في مسألة العقْد الاجتماعيّ الغربيّ

Views: 467

نبيل علي صالح*

حاولَ الإنسانُ منذ بداية حياته، تنظيمَ شؤونه، ووضعَ ضوابط عمليّة لحركته الاجتماعيّة في علاقاته الخاصّة والعامّة، بما يؤدّي إلى تحسين ظروف عيشه وتحقيق الأمان في حياته، في ظلّ واقع الخوف والصراع الذي كان يعاني منه.. وقد سلكَ هذا الإنسان طريقَ السياسة منذ أن عرفها باكراً، للوصول إلى مبتغاه في بناء الحياة الأفضل والأنفع له على صعيده الذاتي والعامّ..

لكنّ السياسة التي كانت تُدار سابقاً منذ أيّام الإغريق الأوائل على قواعد نظريّة مثاليّة، بحسب ما عرفناها زمن أفلاطون، باتت تتحرَّك وتُدار – في عُرف فلاسفة الغرب عموماً – بالاستناد إلى قاعدة المصالح والمَنافع، بصرف النَّظر عن معياريّة المبادئ الأخلاقيّة؛ فالسياسة، بحسب مقولاتهم، فنُّ تدبير الشأن العامّ وإدارته، ولا علاقة لها بأخلاقيّات المُجتمع وأعرافه، سواء كانت أخلاقيات دينيّة أم عرفيّة تقليديّة اجتماعيّة.

هذا التغيير البنيوي، الذي تمَّ بموجبه قطع السياسة عن الأخلاق والغايات المثاليّة، سيدخلُ لاحقاً في كلّ أفكار ومعارف فلاسفة الغرب وحكمائه قبل سياسيّيه، ممَّن تحدّثوا وكتبوا في فضاء السياسة وفلسفة بناء الدولة، وحاولوا اكتشافَ آليّات تنظيم و”إدارة” الشّأن الاجتماعي والسياسي العامّ، ولاسيّما منه مجال العقد الاجتماعي الذي يعودُ الفضل الأساس في تطويره وصياغته الحديثة إلى المنظِّر والفيلسوف الاجتماعي “توماس هوبز” (1588 – 1679)، الذي أوضح في كتابه “اللّفياثان: الأصول الطبيعيّة والسياسيّة لسلطة الدولة“، أنّ الدولة، ككيان سياسي منظَّم، هي نتاجُ توافقٍ بين مجموعة من الأفراد، يجب الخضوع له للانتهاء من الحالة الطبيعيّة، التي هي حالة “فطريّة” عشوائيّة غير منظَّمة، تقومُ على أشكالٍ عديدة من الهَيْمنة والصراع والعنف. كما تتأسّس على حربِ الكلّ ضدَّ الكلّ، والواحد في حرب ضدّ المجموع؛ أي أنَّ النوازعَ الشّريرة هي التي تُسيطر على الإنسان بحسب هوبز.. وأنّه لكي ينتهي واقع الصراع وحالة الحرب البائسة (التي هي نتيجة لنزعةِ الشرّ وللأهواء الطبيعيّة التي تُسيِّر البشر، عند انتفاء قوّة فعليّة تنظِّم حياتهم)، ويضمنُ الناس العيش بسلام وأمان، يجب فرْضُ قَيْدٍ على أنفسهم، والقَيْد هو إيجاد مجتمع تسوده قوانين تَحكم الجميع، فيزول ساعتئذٍ الخوفُ والنِّزاع والصراع والاحتكام للقوّة وأدواتها.. بما يجعلهم يعيشونَ في إطار مبادئ الدولة التي هي القوّة الملزِمة القادرة على جَعْلهم يحترمونَ تنفيذ تعهّداتهم التعاقديّة خوفاً من العقوبة، كاحترام قوانين الطبيعة (العدالة، الإنصاف، التواضُع، الرحمة ومعاملة الآخرين المعاملة نفسها التي نرتقبها منهم) التي تشكِّل نقيضاً للأهواء الطبيعيّة.. أي أنّه يجب تثبيت قوانين سياسيّة اجتماعيّة متَّفق عليها مسبقاً، بين الحاكِم والناس، لا يُمكن لأيّ شخصٍ، مهما كان حجمه ونَوعه ووضعه، خرقها أو تحدّيها وإسقاطها.. وهذه القوانين “الاتّفاقيّة”، إذا صحّ التعبير، هي روح هذا العقد الاجتماعي السياسي، وهي تكون موضع احترام لأنّها تُثير الخوف.

استبدال القانون الطبيعيّ بنظيره البشريّ

وما يعنيه الاتّفاقُ هنا، بحسب ما توصّل إليه فلاسفة الأنوار الغربيّة، كهوبز ولوك وروسّو وغيرهم، هو أنّ السّلطة السياسيّة لا يُمكن أن تكونَ مشروعةً، وبالتالي فعّالة ومُنتِجة، إلّا إذا انعقدت بناءً على اتّفاقٍ مع الشعب، وبما يُرضي ويُحقِّق تطلُّعات هذا الشعب الذي يمثّلُ الإرادة الحرّة التي ينبغي أنْ تخضعَ لها آلةُ الحكم السياسي بناءً على ذلك الاتّفاق السياسي المسبق المُنعقد بإرادة مجتمعيّة حُرّة كما قلنا..

هنا بالذات كانت نشأة فكرة المُجتمع السياسي الذي هو عبارة عن الجماعة البشريّة (الناس) الخاضعة لسلطة سياسيّة عليا بإرادتهم المشتركة.. فقاموا بإنشاء الدولة التي كانت نتيجة الاتّفاق النّابع مِن إرادِة الناس (الجماعة الحرّة) التي تحكمُها السلطة، ومشروعيّة هذهِ السلطة نشأت نتيجةً لِعقْدٍ أُبرِمَ بين الأفراد في داخِل المُجتمع مِن أجل إنشاء هيئة تتولّى حُكمَ الأفراد وتنظيم شؤونِهم والفصْل بالخصومات في ما بينهم، وحراسة مصالحهم، وتأمين ظروف العيش الآمن والمستقرّ لهم.

وعلى هذه الهيئة أنْ تُمارِسَ السياسة بمعزلٍ عن مبادئ الأخلاق وقيَم الدّين بحسب فلاسفة العقد الاجتماعي، الذين انتقدوا فكرة أصالة الأخلاق أو نظرة الأخلاق الأرسطيّة، وانقلبوا على إفادة أرسطو ورأيه حول “أخلاقيّة السياسة”، مُعتبِرين أنّ مُعادلة الغاية تبرِّر الوسيلة“، وهي بالمناسبة مُعادلة ميكيافيلليّة تلخّصُ رأيه في أنّ الطبيعة البشريّة متمحورة حول الأنانيّة وحبّ الذّات (عبد الرحمن بدوي، ربيع الفكر اليوناني، 1979)، هي المعادلة الأهمّ في مسار وعي العمليّة السياسيّة واشتغالاتها العمليّة.. وهي معادلة تأثَّر بها توماس هوبز إلى حدّ أنّه كان يرى أنّ الناس كانوا يعيشونَ في البداية على الطبيعة القائمة على النِّزاعات والحروب، (حيث لا ضوابط ولا معايير ولا محدِّدات)، ما دعاهم للبحث في كيفيّة استحداث تنظيمات ومعايير (ضوابط) اجتماعيّة تنظِّم علاقاتهم الاجتماعيّة بعضهم ببعض من أجل الدّفاع عن أنفسهم من الأخطار الخارجيّة كالطبيعة أو الأقوام الأخرى.

وعلى الرّغم من كلّ حالات الاختلاف والتنوُّع والصّراعات والتبايُن الكبير في الرؤى السّياسيّة والاجتماعيّة للمفكّرين، فقد تمَّ الوصول إلى عقْدٍ اتُّفق من خلاله على استبدال القانون الطبيعي، الذي كان يُنظِّم حالتَهمْ الطبيعيّة، بقانون مِن وضعِ البشر نتج عنهُ إعادة السياسة إلى المجتمع والناس، (تكوُّن المجتمع السياسي) وبناء مقوّماتٍ أساسيّة لحقوق مدنيّة وسياسيّة (تكوُّن مجتمع مدني بمعناه الأوّلي).. ليكونَ هذا العقْد هو الذي يُجسِّد الطابِع الإرادي والاصطناعي للدولة في فلسفتها السياسيّة الجديدة التي أُقيمتْ على فكرة أو مبدأ المواطنة البعيد عن مسألة الدّين ورجالاته في صَوْغ معاني السياسة وفلسفة بناء الدولة وتأسيس المجتمع السياسي والمدني الذي ظهر لاحقاً، بما يُعيد الاعتبار للذات البشريّة كذاتٍ فرديّة حرّة بكلّ ما تشتمل عليه من خصائص ومضامين أخلاقيّة.

وإعادةُ الاعتبار للذات البشريّة كانت تعني لدى فلاسفة الأنوار – وعلى رأسهم جان جاك روسّو – أنّ الإنسانَ مخلوقٌ (كائن) طبيعي، وغايته تكمنُ أساساً في الوصول إلى الرفاهيّة والحصول على السعادة. وهذا حقٌّ طبيعي، إضافة إلى كونه حقّاً اجتماعيّاً أيضاً، وقد مدّته الطبيعة بقوّة الاندماج مع الجماعة بواسطة التعاوُن والتّفاعل والتّعايش والتشارُك. ولذلكَ ألحّ “روسو” على ضرورة ضمان تقنين هذا التعاوُن في إطار الدولة “كسلطة وقانون ناظم للعلاقة بينها وبين الشعب”، والتي من أهمّ وظائفها ضمان تحقيق سعادة الفرد، بضمان حقّه الطبيعي (جان جاك روسّو، العقد الاجتماعي).

إذاً، يقومُ مذهبُ روسّو على كون الإنسان صالحاً بطبيعته، مُحبِّاً للعدل والنظام، فأفسده المجتمع وجَعَلَه بائساً.. والمُجتمع سيّئ لأنّه لا يساوي بين الناس والمنافع، والتملُّك جائز لأنّه مقتطَعٌ من الملك الشائع الذي يجب أن يكونَ خاصّاً بالإنسانيّة وحدها، فيجب أن “يقضي” على المجتمع إذن، وأن يرجع إلى الطبيعة، وهنالك يتّفقُ الناس بعقْدٍ اجتماعي على إقامة مُجتمع يرضى به الجميع، فيُقِيمون بذلك هيئةً تمنح الجميع الحقوق ذاتها، وتقوم سيادةُ الشعب مقام سيادة الملك، ويتساوى فيها الناس، وتُنظَّم فيها الثروة والتربية والديانة (جان جاك روسّو، أصل التفاوت بين الناس).

لكنّ المفكّر البريطاني “جون لوك” – الذي عاش في القرن السابع عشر – كان يعتقد أنّه لا ينبغي تنازُل الأفراد عن حقوقهم وممتلكاتهم في العقْد الاجتماعي، بل يجبُ تبادلُ الاعتراف بها من قبل الأطراف، وعلى الدولة حماية ذلك من خلال سلطاتها الموضَّحة بالقانون، وأعطى الحقَّ للأفراد في الوقوف بوجه أيّ سلطة استبداديّة تنتهك حقوقه (جون لوك، في الحُكم المدني).

في الخلاصة يُمكننا القول إنّ الفلاسفة الثلاثة (توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسّو)، اتّفقوا على أنّ العقد الاجتماعي يقوم على فِكرتيْن أساسيّتَيْن، الأولى: أنَّ هُناك حالة فِطريّة بدائيّة سبق أن عاشها الأفراد مُنذُ فجر حركة التاريخ؛ والثانية: شعور الأفراد بعدم كفاية هذه الحياة الأولى لتحقيق مصالِحهم وتمكّنهم من تجسيد حاجاتهم الأساسيّة؛ وهذا ما دفع هؤلاء الأفراد للاتّفاق في ما بينهم على أن يتعاقدوا للخروج مِن هذه الحياة الفطريّة البدائيّة العشوائيّة التي تُهيمِن عليها الصراعاتُ والاحترابات، بمُقتضى عقْدٍ اجتماعي يُنظِّم لهُم حياةً مُستقرّة وآمنة.. أي تعاقدوا على إنشاء سلطة (دولة).. وبذلك انتقلوا من الحياة البدئيّة الفوضويّة إلى حياة الجماعة المنظَّمة القائمة على الدستور والقانون.

وفي الإطار العامّ، يشترك كلّ منظِّري العقد الاجتماعي بفكرة أنَّ القواعدَ السياسيّة والاجتماعيّة والقانونيّة والأخلاقيّة لأيّ مجتمع، ليس من الضروري تبريرها بناء على أفكار خارجيّة مفارقة، بل يمكن (ويجب) تسويغها عقلانيّاً وواقعيّاً، وأنّ “شرْعَنَتَها” لا يجبُ أن ترتكز على حقيقةٍ فوقيّة أو سببٍ خارجيّ مُفارِق للواقع المعاش، بل تُعتبَر نتيجة طبيعيّة للاتّفاق العقلاني بين بني البشر، تحدثُ بدوافع أرضيّة بحتة نتيجة ظروفهم وأوضاعهم وضغوط الواقع عليهم، وحركة تدافعهم بعضهم ضدّ بعض.

***

*كاتب وباحث من سوريا

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *