نعيمه – جبران: خيط الحرير الأبيض

Views: 284

سهى نعيمه

 

مؤتمر مئويّة “النبي”

الجامعة اللبنانيَة الأميركيّة LAU بيروت

 

يغزِل خيطُ الحرير الأبيض غزلَه فيصلُ الأرحامَ ببعضها البعض ويصلُ المصائرَ ببعضها البعض في حَبْكَة وجودٍ تمتدّ من الأزل وإلى الأبد. وها هما جبران ونعيمه، تتّصلُ حياتُهما ببعضهما البعض عبر هذا الخيط الحريري الأبيض، فينسُجهما معاً وتتجانس قلوبُهما وأفكارُهما وأرواحُهما، كما وصف ميخائيل نعيمه (2018) مصير جبران عند ولادته في بشرّي (6 كانون الأول، 1883) المربوط بخيطٍ حريري أبيض مع مصيرِ ماري هاسكل في مدينة كولومبيا، من ولاية سَوْث كاروليْنا (ص. 29)، في كتابِه عن جبران خليل جبران بعنوان جبران خليل جبران، حياته، موته، أدبه، فنّهالصادرعام 1934 في لبنان، بعد رَحيل جبران (10 نيسان، 1931)،إبَان عودة نعيمه من هُجرته الأميركيّة (خريف 1911 – ربيع 1932).

كيف حَبَك ذلك الخيطُ الحريري الأبيض مساريْ جبران ونعيمه؟

من اليمين إلى اليسار: ميخائيل نعيمه، عبد المسيح حدَاد، جبران خليل جبران، ونسيب عريضة – من كتاب الدكتور نديم نعيمه (1978) طريق الذات إلى الذات، التُقطت سنة 1920، قد لُوًنَتْ حديثاً على الفايسبوك.

 

في حزيران 1921، اتفق ميخائيل نعيمه، وعبد المسيح حدّاد، وجبران خليل جبران، ونسيب عريضة على قضاءعطلة عشرة أيّام في البريّة، في كاهونزي، التي تبعد نحو مئة ميل عن نيويورك “وهي واقعةٌ في قلب غاب تمتدّ أميالاً كثيرةً شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً.  فيها أنهارٌ وجداولٌ وبحيراتٌ ومنخفضاتٌ وتلالٌ وأماكن مدغلة قلّما تطأها رجْلُ إنسان” (نعيمه م.، 2018، ص. 235). 

في كتابه عن جبران بعنوان جبران خليل جبران – سيرة، يتابع نعيمه (2018) وصفَ جمال ذلك المكان وتلك اللحظات المميّزة التي قضاها الأربعة سويّا:

“في تلك العُزلة الطافحة بالسلام، المعطّرة بالسكينة، المكحّلة بالجمال قضينا عشرةَ أيّام مرّت كعشر دقائق.  فقد كنّا كأربعة عصافير أُفلتَتْ من أقفاصها” (ص. 235).

“أمّا أغانينا فكانت كلّها من الأغاني القوميّة القديمة المعروفة في لبنان وسوريّا،  مثل “العتابا” و”الميجانا” و”أبو الزلف” و”المواليا” . . . فأنشدنا جبران “موّالاً” كان شديدَ الإعجاب به ومطلعَه:

’يا زين عن درب الهوى ضعنا       من كتر ما فيكم تولّعنا.

مشتاق إليكم والمجال بْعيد              يا ريتْنا كنّا تودّعنا” (ص. 237).

ويتابع نعيمه في سرده:

“وآن وقتُ العودة.  فودّعنا الشلّالَ حاملين صلاته في أرواحنا وجمال هيكله بين أجفانِنا . . . وانتهى بنا الكلامُ إلى الصمت الذي هو أبلغ من كلّ كلام” (ص. 239).

فقطع الأربعة مسافةً من الطريق على وقع أفكارِهم الصامتة، كما شرح نعيمه،وهم في هدْوة وهدْأةالطبيعة.  “ونحن كذلك، وإذا بجبران يقف فجأةً ويضربُ الطريقَ بعصاه وينادي ’ميشا!‘  فأقف مثلَه وألتفتُ إليه.  فأرى بهجةَ الشلّال قد طارت من عينيه وحلّتْ محلَّها سحابةٌ من الكآبة المريرة.  ثمّ يناديني ثانية باسمي ويقول: ’ميشا!  أنا نبأٌ كاذب  I’m a false alarm.  ثمّ يطرقُ ويعود إلى الصمت” (ص. 240).

الصورة الشهيرة: جبران إلى اليمين ونعيمه إلى اليسار، في كاهونزي، من كتاب نعيمه (2018)جبران خليل جبران – سيرة، (ص. 242).

 

ويتابع نعيمه وصفَه:

“في كلّ الوقفات التي وقفتها وجبران خلال خمسَ عشرة سنة، لسْت أذكُر وقفةً كانت أبعدَ أثراً في نفسي من تلك الوقفة.  ومن كلّ ما قاله لي منذ التقينا حتى افترقنا لم يهزُّني شيءٌ مثلما هزّتني تلك الكلمات الثلاث” (ًص. 240). 

ولماذا هزّتْ نعيمه هذه الكلمات الثلاث؟ 

لأنّ هذه الكلمات الثلاث تطوي عُمقَ صداقةٍ تخترقُ الظواهرَ إلى الأعماق، فيُدْخل جبران ميشا إلى باطن الروح. 

“ومثلما هالَ جبران أن أكونَ مخدوعاً بظواهر حياته عن بواطنها، هالَني أن يمضيَ في اعترافه أمامي فيجْلدَ نفْسَه العاتيةَ المتمرّدةَ أمامَ عينيّ وينزعَ عنها دروعَها العديدة، ويتركَها عريانةً وبلا سلاح.  ومن ثمّ فمن أنا لأقْتبلَ اعترافَ نفْس وإن تكن أختاً لنفسي؟  وقد تكون نفْسي أحْوَج إلى الاعتراف منها . . . ” (ص. 241).

وما هي أواصلُ تلك العَلاقةِ العميقةِ التي ربطَتْ نعيمه بجبران؟ 

أعودُ إلى ربيع تلك السنة، 1921، حين أفاقَ نعيمه على حُلم قضّ مضجَعَه.  فها هو يرى رجلاً أحاطَتْبه حيطانُ بئر عميق وهو يحاول الخروجَ منه ولا يستطيع.  وعلى وجهه وحركات جسدِه البطيئة كلُّ علامات المرض “أو كأنّه بقيّةٌ من الحياة تسرْوَلَتْ بسراويل الموت.  فناديته بأعلى صوتي: ’جبران!‘  وأفقْتُ مذعوراً من صوتي ومن الصورة التي رأيتها” (ص. 231). 

وعندما التقى الصديقان في صباح ذلك اليوم، عرفَ نعيمه من جبران أن عوارض صحّيةً جديدةًظهرَتْ عليه. كما تشاركَ الصديقان أحلاماً أُخرى خاصّة، تارة من ميشا حين كان لا يزال طالباً في روسيا وطوراً من جبران وحُلم قديم له، وفسّر الإثنان حُلمَهما رموزاً ودالّةً إلى الطريق لحياتيهما (ص. 232 – 233). 

وتحابكَت الخيوط الحريريّة البيضاء وتشابكَتْ وها هي تنسجُ قصّةَ حياة واحدة لرَجُلَيْن خُيّل إليهما أنّهما غريبان بدايةً ليكتشفا كيف أنّ الواحدَ منهما متصلٌ أعمقَ الاتصال بالآخر وما هما إلّا نموذجٌ واحدٌ، متنوّرٌ، لبشريّة جمعاء، في ظاهرها متفرّقة، إنّما مصدرُها أبداً واحدٌ ومصبُّها أبداً واحدٌ، وهو ذلك النورُ الإلهي الصائغُ لكلّ ذات ذاتاً من ذاته.

رسم لميخائيل نعيمه بريشة جبران – من كتاب نعيمه (2018) عن جبران وسيرة حياته (ص. 255)

 

أمامي هي التي أُصوّرها.  والوجه يعكس كلّ معاني الروح لمن يعرف كيف يسْتجْليها.  والفنّ كلّ الفنّ في تصورها.  فهي مُركَبة من دقائق لا تُحصى.  تُبْصرها عينُ الفنّان إذا كان أهلاً لأن يُدعى فنّاناً وقلّما تُبْصرها عينُ صاحبها’” (ص. 254).

قائمة (Table) لإظهار تشابُه وتشابُك المصير بين جبران ونعيمه:

 

مصدر هذه المعلومات هو كتاب الدكتور نديم نعيمه (1985) ’الأنبياء اللبنانيّون الأميركيّون‘ The Lebanese Prophets of New York

وما هذه القائمة (Table) إلّا لتبيان أوجه الشبه في مصيرَيّ جبران ونعيمه اللذين جمعتهما خيطانُ الحرير البيضاء، الصادرة من مكّوك واحد، فتعانقا وتعارفا قبْل أن يلتقيا ويتعارفا، فها هما في نيويورك يلتقيان للمرّة الأولى ضمْن جمْع في مجلّة الفنون لصاحبها نسيب عريضة، وقد عرفا بعضهما بعضاًولم يكن قد رأى أحدُهما الآخرسابقاً، كما جاء في كتابه سبعون الجزء الثاني (2011).

هاجر جبران  ونعيمه وطنَهما الأم لبنان، أرضَ الأجداد، وذاقا لوعةَ الغربة وطعمَ الوحدة التي، ولوْ أقصتْهما عن ديارهما وهدأة انتمائهما إلى تلك المحجّة، فقد بلْوَرَتْ الأفضلَ فيهما.  فكان لهما حلمُ العودة ’التامّة والأخيرة‘ إلى تلك الربوع، يغرفان من جمالها وبراءتها غذاءً لا يفنى ولا يهترئ. 

يتغنّى جبران ببْشرّي، متوجّهاً بحديثه إلى ’ميشا‘: “أنتَ وأنا ]لن[نجدَ ملجأً أجملَ وأهنأَ وأقْدسَ من مار سركيس . . . وستزورُها أحلامي مراراً عديدة قبل أن تزورها عيناي وتطأ ترابها قدماي” (نعيمه م.، 2018، ص. 257).

جبران خليل جبران في الخامسة والثلاثين من عمره، من كتاب م. نعيمه (1974) عن سيرة جبران، باللغة الإنكليزيّة

 

تلك الغربةُ الأتونُ التي صهرتْ روحيهما الباحثتين عن ما هو وراءَ المَلموس واستعباداته الكثيرة، ذلك الملْموس الراكض بجلّه وراءَ الأوهام التي أبداً تتحوّل وتتغيّر كبهلوان يسخر من مشاهديه،  تلك الغربة هي التي تحثّ على البحث عن ذات هي أوسعُ  وأعمقُ وأحقّ. ومن تلك الأوهام وتلك الغربة اللهثُالمضنيُفي السعي وراءَ الدولار،كما وصفَه نعيمه (2011) في سيرته الذاتيّةسبعون– الجزء الثاني – بـ”الدردور الرهيب” (ص. 95).  فتترك هذه الأوهام ميخائيل في بحر من الوحدة، وسط الأصحاب، ويلتقيه جبران في تلك الوحدة الموحية بلذّة ألمها وألم لذّتها. فوصفنعيمه (2011)  في قصيدته’لو تُدرك الأشواك‘ من ديوانه همس الجفون تلك الوحدة في بحْر من الناس:

“يا ساقي الجلّاس بالله لا

تحفل بكاسي بيْنَ هذي الكؤوسْ

أترعْ لغيري الكاسَ، أمّا أنا

فاحسب كأنّي لسْت بين الجلوسْ

واعبُرْ، ودعْني فارغَ الكاس . . .

يا زهرةً ما بين شوْك نمَتْ

لولا شذاها ضلّ عنها البصرْ

هل تدرك الأشواكُ يا زهرتي

أنّ الشذا هذا شذاك انتشرْ

في الحقل لا عطرٌ لها فاحا؟

هل تُدرك الأشواكُ ما تدركين؟ . . . 1920– (ص. 25)

وقد أحبّ جبران قصيدة نعيمه هذه لما فيها من وجع الشاعر بين قوم لا يشعرون، أو من مبصر بين قوم لا يبصرون، وكان للقصيدة في بَوْحها من الألم ما علّم في نفْس جبران وكلًمَها، فقدّم جبران لوحتَه لميخائيل من وحْي القصيدة. 

لوحة من رسم جبران من وحي قصيدة نعيمه ’لو تدرك الأشواك‘ في ديوان نعيمه (2011) ’همس الجفون‘، ص. 26

 

فها هو جبران يُرسل إلى ميشا، في أواخر صيف 1921، رسالة، بعضُممَا جاء فيها:

” أخي ميشا،

. . . والفرق بين الناس ليس على قدْر ما يملكُه ذاك أو هذا من مال أو عقار أو جاه . . . أو سلطة وما إليها من صنوف التفاوت البشريّ.  بل الفرْقُ على قدْر ما يضيّق الواحدُ منهم “أنا” ويوسّعها الآخر.  من أدرك أنَ كلَّ “أنا” منبثقة من “أنا” الشاملة، فهي شاملةٌ مثْلُها . . . مَن حَصَرَ “أنا” ضمْن حظيرة من الأوهام فراح يثأرُ لها من كلَ متعدَ عليها جاهلاً أنه المتعدّي والمُتعدّى عليه، وأنّه يثأر من ذاته لذاته . . .”  (ص. 247 – 248).

لقد وصلَ ذلك الخيطُ الحريري الأبيض الصديقين جبران ونعيمه بالتعالي فوق المظاهر الخدّاعة ومادّياتها إلى الدنيا الأرحب والأصفى في معالمها التي لا تتحوّل ولا تزول.  فلنيويورك أوهامُها، ومن المعرفة أن تُدركَالنفْسُأنّ تلك الحركة وذلك “الدردور” النيويوركي المتحرك دوماً ليسا سوى أحد أوجه خداع المحسوس، تماماً ككهف أفلاطون وظنُّ الساكنين فيه بأنّ خيالاتهم  التي يرونها على الحائط أمامَهم هي الحقيقة، لكنّها أبْعدُ من أنْ تكون كذلك.  لكنّ المتنوّرَ، الذي خرج من الكهف ورأى حقيقة الوجود بعيدةً عن الخيالات، واهتدى إلى نورها، يحاول مرّات أن يقودَ رفاقَه إلى الشمس الحقيقيّة، لكن من دون جدوى. 

“ليست الغربةُ في حدّ ذاتها هي التي تخْلقُ فينا الشعورَبالاغتراب.  فإذا كان الإنسانُ، كما في المفهوم الأفلاطوني الجبرانيّ، من مصدر عُلْويّ إلهي، كُنّا جميعاً في عالم الزمان والمكان مهاجرينَ ورفاقَ طريق.  أمّا الذي يُحس الغربةَ الموحشةَ المريرة حقّاً، فنفْسٌ تعي أنّها من ديار عُلْويّة، ولكنّها إذ تتوجّه إلى رفاقها في الهجرة من بين البشر، تجد أنَ ليس لها في الدرب إلى الله سواها وأنهم جميعاً لاهون بسفاسف عالمهم الترابي” (نعيمه ن.، 2015، ص. 20).

لهذا، يبوح جبران، مع دموعه، لنعيمه:

“أعذرني يا ميشا.  أعذرني يا أخي.  اعذرني يا حبيبي.  ولا تَسَلْني أن أفسّر لك دموعي.  فالدموع لا تُفَسَّر بالكلام.  وأنت تفْهم دموعي لأنّ بك وحدة كوحدتي، ووحشة كوحشتي، وحرقة كحرقتي. . .” (نعيمه م.، 2018، ص. 223).

إذاً، هذه هي الوحدة التي جمعَتْ بين جبران ونعيمه، فتلازما الطريق، بعدما كانتْ لكلّ منهما غربتُه عن محيطه اللاهي عن اللبّ بفراغ دوران يحوّل ويغيّر.

“هذه القلوبُ وهذي العقولْ

الدارجةُ أبداً على المطاط والحديدْ 

إلى حيث لا يعلم إلّا الله،

وهذه الأقدامُ المتسارعةُ أبداً

تحْت لهيب الشهوات الجامحة

من فخّ إلى فخَ، ومن شرَك إلى شرَك –

كيف لنا يا نفْسُ نماشيها؟

. . .

لذاك إذا سمعْتِ الجماهيرَ المتماوجةَ

قارعةٌ طبولَها،

نافخةُ زمّورَها،

طالبةُ بإلحاح حقَّ المرور،

تنحّي ساكتةً عن طريقها،

ودعيها تعبر!  (1929)” (نعيمه، م.، 2011، ص. 135).

هنا يُظْهرُ نعيمه في قصيدته ’ليَعْبُروا‘ من ديوان همس الجفون،من خلال ألمه، التبايُن بيْنَ الجماهير التي هي السوادُ الأعظمُ من الناس الواهمين بالخَيالات اليوميّة على أنّها الحقيقة بينما الحقيقةُ بعيدةٌعن تلك الجلبة، في نفْس تتصل بذاتها النيّرة في سُكون وصمْت ونور، بعيدة عن عالم الترائي.  وكذلك جبران، فإنّه يعرف “حقيقةً” تُغايرُ حقيقة الجماهير، وهي حقيقةٌ توصّل إليها عبر اختباره الشخصيّ وألمه وتفاعله مع مجتمع جُلُّه موهوم، فتحوَّل من “حفّار قبور” بحاجة أن يطمر مَن حوله من إنسان ومدنيّته الكاذبة إلى متنوّر يريد الصفاءَ والإدراكَ والحقيقةَ بين قومه. 

لذلك، أصبحتْ أرض بشرّي ودير مار سركيس الملاذ والملجأ والرجاء وكأنّ فيها جزيرةَ الحلم الحقيقي، غير الحقيقة الملموسة الواهمة، “هناك سنعتزل العالم يا ميشا.  وسنحْلمُ ما طاب لنا أن نحلم.  وسنكتبُ ما شئْنا أن نكتب” (نعيمه م.، 2018، من كتابه عن جبران، ص. 256). 

فنعيمه هو صديق الحلم والحقيقة، حقيقةُ النور وحقيقةُ الوهم.  وكما لجبران ’بشرّي‘ كذلك لنعيمه ’شخروب‘، فـ’بشرّي‘ جبران و’شخروب‘ نعيمههما حقيقةٌ بهيّةٌ ساكنةٌ بعيدةٌ عن ضوضاء المدينة ’الدردوريّة‘. 

وجبران هو ’أرقشي‘–نسبةإلى الأرقش في كتاب مذكَرات الأرقش لنعيمه الذي نشر معظمَه في مجلّة ’الفنون‘ سنة 1917 وأكمله سنة 1948 في كتاب واحد–كما يصفه الدكتور نديم نعيمه (1978) في كتابه الوثائقي عن عمّه ميخائيل نعيمه بعنوان طريق الذات إلى الذات.

يشرح الدكتور نديم نعيمه (1978)، “لقد حقّق الأرقش في المعركة المثلّثة التي كان يخوضها في نفْس نعيمه ضدّ عبوديّة الجسد وعبوديّة المدنيّة الآليّة المعاصرة وعبوديّة الزمان والمكان أحد أبرز انتصاراته” (نعيمه ن.، 1978، ص. 39).

على أكثر من صفحة في كتابهمذكَرات الأرقش يكرّر نعيمه ويعترف: “ذبحْتُ حبّي بيدي لأنّه فوق ما يتحمّله جسدي ودون ما تشتاقه روحي” (نعيمه م.، 2011، ص. 130).  ويُكمل الأرقش: “. . . وارقصي يا قطرات دم زكيّ أرقْتُها بيدي . . . وارقصأيّها الحبّ بعدْلك للأرقش أو عليه.  للأرقش الذابح وللأرقش المذبوح.  للأرقش المترمّد وللأرقش الملتهب.  أيّها الحبُّ أقْض بعدلك” (ص. 131). 

لقد ذبح الأرقش، كما في مذبح الكنيسة، حبَّه الأرضيّ المكبّل بسلاسل شهوة تبدأ فلا بدّ لها أن تنتهي، وتستعرُ فلا بدّ لها أن تخبو.  لقد ذبح الأرقش حبّه الأرضيّ في سبيل الحبّ العمودي.  فقدّم نعيمه حبَّه الجسديّ المحدود الفاني قرباناً لذاته الأعلى وأنوارها.  فكأنّ رؤى جبران الشاعريّة هي أكثر ممّا يستطيع تحمُّلَه، كما هو أرقش نعيمه وحبُّه، كما جاء في كتاب الدكتور نديم نعيمه (1985)الأنبياء اللبنانيون الأميركيّونThe Lebanese Prophets of NewYorkعلى لسان عمّه ميخائيل: “إنّ أفْضلَ وأنبلَ ما أتى في حياة جبران هو عنادُه وصراعُه الدائمان مع نفْسه لتنقية روحه من جميع شوائبها وجعْلها بجمال ما رآه في ومَضَات نيّرة في خياله، في كتاباته وفي رسمه” (ص. 174).  فالصديقان نعيمه وجبران كما تصفهما ماري هاسكل “يذكّرانَنا وهما ينشدان الكلّي المطلق في نفسيْهما بمتسلّقي الحملايا المكدودين تصعيداً إلى القمم” (نعيمه ن.، 1978، ص. 39).

ويتابعُ الخيطُ الحريريُّ الأبيض حبْكتَهُ ويعمّقُ الصلة بين الصديقين جبران ونعيمه. “فجبران بالإضافة إلى كونه صديقاً وزميلاً لنعيمه في الرابطة كان أيضاً بالنسبة إليه كما لم يكن سواهُ من الأعضاء . . . رفيقَ سفر بالمعنى الأرقشيّ للكلمة” (ص. 39).

وفاتَ الكثيرُ من قرّاء نعيمه لكتابه عن جبران خليل جبران أنَّ نعيمه أظْهرَ جبران بتمزّقه الأرقشيّ بين جسد وأوهام ملذّاته وعوالمها الضيّقة وبين روح تهدف إلى الذات الكونيّة.  “لقد خرجَتْ سيرةُ جبران من تحت قلَم نعيمه ملحمةً روحيّةً كما خرج جبران  صاحب السيرة في تمزّقه الأرقشي بين الإله والحيوان في نفْسه شخصيّةً ملحميّةً . . . ” (ص. 40).

فقد اعتبر نعيمه جبران كذاته، في عُرْوَته الوثقى بين نفْسه وطيّاتها.  فالأرقش هو ذات نعيمه المصلوبةُ بين دنيا أفقيّة لا معنى لظواهرها الغشّاشة المتقلّبة دوماً وذاته العلْويّة التي تحمل حقيقة الوجود والنور والإله.  وها هو نعيمه (2011) في سيرته الذاتيّةسبعون الجزء الثاني يصف علاقته الذاتيّة مع الأرقش: “خلقْتُ الأرقش من خيالي فلمْ يلبث أن أصبح في حياتي أكثرَ من خَيال.  فلكم سامرتُه وسامرَني، وماشيْتُه وماشاني، وآكلْته وآكلَني . . .” (ص. 108).  وها هو جبران يكتب إلى ميشا يصفه، وكأنّه يصف نفسه: “أسعدَ الله صباحك أيّها التائهُ بين منازع الأرض ومرامي السماء” (ص. 204). 

إذاً، الهجرةُ والغربةُ الأكبرُ همااللتان تختلجان في قلْب العارف بيْن قوم لا يفقهون، والشوق والتوق إلى الجذور، جذور الأرض البعيدة الحبيبة في لبنان ليستْ سوى الرمز إلى الاشتياق إلى جذور الروح الكامنة في الإله: “إذا أحبَّ أحدُكم فلا يقولنّ: ’إنّ الله في قلبي.  وليقل بالأحرى: إنّني في قلب الله” (النبي، ترجمة ميخائيل نعيمه، 2011، ص. 23).  فالصديقان جبران ونعيمه هما رَفيقا درْب وباحثان بنَهَم عن المُطْلَق.  وكما كتب الدكتور نديم نعيمه عن لسان ميخائيل نعيمه: “إنّ عظمةَ الإنسان الوحيدة هي صعودُه الدؤوب منالإنسان الذي هو عليه إلى الإله، من الزائل إلى غير الزائل، من ازدواجيّة الحياة الظاهرة إلى اتحادها بأصولها الداخليّة” (1985، ص. 74). 

ومن غيْر الممْكن وصولُ الذات إلى مصْدرها، التي منْه أتتْ وإليه تحنُّوتعودُ إلّا بالتقمّص.  فكان للرفيقين إيمانٌ راسخٌ بأنّ الحقيقةَ الثابثةَ الهاجعةَ في كلّ نفْس لن تُزاح منها ستائرُ الجَهْل ومحاربةُ الحواس وخداعُها في حياة واحدة، فحياةٌ واحدةٌ لا تكفي، فتكون ضرورةُ التكرار، عبْرَ حيوات، لتنقية ما رسّبتْه الأوهامُ في الكائن البشري. 

أول ما تعرّف جبران على هذا المعتقد كان عبر المصوّر الفنّان فْريد هولاند داي Fred Holland Day (1897) ونعيمه عبر رفيق سكنه ولْيَمWilliam ، المعروف بـ “بلّ”  في جامعة واشنطن، خلال سنته الجامعيّة الثالثة (1912).

ثار جبران على مجتمع جلُّه جاهلٌ لما في ناسوته من نور يدحض الخَيالات ودعا حفّارَ القبور ليدْفنَ تلك الأشكال الإنسانيّة النتنة المهترئة الهائمة، فكان ثائراً، لكنّ لا بديل له.  “إنّ مُصْلحاً اجتماعيّاً لا يملكُ البديلَ المحدّد لما يثور عليه،” يوضح الدكتور نديم نعيمه (2015) في كتابه  جبران خليل جبران، المؤلّفات الإنكليزيّة الكاملة معرّبة،“سرعان ما تنقلب البطولة فيه إلى شذوذ فيتحوّل من بطل اجتماعيّ مصْلح إلى شاذّ عن المجتمع لأنّه عاجزٌ أن يتكيّف معه فيُكيّفُه.  من هنا كان أبطالُ جبران – وربّما بلا استثناء – “كفّاراً” و”مجانين” و”تائهين” وحتى “أنبياء” و”آلهة”.  وعلى سبيل المثال، يُنْهي جبران روايةَ ’حفّار القبور‘:”ومن تلك الساعة إلى الآن وأنا أحفر القبور وأَلْحَدُ الأمواتَ‘ غير أنّ الأمواتَ كثيرونَ وأنا وحدي وليس مَن يُسعفُني” (ص. 21). 

فالسبيل الوحيد للتخلّص من ذلك الموت وتلك النتاتة إلى حياة مُشرقة نورانيّة هو التقمّصُ الذي يُنقّي الأرواحَ دورةً بعد دورة من الحياة الأرضيّة في سبيل حياة أثيريّة صافية لا تشوبها شائبة.  لقد كان للتقمّص خيطٌحريريٌّ آخر يربط بين نعيمه وجبران.  “فطالما بقي ولو قدر ذرّة من الشرّ أو الخسّة أو الحيوانيّة في أيّ نفس بشريّة، تعذّر على أيّ نفْس بشريّة أُخرى مهما بلغ سموّها الروحيُّ ومحاذاتُها لله، أن تنعتق وتخْلُصَ وتفْلُتَ نهائياً من دورات التقمّص في دولاب الحياة الذي لا يعرف التوقّف أبداً في دورانه” (ص. 34).

لقد حاكَ ذلك الخيطُ الحريريُّ الأبيض بين جبران ونعيمه إيمانَهما بأنّ الموتَ ليس إلّا عتبةَ حياة.  فلا اضمحلالَ إنّما كينونة دائمة.  يوضح نعيمه (2011) في كتابه مذكّرات الأرقشأنَّ الموتَ يُكْملُ الناقصين وأنّ الموتَ والحياةَ حبْل مبروم: الموت يؤدّي إلى الحياة والحياة إلى الموت وهما الغذاءُ الدائمُ لبعضهما البعض ولحياة دائمة (ص. 52 – 58). 

وكما يقول جبران في نبيّه، كما ترجمه نعيمه: “لقد بلغ الجدولُ البحرَ.  وها هي أمُّه الكبرى تضمُّه ثانية إلى صدرها” (2011، ص. 106).  الجدول هو النبيّ، الذي عبْرَ رحيله، ينضمُّ إلى عالم النور الأوسع فيحيا.  إذاً الموْتُ ليس إلّا عبّارةً إلى حياة دائريّة النوع، دائمة، لا أوّلَ لها ولا آخرَ.  “كم تحدّثنا عن الموْت فرأيناه ولادةً أُخرى . . . وكم دعوْناه والحياة توأمان . . . فقد كان انعتاقاً قصيراً من الحسّ بالوجود إلى الوجود الذي لا حسَّ فيه.  أو تمهيداً إلى الانعتاق الأبديّ من الوجود الأسمى باللاوجود” (نعيمه م.، 2018، ص. 21). 

ويوضح الدكتور نديم نعيمه (2015) في مجلّده الذي يضمّ ترجماته لأعمال جبران الإنكليزيّة إلى العربيّة أنَّ نبيَّ أورفليس ليس غيرَ جبران نفْسه “الذي كان حتى سنة 1923 قد مضى عليه في نيويورك – مدينة أورفليس – بعدما ارتحل إليها من بوسطن عام 1912، حوالى الاثنتي عشرة سنة” (ص. 290) كما أنّ لبنان هو الجزيرة التي إليها يعود المصطفى – الذي هو جبران –بأشواقه (ص. 290).  فكأنّ لبنان هو رمزُ الماورئيّات وعالم المطلق، مقصدُ البحّاثة عن ذاتهم.  “وبدا لنا المصطفى بالمنظار الجبرانيّ، رمزاً لذلك الإنسان الذي بلغ به وعيه حدّ تحقيق ذاته العُلْويّة ، حدّ التهيّؤ للعبور” (ص. 290).  فكانت الفينة هي العبّارة – أيّ الموت – من حياة ذات أبعاد ثلاثة إلى حياة فوق كلّ الأبعاد “لتقلَّه إلى موطنه الأمّ، إلى العالم الأفلاطونيّ المُطلق الذي منه كان نزوحُنا الأوّل وعنه كانت غربتُنا الوجوديّة العظمى” (ص. 29) من الله في الإنسان إلى الإنسان في الله. 

وقبْل صدور كتاب النبيّ، أعطى جبران نسْخةً منه لميشا ونسْخةَ أُخرى لماري هاسكل (نعيمه م.، 2018، ص. 256) وقرأ فصولَه لنعيمه ما عدا الفاتحة والخاتمة وجعلَ ظروفَ حياته مرتبطةً بظروف المصطفى (ص. 270). صدر الكتاب في خريف 1923. 

 

“أمّا المصطفى فأوّلُ ما يستوقفك في وجهه عينان واسعتان ذاهلتان تبدوان كأنّهما لا تنظران إلى شيء لكنّهما تُبْصران ما هو أدقُّ من الأشياء وأقصى من مجال الأبصار . . . ثمّ تنظرُ إلى فمه بشفتيه المتلاصقتين . . . ما فيهما من حزْن عميق وصمْت يترفّع عن الشهوات وكلّ ما فيها من ضوضاء النزاع والحيرة . . . وعلى الوجه كلّه، بما في تقاطيعه من صلابة وقوّة، تطفو سحابةٌ شفّافةٌ من الكآبة القصوى التي تكاد تلامس الفرح” (ص. 267 – 268).

فما قراءة نعيمه لوجه المصطفى إلّا دلالةٌ أُخرى على عمق العلاقة التي تربط الاثنين بعضهما ببعض، متَوّجةً بنور المعرفة وشوق البعيد-القريب. 

“لكنَّ جبران ربط ظروفَ حياة المصطفى بظروف حياته وصوّرَه كمن بلغ في الواقع الحالة الروحيّة التي تحدّث عنها.  فكأنّه صوّر نفْسَه بالغاً تلك الحالة لا بخياله فقط بل في كلّ أحوال معيشته وأدوارها.  ولأنّه خلع عليه وشاح النبوءة فكأنّه خلَعه على ذاته أيضاً (ص. 270). إذاً فـ ’نبيّ‘ جبران، بالنسبة لنعيمه، ليس سوى جبران نفْسه، ولو انّ نعيمه يستكثر لقب ’نبيّ‘. فها هو، في تعليق له بخطّه، حول كتاب ابن أخيه الدكتور نديم نعيمه (1985) The Lebanese Prophets of New York الأنبياء اللبنانيّون الأميركيوّن يعْترض ويستكْثر أن يلقّبه ابن أخيه – الذي يلقّب الريحاني وجبران أيضاً – بالنبيّ. 

رسالة من ميخائيل نعيمه إلى ابن أخيه الدكتور نديم نعيمه بُعَيْد صدور كتاب الأخير “الأنبياء اللبنانيّون الأميركيّون” – حقّ حصري لسهى حدّاد نعيمه – المنزل المتحف لميخائيل نعيمه ميماسونا المْطيْلب– الرسالة من منزل ميخائيل نعيمه بالزلقا الذي أصبح المنزل-المتحف في المْطَيْلب

 

ما جاء في الرسالة: 

نديم يا حبيب عمّك

قرأت بلذَة كتابَك الإنكليزيالذي جعلْتَ عنوانَه The Lebanese Prophets of New York

وأنت تعني بهم الريحاني وجبران عمّك فأُعجبْتُ بإنْصافك في كلّ ما كتبْتَ وإن استكبرْتُ عليك أن تدعوَ هؤلاء الثلاثة “أنبياء” فالنبوءة موهبة لا تُعطى إلّا للنادر من الناس. 

أجل.  لقد كان ظهورُ  الريحاني وجبران وعمّك الحدّ الفاصل بين عَهدين في تاريخ الأدب العربي الحديث: عهد التقليد وعهد التجديد.  فنحن اليوم لا نتخلّف أشواطاً عن العالم المتحضّر كما كنّا حتى أمسنا القريب.

أخذ الله بيدك يا ابني، وإلى الأمام.

عمّك ميخائيل

27 حزيران 1985

 

وبيْنَ غرغرة الموت “الغرغر” التي وصَفَها نعيمه في كتابه عن جبران وال”وَعْ وَعْ” بكاء الولادة خيطٌ حريريٌّ أبيض مبرومٌ يعيش أبداً من الموت الذي يؤدّي إلى الولادة والولادة التي تؤدّي إلى الموت:  “ويخيّلُ إليّ أنّها نغمةُ الحياة المُثلى ولغتُها الوحيدة.  وأنّ كلَّ ما تدور به النجومُ، وتتلظّى به الشموسُ، وتتغنّى به الأرضُ، ويتلفّظ به الناس معناه “غر-غر” وأنّ “الوعْ-وعْ” التي يقذفُها صدرُ الطفل عندما يُطلُّ على عالمنا هذا هي عينُ “الغر-غر” التي تنسلُّ من صدْر المُحتضر عندما يُشرف على عالم غير هذا العالم” (نعيمه م.، 2018، ص. 22).

هذا هو شقيق الروح والفكريغيب ليولد ولادة ثانية: “هذا هو رفيقُ أحلامك.  وصديقُ أفكارك.  وشقيقُ روحك.  هذا جبران.  هو الآن يحتضر” (ص. 18).

وفي ذكرى مرور أربعين يوماَ على غياب جبران التي أقامتْها الجالية السوريّة في بروكلين برعاية الرابطة القلميّة، كتب ميخائيل نعيمه (2018):

“لقد اجتمعنا ههنا لا لنمجّد إنساناً مات، بل لنتمجّدَ بإنسان حيّ . . . إنّ روحَ جبران خليل جبران من الأرواح التي صفَتْ للحقّ فاصطفاها . . . من ليسَ يعرف آلام جبران ليس يعرف أفراحَه.  ومن ليس يعرفُ أفراحَه لن يدرك تلك القدرةَ التي مكّنتْه منْ أن يُرسلَ آلامَهُ وأفراحَهُ موسيقى تترقْرق في مقاطع من الكَلم، وألواناً تذوب وتتمجّد أفكاراً وأشواقاً حيّةً، وخطوطاً كأنّها سلالم تنحدر بك إلى أقصى دركات الألم البشريّ وتصعد بك إلى عرش الإله الساكن في قلب كلّ إنسان.  وفي ذلك يُدْنينا جبران من أنفسنا لأنّه يدنو من نفْسه ويجلوَ صفائحَ أرواحنا بجلاء صفيحة روحه ويمجّدُنا بالحقّ الذي يتمجّد به . . . اللهم اجعلْنا مستحقّين لهذه العطيّة كيما نستحقّ سواها” (ص. 389-391).

فجبران، بالنسبة إلى نعيمه، هو قائد من قادة الإنسانيّة إلى الانعتاق من كبوة الأوهام والآلام، إلى صحوة النور وصفاء الإنسان. 

اعتبر نعيمه كتاب النبيّ لجبران ذروة ما قدّمه جبران،وذكر قناعته هذه في أكثرَ من مناسبة وأخُصُّ بالذكر مقالَه بعنوان ’جبران في ذروته‘ (1955) في المجلّد السابع من مجموعة نعيمه (1975) الكاملة المؤلّفة من تسعة أجزاء.  “لا أتردّد لحظة في القول بأنّ ’النبي‘ كان الذروة الأعلى في ذلك النتاج . . .” (ص. 277). 

ويتابع: “تلك هي الذروةُ التي أدركها جبران في أدبه.  وهي، كما ترى، ذروةٌ سامقةٌ لا في أدب جبران فقط، بل في كلّ بقعة تقيم للأدب وزناً.  ومن حقّنا أن نتطلّع إليها بالكثير من التقدير والإعجاب.  فهي من ذُرانا . . . (ص. 282). 

لقد قال جبران كلمتَه التي هي من الله، كما يوضح يوحنّا في بداية إنجيله “في البدء كان الكلمة والكلمة كان الله”.

وها هو نعيمه (2017) في كتاب مهبّ الريح،الذي صدر أوّلاً عام 1953، يشارك قرّاءه حلماً راودَه، زارَه فيه جبران ودار بينهما حديث، هنا بعض مقتطفاته، وكانت تلك المرّة الأولى بعد رحيل جبران (1931) يزور جبران نعيمه في الحلم. 

“- أما تشتاق العودة إلينا يا جبران؟ . . .

-ولكنّكم معي دائماً أبداً ميشا – فالصداقات – والعداوات كذلك – تمسّكُ الجذورَ بالتراب . . . والحاجز الذي بيني وبينَكم شفّاف إلى حدّ أنّ العين لا تبصره . . . أنا معكم وانتم معي . . . نحن بذارٌ واحدُ في تربة واحدة، فكيف نتفرّق؟” (ص. 153 – 154).

وبعد رحيل جبران، اجتهد نعيمه في مطلع 1960 أن ينظّم أعمالَ صديقه في مجلّديْن: واحدٌ يحوي كتابات جبران العربيّة وآخرٌيضمّ الأعمال الأنكليزيّة المعرّبة.

الشّفَق – الغَسَق – الفجر

 هذه الأقسام الرئيسيَة التي جعلها نعيمه لكتابه عن سيرة جبران، من الاحتضار (الشفق)، إلى التبلْوُر (الغَسَق)، إلى الانعتاق إلى النور الواحد الأحد (الفجر) الذي منه كل نور، كما يقول نعيمه (2011) في مذكّراته الأرقشيّة “. . . “تباركَ النورُ الذي منه كلّ نور، والذي لا تغشاه ظلمة قطّ.  وإنّ في داخلي لجذوة من ينبوعك الذي لا يخبو]أيّها النور[.  وما أشدُّ شوقها إليك وإلى الفناء فيك” (ص. 42).

1923 – 2023

مئة عام لكتاب  النبي لجبرانكما هي مئة عاملكتاب الغربال لنعيمهالذي ضمّنهمقالاً عن ’عواصف‘ جبران بعنوان ’عواصف العواصف‘فيه وصفلعظمة جبران الثائر، الثائر على كلّ ما هو ميتٌ في مجتمع بعيد عن ’النور الكامن فيه‘.  وبعضُ ما أتى به نعيمه (2011) في ذلك المقال من كتاب الغربال:

“أمّا الذين سيخلّدون هذا الجيل من وجودنا في سفر الأجيال فهُم فئةٌ قليلةٌ قد لمَسَت الحياةُ شفاهَهم بجمرة جديدة فاتقدَتْ قلوبُهم بنار ما عرَفَتْها قلوب من حولهم من المنتمين إلى مملكة القلم . . . ومن هؤلاء، بل في طليعة هؤلاء، شاعر الليل. شاعر العزلة.  شاعر الوحدة.  شاعر اليقظة الروحيّة.  شاعر البحر.  بل شاعر العواصف – جبران خليل جبران (ص. 221 – 222). 

في النهاية، ذلك الخيطُ الحريريُّ الأبيض قد خاط ما خاطه وحاك ما حاكه في حياة جبران ونعيمه وعلاقتهما الروحيّة الفكريّة الأخويّة المميّزة وكأن كلمة الواحد منهما امتدادٌ لفكر الآخر كما يوضح الدكتور نديم نعيمه (1985) في كتابه The Lebanese Prophets of New York  الأنبياء اللبنانيون الأميركيّون بأن جبران هو صانع النبوءة The prophecy maker ونعيمه هو النبيّ في النبوءةThe prophet in prophecy (ص.  35 و ص. 57). فالإثنان من حبْكة وجود واحدة ومن امتداد نورانيّ يسعى أبداً إلى النور.

وما زال ذلك الخيطُ الحريريُّ الأبيض يغزلُ من نفْسه في الناس، ويجعل الناسَ قُطَباً تحوك سجّادةَ وجود واحدة، تمتدُّ من الظاهر إلى أبعد ما في الظاهر، ومن المادّة المأسورة إلى الأثير المنْفرج.

جبران في مكتبه قبل وفاته، من كتاب ميخائيل نعيمه (2018) في سيرة جبران، ص. 380.

 

أطبق نعيمه جفني جبران عندما لفظ نفسَه الأخيروكلُّه  إيمان بأن حياةَ جبران لم تنتهِفي اللّحد كما هي لمْ تبْدأ في المهد، فهي دائمة كما الحياة.

وكما يختمُ جبران كتابَه النبي، بترجمة نعيمه (2011) إلى العربيّة:

“فارتفعَ هُتافٌ من الشعب وكأنّه من قلب واحد. 

وتلقّف الشفقُ الهتافَ وأرسلَه فوق البحر كصوت أبواق ولمْ يبقَ صامتاً غيرَ المطْرة التي لبثَتْ تحدّقُ إلى السفينة  حتى توارَتْ في الضباب. 

وبعْدَ أن تفرّقَ الجمْعُ بقيَتْ وحدَها على الشاطئ وهي تردّدُ قولَه:

’هنَيْهةٌ بعد – لمْحةُ استراحة على الريح – وتلدُني امرأةٌ أُخرى‘” (ص. 107 – 108).

***

المراجع

الدكتور نديم نجيب نعيمه:

نعيمه، ن. (2015).  جبران خليل جبران، المؤلّفات الأنكليزيّة الكاملة معرّبة.  بيروت: هاشيت-أنطوان. 

نعيمه، ن. (1978).  طريق الذات إلى الذات.  بيروت: المطبعة الكاثوليكيّة.

Naimy, N. (1985).  The Lebanese Prophets of New York.  Beirut: AUB, The

Catholic Press. 

ميخائيل نعيمه:

نعيمه، م. (2018).  جبران خليل جبران – سيرة.  بيروت: هاشيت-أنطوان.

نعيمه، م. (2011).  سبعون، سيرة ذانيّة، الجزء الأوّل.  بيروت: هاشيت-أنطوان.

نعيمه، م. (2011).  سبعون، سيرة ذانيّة، الجزء الثاني.  بيروت: هاشيت-أنطوان.

نعيمه، م. (2011).  الغربال.  بيروت: هاشيت-أنطوان.

نعيمه، م. (2017).  في مهبّ الريح.  بيروت: هاشيت-أنطوان.

نعيمه، م. (2011).  مذكّرات الأرقش.  بيروت: هاشيت-أنطوان.

نعيمه، م. (2011).  النبيّ.  بيروت: هاشيت-أنطوان.

نعيمه، م. (2011).  همس الجفون.  بيروت: هاشيت-أنطوان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *