الشِّعريُّ في الأغنية

Views: 14

د. وجيه فانوس 

(رئيس المركز  الثقافي الإسلامي)

يفيد معجم “لسان العرب” أنَّ الغناء هو كلّ رفعٍ للصَّوت الإنسانيِّ مع مُوالاةٍ (تَتَاُبٍعٍ) له من قبل مطلق الصَّوت[1]؛ وبهذا يكون هذا التَّشكُّل لـ”الصوَّت”، بعينه،هو الغناء؛كما يورد معجم “لسان العرب”، أيضاً، أنَّ الغناء من الصَّوت هو ماطُرِّبَ به. “الغناء”، إذاً، هو “الترنُّم”، وهو ما قد يُعرفُ، بشكل عام، بـ”الصَّوْتِ الْمُلَحَّن”أو”غِنَاءُ الصَّوْتِ”؛ ويدخل فيهِما يعرَّف، عند العرب، بـ”الحداء” و”الإنشاد”. وفي كلِّ هذا ما يُبقي “الغناء”، عامَّة والغناء العربيُّ بشكل خاص، ضمن أساسيَّة رفع الصَّوت وتتابعه أو ترجيعه. أمَّا “الأغنية”، والعربيَّة منها، فَتَشَكُّلٌّ لِنَصٍّ قصيرٍ نسبيّاً؛ ينهضُ على أجزاء موسيقيَّة تتزامن، في ما بينها، مع صوت المُغَنِّي عبر الإيقاعِ وبمرافقةأنغامٍ موسيقيَّةٍ أو بغيابها.

        تكون نصوص الأغاني العربيَّة، عادةً، إمَّا بالعربيَّة الفُصحى أو المَحْكِيَّة؛ وغالباً ما تكون هذه النُّصوص من الشِّعر الموزون، إمَّا بقصائد قائمة بذاتها أو من أبيات مُسْتَلَّةٍ من قصائد؛ كما أنَّ ثمَّة نصوص أغانٍ تكون من كتابات نثريَّة؛ والفيصلُ الأهمُّ في كلِّ هذا، أن يكون النَّصُّ قابلاً للتَّرنُّم به.

        تبرزُ “الأغنية”، بشكل عام، وسيلةَ ترفيهٍ، كما يبدو ذلك جَلِيَّاً في الإقبال على معظم الأغاني؛ وتكون وسيلةَ تأثيرٍ وإقناعٍ، كما في بعض الأغاني الوطنيَّة وسواها[2]. وانطلاقاً من هذين التَّوجُّهين التَّاسيسيَّين، يمكن لـ”الأغنية” أن  تكون، كذلك، تعبيراً عن انفعالات ومشاعر إنسانيَّة؛ فتصبح، بطريقة أو أخرى، وسيلة لتوجيه الإحساس والذَّوق نحو سموٍّ أو انحطاط ما،  كما يمكن أن تشكِّل مفتاحاً فاعلاً للرُّقيِّ باللُّغة أو الانحدار بها، فضلاً عن إمكانيَّة فاعليَّة “الأغنية” في الحضِّ على تكوين اتِّجاهات وقِيَم ومُثُلٍ معيَّنة. 

        إذا ما كان “التَّرنُّم”، وما قد يلحق به أو يتولَّد عنه من تتابعات إيقاعيَّة أو تنغيميَّة، وجلُّها عناصر تَشَكُّلِيَّةٍ موضوعيَّةٍ، هي الغاية الأبرز من “الأغنية”؛ فهل يمكن لـ”الأغنية”، والعربيَّة منها تحديداً، أن تتحمَّل وجودَ “الشِّعرِيّ” فيها؟ وهل ثمَّة إمكانيَّة لفاعليَّةٍ ما، لِما هو “شِعْرِيٌّ”، يقودُ إلى معرفةٍ ذاتيَّةٍ، يمتاز بها كلُّ واحدٍ من المتلقِّين من سواه من الأشخاص، في “الأغنية”؟  وإذا ما كان هذا الحال ممكناً، فهل يعني أنَّه خروجٌ بـ””الأغنية”” من مفهومها التَّقليديِّ التَّرنُّمِيِّ، إلى أن تكون فاعليَّةَ إبداعٍ، خارجٍ عن نطاقِ الإنفعالِ، يشترك فيه شاعر “الأغنية” ومتلقِّيها معاً؟

إنَّ غياب “الشِّعريّ” عن الكلامِ، حتَّى ولو عُرِفَ هذا الكلام، بشكلٍ إعلاميٍّ عامٍّ، على أنَّه شِعرٌ، فإنَّ هذا الغياب، ووفاقاً لما جرى تبيانه آنفاً، يرفعُ عن “القصيدة” جوهريَّة الشِّعر، ليحوِّل الكلام المعنيَّ إلى مجرَّدُ نَظْمٍ لا يتعدَّى مجالَ التَّركيب الشَّكليِّ، الذي لا يوفِّر سوى ما يمكن اعتباره من باب المعرفة الموضوعيَّة العامَّة والمشتركة بين النَّاس. أمَّا في حالِ “الأغنيَّة”، فإنَّها لا تخسر حقيقة وجودها إذا ما غابَ عنها هذا “الشِّعريُّ”. (Alprazolam)

        واقع الحال، إنَّ جوهرَ الأغنيَّةِ وأساسَ وجودها يقعانِ في مدى قدرة نَصِّها على توفير ما يُمكن أن يقدِّمه الغناء بها من “تَرَنُّمٍ” عبر إمكانيَّات “التَّرجيع” و”التَّنغيمِ” بل وحتَّى “التَّطريب”. ومن هنا، فإنَّه يمكن اعتبار دخول “شعريَّةِ النَّصِّ”، في فاعليَّة “الأغنيَّة”، دخولاً من بابِ الامتيازِ الإضافيِّ إلى طبيعةِ وجودِها؛ فضلاً عن أنَّ هذا الدُّخول قد يُشكِّلُ تحدياً لطبيعة فاعليَّتها الأساس، متمثِّلة بتوفير “التَّنغيم الصَّوتيِّ” للنَّصِّ. واقع الحالُ، إنَّ دخول “شعريَّةِ النَّصِّ” على “الأغنية”، قد يضع هذا النَّصَّ أمام بعض الاحتمالات التي قد يكون من أبرزها أن يطغى “التَّنغيم الصَّوتيّ”، وهو الأساس ههنا، على فاعليَّة “شعريَّةِ النَّصِّ”؛ وقد يعني، هذا الطُّغيان، تَسَبُّباً لتغييب حقيقة وجود هذه “الشِّعريَّة”؛ فلا يمكن الوصول إلى “شعريَّة النَّصِّ”، والحال كذلك، إلاَّ بتلقيها “نَصَّاُ” وليس “أغنية”.

        ثمَّة أمر آخر لا بدَّ من الإشارة إليه، في هذا المقام، إذ يشكِّل أساساً آخر من مجالات تكوُّن “الأغنية”؛ ويكمن في ما يمكن توفيره من “شعريَّة”تلحين، أو ما يمكن تسميته بـ”مَوْسَقَةِ”” نصِّ الأغنية[3]. وقد تكون هذه “الشِّعرية” أشدَّ طغياناً من سواها، في مجال وجود “الأغنية”. من جهة أولى، قد تتمكَّن “شِعريَّة التَّنغيم”، من دمغ “الأغنية” بطابعها؛ وذلك بغضِّ النَّظر عن إمكانيَّة وجودٍ لـ”شعريَّة” ما لنَصِّ “الأغنية” بحدِّ ذاته.

ومن جهة أخرى، فإنَّه يمكن لـ”شعريَّة التَّنغيم”، إذا ما تجاوبت مع “شعريَّة النَّص”، أن تؤمِّنَ غِنىً كبيراً لـ”الأغنية”. وكيفما دار الأمر، فهذا الموضوع، تحديداً، يحتاج إلى درس خاصٍّ، يهتم لإمكانيَّات وكيفيَّات رصد تفاعلات “شعريَّة التَّنغيم” و”شعريَّة النَّصِّ” فيما بينهما ضمن “الأغنية”! 

****

[1]ابن منظور (محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين): لسان العرب، منشورات دار المعارف، طبعة 1981، مجلد 5، جزء 46، ص. 3309.

[2]– ينظر:

  • Mark Jeffreys (ed.):New Definitions of Lyric: Theory, Technology, and Culture, Taylor & Francis, 1998:
    • Marks Jefferys:Lyric Poetry and the Resistance to History, pp. 7-8.
    • Kevin MacGurick,:All Wi Doin”: Tory Harrison, Linton Kwesi Johnson, and the Cultural Work of Lyric in Postwar Britain, pp. 49-71.

[3]– للتوسٌّع في هذا الموضوع:

  • Igor Stravinsky:Poetics of Music in the Form of Six Lessons, Harvard University Press, 1970, pp. 21-45.

ولا بأس، في هذا  المجال،  من قراءة متأنية في:                                                                                                       

  • Christopher Wintle:Towards a Poetics of Music and the Arts: Selected Thoughts and Aphorisms, Plumbago Books and Arts, 2005.
Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *