عودة الروح

Views: 382

د. جان توما

عاد صاحبنا إلى الثغر المالح بعد غياب ٤٨ سنة. عَبَرَ القارات كلّها، دراسة وعملًا، مؤسّسًا عائلة لا تتقن العربيّة. سافر للعلم عام ١٩٧٥ في بداءة الحرب الأهلية وتبعه إخوته، ثمّ لحقتهم والدتهم، بعد موت زوجها، وبقيت هناك تناجي روحها روح زوجها، في الميناء العتيق.

بعد ٤٨ سنة أحبّ أن يصطحب عائلته إلى موطن جذوره، جال معهم في الحيّ الوالديّ، والبيت الأول، والملعب الأول. فرح بما وقع عليه بصره من ملاعب الصبا، ووجوه التقاها على معرفة، ووجوه تمنّى لو رآها، لكن العمر سبقه، وأودعها تراب الشاطئ البحريّ المالح.

تردّد في أن يصطحب أولاده إلى دكان أبيه العتيق في الحيّ القديم. كان والده يخرج باكرًا إلى المحل، يبيع الألبسة ولزوم الهندام المرتّب، ليعود ظهرًا إلى البيت ليرتاح ويعود من جديد إلى المحل. في هذا المكان كان يقضي العائد يومياته، بمساعدة أبيه في العمل يوم كان طفلًا، قبل سفره.

حاول أن يقنع قلبه أنّ لا ضرورة لزيارة الدكان فقد أغلق من زمان، ولم تعد إليه الحياة. لكنّ رغبته غلبته، مضى مع أولاده، عَرَجَ من تحت القنطرة الحجريّة، أطلّ على المحل من بعيد، دارت به الأيام، رأى والده واقفا أمام الباب ينتظر عودته، بسط أبوه يديه، أسرع العائد بعد ٤٨ سنة ليلقى والده… أسرع الخطى، رأى الباب بعيدًا، بكى كثيرًا، جرفته دموع الذكريات، لكن يد والده انتشلته من وجع السنين، وأودعه ابتسامات الأحفاد الذين حضروا ليقراؤا العمر الذي مضى في كتاب المدينة المقدّسة.

***

*الصورة رمزيّة للفنان جاك أرتو

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *