا من أراد أن يجعل من سقف تناهيه سمة ميتافيزيقيّة تمدّنا بفضيلة الاسترخاء (eutrapélie) أثناء عمليّة التفكير أو عند الإصغاء إلى الموسيقى”. 

   وتساءلت: “ماذا يعني إذًا الحديث عن الفلسفة؟ يمكننا اعتبار مجرّد السّؤال عن ماهيتها هو فلسفة. وقد تكون كما اعتبرها نيتشه ابتكارًا للصيغ الوجوديّة أو لإمكانيّات العيش، وعندها تغدو الصّيغ الوجوديّة الممكنة صيغًا إستطيقيّة. في جميع الأحوال نحن مدعوّون لأن نصير ما نحن عليه في الفلسفة أو في الموسيقى. ففي الفلسفة، نعتبر أنّ كينونة الفيلسوف، كما يقول ياسبرز، هي إرادته بأن يصير ذاته وأن يخلق لنفسه في مساحة التّفلسف مكانًا أو إمكانيّة أو تعبيرًا. من هنا يمكننا القول أنّها بعدٌ من أبعاد الماهويّة الإنسانيّة. فالسّؤال في الفلسفة هو ملك للقضايا الكبيرة، وهذا السّؤال في الفنّ يكتسب أهمّيّته من الكيفيّة الّتي استُثمِر بها . والمشكلة الكبرى هي عندما نترك السّؤال ويبقى فقط حسّ الجواب هو الأساس المركون في الوجود. 

 

“وماذا يعني الفنّ وبالتّحديد الموسيقى ؟ يمكن أن نختصره بالشيء الذي لا نستطيع سبر غوره (insondable)، أو ممارسة غير واعية للميتافيزيقيا(لايبنتز). فالفنّ ينبع من أصله، من الفنّ، وباستطاعته أن يؤسّس للحقيقة ويكشف عن الواقع من خلال العرض الحسّي. وبقولنا أنّه هو الذّات والأصل فهذا يعني أنّنا نقدّمه إلى محكمة الفنّ لبحث إمكانيّاته؛ فهو يحاكم نفسه لأنّه كما يقول إتيان سوريو Etienne Souriau هوالتّأسيس أو التدشين للفلسفة instauration de la philosophie . ومع أنّه أقلّ الأشياء إثارةً للتّساؤل في خبرتنا، ومع ذلك فهو الخاصّيّة لكلّ شيء. والفنّ ليس فعلَ اختيارٍ، بل هو محايثٌ، آسر، مستعبِد ومخدِّر. والموسيقى تولّد مشكلات ميتافيزيقيّة لما تتضمّنه من قوىً ازدواجيّة تجعل من الاستحالة فعل إمكان. قد يُخال إلينا أنّها حمّالة معنى Porteuse de sens، أو مرموزة تعبّر بالإيماء والتّورية، أو توتيغوريّة عندما تعبّر عن شيءٍ آخر مختلف عنها. في جميع الأحوال فهي معدّة للمتعذّر بيانه، من حيث أنّها ترفعنا إلى فوق ما هو كائن. ويمكن أن نقول عنها أنّها سرّ كسرّ الحبّ والحياة”. ويسعفنا في هذا المقام قول الفيلسوف جانكلفيتش ” نستطيع أن نعيش من دون فلسفة ومن دون موسيقى ومن دون فرح ومن دون حبّ..  ولكن ليس بشكل جيّد (on peut vivre sans philosophie , sans musique, sans joie et sans amour. Mais pas si bien).”. فهذا الجيّد اعتبره أفلاطون النضفة الحيّة في الوجود، أو الطريق إلى الله، وما الغناء المدرّك بآذان الجسد سوى الغلاف الخارجيّ لنغمةٍ سماويّة (أغسطينوس)”. هذه اللغةٍ الرمزيّةٍ التي تعتمد على نقل الأخيلة من عقلٍ إلى آخر(الفارابي) ليست موضوعًا للتّواصل والتّأويل، بل هي الشّكل الوحيد المتبقّي للإنسان من أجل فضح آلام البشر (أدورنو)، أو وسيلة للتحرّر من سيطرة الإرادة (شوبنهاور)، أو فعل مقاومةacte de résistance ، وهذا بعد من أبعاد الماهويّة الإنسانيّة، لأنّ ثمّة تقارب بين العمل الفنّيّ وفعل المقاومة، مع أنّ فعل المقاومة ليس عملًا فنّيًّا، ولكنّه يمكن أن يتّخذ وجهين: فنحن نقاوم الموت من خلاله، وهنا يجدر بنا الإشارة إلى ما قاله بول كلي (Paul Klee) ليس هناك من عمل فنيّ لا يستدعي شعبًا لم يوجد بعد.. (c’est le peuple qui manque) فالعلاقة موجودة بين مقاومة النّاس والعمل الفنّيّ بحيث ندخلها في عالم السّياسة الحديثة فتخلق مستقبلاً . وهذه الفكرة تعني بأنّنا نستطيع أن نخترع شعبًا لنوظّفه ضمن شروط جديدة من التحدّي والصّراع”.

“أمّا بالنسبة للعلاقة بين الفلسفة والفنّ فكلاهما وعد بالتّغيير والبناء. وكلّ ما فعلته الفلسفة منذ أرسطو وقبله أفلاطون هو نسيان الوجود؛ لكنّ الموسيقى تذكّرنا بهذا الوجود. وقد يشوب العلاقة بين الفلسفة والفنّ الكثير من أنواع التّعالق والتّناقض والتّقاطع مع ما تتيحه هذه العلاقة من تعاكسيّة ديالكتيكيّة؛ يعرّفون الفنّ في معجم اللّغة الفلسفيّة(Foulquié) بأنّه طريق للوجود والممارسة. والفنّان كالفيلسوف هو صائغ للمفارقات(orfèvre des paradoxes) . وعلاقة الجمال بالفلسفة شأنها شأن القضايا الكبرى لا نعرف فيها من استدعى من، ولكن ما نعرفه أنّهما لم يستكملا المحاورة بعد. وما من شكٍّ أنّه علينا التّوقّف عند منطلقاتهما ومآلاتهما. في الحالتين ثمّة علاقةٌ لا نعرف ثوابتها؛ فالموسيقى فاعلها يقتحم عبر سرديّة الخلق والإبداع للأصقاع السريّة والغريبة، والفلسفة تستحوذ على الوجود وتبسط سلطتها التّساؤليّة إلى أبعد من حدود هذا العالم. لذا، قد يكون من الصّعب تعيين مشترك دلاليّ ومعرفيّ قادر على استجماع الاختلاف أو التقارب بينهما ويكفي للتّنديد على ذلك النّظر في مآل ما نسمّيه النِّحلة الانتقائيّة  éclectique  كمحاولة لتخطّي ذلك اللبس. تلك النِّحلة الّتي يقول عنها جوستوس ليبسيوس Justus Lipsius “ليس ثمّة إلّا نِحلة واحدة نستطيع أن ننضوي تحت لوائها بأمان: إنّها النِّحلة الانتقائيّة، تلك الّتي تقرأ بتمعّن وتتخيّر بحصافة”. والسؤال الذي نطرحه هنا هل باستطاعة أجنحة الموسيقى أن تكون مطيّةً الفلسفة للولوج إلى العالم الخفيّ ؟ وكيف نؤسّس لقراءةٍ فلسفيّةٍ للفنّ؟

 “يعتبر بومجارتن  مؤسّس علم الإستطيقا في القرن الثامن عشر أنّ الموسيقى هي نوع من التّربية المستنيرة الّتي تدرّب النّفس على المعرفة الحسّيّة الجميلة. وثمّة ضرب من أناقة المعرفة ولطافتها في أفقٍ يسمّيه الفنّ المستنير الّذي يهدف إلى بناء هذه الثّقافة المستنيرة الجميلة والّتي بوسعها أن تقترح معرفة أكثر دقّة إزاء موضوعات الفكر الجميل. يقسّم بومجارتن هذا النّوع من الثّقافة الجميلة المستنيرة إلى أقسام هي الحقول المذهبيّة الّتي تشتغل على الله والعالم والإنسان؛ وهنا تصبح الإستطيقا نوعًا من الفلسفة الأولى(philosophie première)، أو ميتافيزيقيا خاصّة بكلّ فكرٍ جميل”.

 “إنّ فعل التّفكير الفلسفي اهتمّ بكلّ شيء. أليس مبتدأ أحد تآليف ديمقريطس قوله “سأتكلّم عن كلّ شيء”؟ ولم تكتفِ الفلسفة بألفاظ اللّغة، بل أسّست لها معجمًا مفاهيميًّا خاصًا بها، وهذا الأمر يتوافق مع تعريف دولوز للفلسفة بأنّها إبداع للمفاهيم”. 

   “ما الّذي أثار هذا الجوع المعرفيّ إلى الماوراء وحفّز فعل التّفكير نحو الإشباع؟ كلّ ما أمكن للفلسفة، في حقلها الميتافيزيقي وفي الأنتروبولوجيا الثّقافيّة في تحليلها لأقدم تمظهرات التّفكير، أن تجزم في شأنه هو أنّ الكائن الإنساني لم يكتفِ بعيش وجوده ببساطة بل سعى أيضًا إلى فهمه. لم يسبق أن انتظم وجود بشريّ من دون بلورة رؤية فلسفيّة ميتافيزيقيّة ينهض عليها الوجود. فالإنسان لا يستطيع أن يعيش في الوجود دون أن يستفهم عن معناه ويفكّر في مدلوله ويبحث عن الجوهر الّذي يثوي خلف الأعراض. التّفكير الفلسفي هو من أكثر أنماط الفكر اعتناء بالبحث؛ فالحدود والدّلالات ليس لها معنى حدّي متّفق عليه بين المنشغلين بالفلسفة، فما نريد قوله أن بين الرّوحيّة الفلسفيّة والرّوحيّة الوجوديّة، إحساس تغذّى على الشّعور الكلّيّ المتناغم مع كلّيّة الطّبيعة”.

      وتطرح هنا دكتورة مارلين يونس السّؤال الجوهريّ: “هل السّكن للفنّ في الفلسفة أم للفلسفة في الفنّ؟ كون العلم الفلسفي تعاطى مع الأفهوم، فهو مجرّد مثالي بادّعاء كانط، إذ أنّ معارفنا تتجاوز دائمًا إلى موضوع. لذلك علينا استنطاق بعض المفاهيم كالحرّيّة والفرح والأمل والميتافيزيقيا والموت والوجود.. – هذه المواضيع هي الّتي نتناولها اليوم بالأغنية وهذه المفاهيم هي عتبات غير محروسة، وغير محصّنة، حيث أنّها تترك دائمًا منافذ مفتوحة للتّأويل. بالرّغم من أنّ الفنّ يفكّر بصمت، لكنّ الفلسفة استطاعت أن تهتك أو أن تجسّد هذا الصّمت وتكتبه. ولا ننسى قول سوريو من أنّ كلّ فلسفةٍ عظيمةٍ تملك إشراقًا جماليًّا، حتّى لو لم تتناول بطريقةٍ مباشرةٍ فكرتي الفنّ والجمال، وحتّى لو لم تضع منهجًا للبحث عن الجمال”.   

   أمّا عن الهدف من هذه النّدوة، توضح دكتورة مارلين يونس التّقنيّة الّتي اتّبعتها: “استخدمت اليوم طريقة الفيلسوف إتيان سوريو لكي أغنّي بعض الشذرات من أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب التي سيشرحها الباحثون. وفي هذا الإطار لا بدّ من توضيح شيء أنّه بعد ظهور العديد من تصنيفات الفنون الّتي وضعها الفلاسفة من أمثال موريس نيدونسيل وألان وتشلينغ، قدّم لنا سوريو رؤيته في تصنيف الفنون إلى سبع فئاتٍ . وقد رأى أنّ لكلّ خاصّة حسّيّة، فنّين اثنين، من درجة أولى ودرجة ثانية، غير صويريّة وتصويريّة، هكذا فعل الباحثون تناولوا فلسفة الكلمة المسكوبة على النّغم وأنا أدّيتها.   

الطريقة التي اتبعتها في هذا العمل الجديد والفريد من نوعه في العالم العربي. كلّ باحث صبّ جهده التأويلي الفلسفي والجمالي على أغنية اخترتها من أرشيف عبد الوهاب وأم كلثوم وكانت البداية مع الباحثة القديرة كاتيا نادر وأغنية عندما يأتي المساء .

   فلسفة الغناء وغناء الفلسفة (مداخلة أ. كاتيا نادر)

“إنّ الحياة من دونها ستكون غلطة. هي أقرب شيءٍ بعد الصّمت، تُفصح عمّا لا نستطيع البوح به وعمّا لا نقدر السّكوت عنه… لا ترتبط بهذا العالم ولا تقلّد شيئًا رغم أنّها مؤسّسة على معادلات الرّياضيّات والفيزياء… قوّتها الخفيّة الكامنة فيها هي ضرب من الميتافيزيقيا، ترتبط فيها بسمة الميلانكوليا الفلسفيّة، الحزن الموسيقيّ الّذي، بوصف نيتشه، يبعث البهجة في النّفس على نحوٍ غامضٍ… رغم كونه بحسب ياسبرز حزنًا لاشخصيًّا له بعد تجديديّ. أمّا الموسيقيّ القادر على التّعبير عن آلام السّعادة فهو الّذي يخاطب الأُذن بمتعةٍ إستطيقيّةٍ ويحاكي الرّوح ببعدٍ ماورائيّ موجودٍ في ذواتنا، يقول شوبنهاور، ونتحقّق من وجوده بالسّماع… وعلى الرّغم من أنّ “الكروماتيّة” chromatique  تتناقض مع السّلطنة الشّرقيّة… إلا أنّها خلقت تضادًّا contraste نلمسه في الفنون التّشكيليّة… إنّها الموسيقى الخالصة، إبداع الفنّان الّذي ينقل إلينا حالة القلق البالغ والحَيرة القاسية في جوٍّ تأمّليّ… أمّا الجليل فهو ذاك الانتقال من… مقامٍ إلى آخر، ما يشبه حالة الموت… ومع ذلك، يستمرّ اللّحن كما تستمرّ الإرادة لتواصل وجودها وتحقّقها… لا يسعنا في هذه اللّمحة المقتضبة ألّا نشير إلى اللّحن التّصاعديّ الّذي يتناهى حتّى يصل إلى ذروته، كما الانفعال… يقول شوبنهاور إنّ كلّ انفعالٍ هو حرّ، أي صعود وهبوط decrescendo  crescendo-. كذلك اللّحن يتضاءل في الكثافة، معبّرًا عن حركة الإرادة أو الرّغبة الدّائمة السّاعية إلى الإشباع، لهذا يتحوّل أو يتباعد باستمرار عن القرار من أجل الرّغبة، أو يرتدّ إلى القرار من أجل الإشباع. أمّا اللّحن البطيء… فهو إشباع مؤجّل يطول انتظاره مفرغًا ما في النّفس من ألمٍ ومعاناة. وهذا يتبلور في هذه الجملة من قصيدة “عندما يأتي المساء”: كلّما وجّهت عيني نحو لمّاح المحيّا، لم أجد في الأفق نجمًا واحدًا يرنو إليَّ”، التي غنّتها الدكتورة مارلين يونس .

 

ثمّ تبعها الباحث جوزف كرم في تحليله الرائع للقوافي في أغنية رباعيات الخيام. 

فلسفة موسيقى القوافي (مداخلة أ. جوزيف كرم)

“يقول أحد الفلاسفة إنّ الإنسان لا يكون فيلسوفًا إلّا بدراسة الموسيقى، فالموسيقى مسرح يوصل من خلاله كلّ فيلسوفٍ وأديبٍ وشاعرٍ مبتغاه. والنّصّ… موسيقى داخليّة وخارجيّة تعبّر عن المعاني. هذه كانت الحال عند الخيّام في رباعيّته الّتي غنّتها الظّاهرة أم كلثوم وجسّدت من خلال قوافي الخيّام… فلسفة موسيقى القوافي. فالقافية بتبدّلات نغماتها أدّت دور ضابط إيقاع الحالات النّفسيّة… بدءًا بالقافية الرّائيّة التّكراريّة الّتي تفيد تردّد الصّوت… نقلته أم كلثوم من السّمع الواعي إلى السّمع الباطنيّ العميق… ثمّ القافية الحاضنة الّتي تمثّل الاحتواء داعيةً إلى عدم القلق واستغلال الأمان الموجود الغائب (لا تشغل البال بماضي الزّمان)…  ثنائيّة الحضور والغياب الّتي جُسِّدت بالضّعف مع اللّام المكسور الرّقيق ، فالواقع أليم والقلب سقيم، لكنّ اللّام ما لبثت أن تحوّلت بعدما استنجدت بخالقها إلى قافٍ شديدة منصوبة تبيّن حالة الكاتب المتعب… الّذي يقوى بالحبّ والعشق. بعد مروره بتلك البنية الشّعوريّة الهرميّة… يعود الكاتب إلى قافية الرّاء التّكراريّة حيث يتكرّر النّداء ويشير إلى تواتر الأيّام وتواليها بالنّوم والسّهر والأرق، ليعود بعدها من جديد إلى حضن النّون المكسورة، الحضن المنكسر الّذي على الرّغم من انكساره يُعَدّ مصدر راحة وأمان ومدعاة هرب من القلق تجسّد في النّهاية مع قافية الباء الانفجاريّة، دعا من خلالها الكاتب إلى الهدوء المغلّف…استقرّت حاله في النّهاية في الظّاهر فقط، لكنّها حملت داخلها بركانًا متفجّرًا مشاعرًا وأحاسيس من قلقٍ وهدوءٍ وتخبّطٍ وسهرٍ وحبٍّ وشوقٍ تمثّله مرحلة الشّباب”. وهذا ما يتجلّى في مقطع “لا تشغل البال من قصيدة رباعيات الخيّام (أم كلثوم)لا تشغل البال  بماضي الزّمان ولا بآتي العيش قبل الأوان، واغنم من الحاضر فليس في طبع اللّيالي الأمان”، الذي غنته الدكتورة مارلين يونس.

أمّا المداخلة الثالثة فكانت مع الباحثة النهمة الأصيلة ريم الدندشي التي تناولت أغنية شمس الأصيل .

   (مداخلة أ. ريم الدّندشي)

   “هل نتنفّس السّؤال الوجودي في حياتنا وغنائنا؟ هل نسأل عن المعنى والمآل مع كلّ تساؤلٍ وجودي؟ فالفيلسوف هو المنادي لهذا الوجود… بهذا، هل نحتاج إلى لغة منطوقةٍ من أجل إضفاء معنًى ذهنيّ على الانسياب الإيقاعيّ للانفعال الموسيقيّ؟ نسائل دكتورة مارلين عن ذلك في “شمس الأصيل”… “تحفة ومتصوّرة في صفحتك يا جميل”. إنّه انسكاب الوجود في الذّات، في انفساحات الكينونة الّتي تمدّها بنسغ حياةٍ مغاير. فالذّات تنصهر في الحسّ الوجوديّ الوجدانيّ، تتراءى في انعكاس مرآوي يؤانس حسرة وآهات ولحظات إشباع ترشح على ركح الذّات. مع “شمس الأصيل” وصل مع الخلق الأوّل بروعته واندهاشه، توحّدًا مع المطلق، يتجلّى على صفحة الذّات انعكاسًا مرآويًّا، للصّفاء والمحبّة والانتشاء والتّحقّق. مع “شمس الأصيل” نباشر سكرًا وخدرًا وتأويليّة ذلك الحاضر بغيابه… أقصى أنات التّوجّد. نعاين انتشاءات غياب أعتى رمز رومنطيقيّ انصهارًا في عالم الأنا والأنت. مع “شمس الأصيل” يتوارى الوجود في عناصر الكينونة، ويملأ السّمع ضحكة الكروان، يضجّ الكون بموسيقى الألوهة ملامسة مفاتيح النّيل، فنعبق بنداء هذا الكلّيّ الّذي يعزف نغم الوجود، وينعي من لا يجيد لغة الألوهة”. ثمّ غنّت دكتورة مارلين يونس جملة “بايتين حوالينا نسمع ضحكة الكروان على سواقي بتنعي عاللّي حظّو قليل”

ومسك الختام فكان مع الباحث الواعد المتمرّد والرصين يحيا ملص من خلال أغنية: حديث الروح .

   تجربة اللّامتناهي في الموسيقى (مداخلة أ. يحيا ملص)

   “هذا ما لا نستطيع فِعلَه بالفلسفة” يقول هيدغر في العزف… والميتافيزيقا… هي أحد إمكانات الميتافيزيقي. ونعني… كلّ ما يبقى بعد اندثار الميتافيزيقا، وانهيار الأديان من على وجه الأرض، لأنّ جوهر الحضور الذي للميتافيزيقيّ – كما في الفهم الهرمينوطيقيّ والتفكيكيّ المعاصر – هو أنّه غير حاضر بالفعل؛ إنّه أفقٌ وإمكان.

أليست الموسيقى أفقًا وإمكانًا للوَمْض الميتافيزيقي؟ أليست الموسيقى فنًّا يعبّر بأفضل الأشكال عمّا دعاه إميل سيوران “تجربة اللامتناهي”؟ ألا يمثّل إطلاق العنان للّامتناهي الموسيقيّ أنسب طريقة لصَوْن الإلهيّ من محاولات الميتافيزيقيّين واللاهوتيّين في الاستيلاء على “الألوهة” عن طريق المفاهيم… والصيغ، والمعادلات، والبراهين؟ ألا تستحيل الكلمات إلى أضرحة للإلهيّ؟ هل تبقى الكلمة حيَّةً بعد تقاذفها على جميع الأفواه والألسن؟ ألا تفسدها الأنفاس والمناسبات؟ هل هناك كلمات لا تزال تنبعث منها رعشة الخَلق الأوّل؟ “ما من لفظ غير منتَهَك، ما من لفظ نقيّ”؛ يقول سيوران.

الميتافيزيقيّ كامتلاء بلا مضمون، أو كأفق لا متعيّن، ولا يتعيّن بمضمونٍ بعينه، هذا الميتافيزيقيّ إذ يعبّر عن نفسه موسيقيًّا فهو لا يفعل سوى إعطاء الألوهة لغزها المهدَّد بالاختفاء. أيُّما منظومة مفاهيميّة راسخة تتزعزع جذورها وتتداعى أمام “نداء الأقاصي” الآتي من نوتة موسيقيّة. وليس لرؤية العالم المسنودة ببرودة المفاهيم معقوليّة أكثر ممّا لتلك الأقاصي المنبثقة من دموع الموسيقى! ماذا لو أنّ الألوهة لا توجد إلا بمقدار ما توجد الموسيقى؟ وماذا لو أصبح الإلحاد خطأ في الذوق، لا خللًا في العقل والاستدلال؟ كتب أحد  كبار الفينومينولوجيّين: “إنّ اللامقول indicible ذروة اللغة”. والموسيقى لا تقول إلّا المستحيل، لغة الموسيقى امّحاء اللغة… من المؤسف إذن، أن لا يمرّ طريقنا إلى اللامتناهي إلّا عبر الأديان والفلسفات )الميتافيزيقا حصرًا(!… مهما اشتد قصد الحقيقة قلّ حظّها من بلوغ العبارة”؛ على حدّ تعبير جورج غوسدورف. ما الموسيقى سوى حلم الحفاظ على عنفوان المعنى في معيشه الأوّل، والخوف من أن يتلاشى وهو في طريقه من الروح إلى النوتة، ثمّ إلى العبارة؛ فالروح من فرط حميميّته يتلاشى بمجرّد حلوله في أنّة، أو لفظة. ومن هنا… هل من الممكن ل “حديث الروح” أن يقال؟ 

تغنّي دكتورة مارلين يونس مقطعًا من أغنية “حديث الرّوح”:                                                  

“حديث الرّوح للأرواح يسري وتدركه القلوب بلا عناء

هتفت به فطار بلا جناح وشقّ أنينه صدر الفضاء 

ومعدنه ترابي ولكن جرت في لفظه لغة السّماء    

لقد فاضت دموع العشق منّي حديثًا كان علويًّا ندائي 

فحلّق في ربا الأفلاك حتّى أهاج العالم الأعلى بكائي”

ويبقى السّماع سيّدًا. لست أدري إن كنتُ وُفِّقت في إيصال نشوة الحاضرين في هذه النّدوة أم لم أُوَفَّق، لكنّي أفخر أنّي شهدت وسمعت إبداعًا قد خلته مستحيلًا، فإذا به حيّ مُستطاعٌ في فكر دكتورة مارلين يونس وصوتها ورؤيتها التّجديديّة الرّائدة في العالم العربيّ.

                                                                                               كاتيا نادر    

باحثة لبنانيّة في الفلسفة والعلوم السّياسيّة والاجتماعيّة  

 

     

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *