الفنون والصراع الاجتماعيّ

Views: 279

حنّا عبّود*

أوّل ظهور تفريقيّ واضح لمصطلح الفنون وتصنيفها كان في بلاد الإغريق، الذين يُعتبرون خير ممثِّل للديانة الوثنيّة القديمة، التي كانت لا تفصل الأدنى عن الأعلى، ولا الداخل عن الخارج، فلا فاصل بين الأرض والسماء، فما ظواهر الريح والعاصفة والطوفان والزلازل والأعاصير والبراكين بعيدة عن إرادة السماء؛ كما أنّ الحبّ والحَسد والبكاء والضحك والفأل والشؤم والتيسير والتعسير… ليست خاضعة لإرادة الفرد وحده، بل كلّ ما يحدث في الأرض من عمل ماديّ أو معنويّ… ليس سوى قوى لا يقوى عليها أحد.

وشخّصوا هذه الظواهر ماديّاً، فنَحَتوا ورَسَموا وخطبوا وكتبوا… بل عزوا الفكر نفسه، العمليّ منه والتأمّلي، إلى الكائنات العليا التي باتت مشخّصة أمام أعينهم عن طريق مُحترفين جسّدوا ما يسمّى “الشعور الجمعي” إلى درجة أنّهم جعلوا للحزن والدموع ربّاً هو بنتوس Penthus، مهمّته الإشراف على الدموع، فهو يُبكي الحزانى حتّى لا يقتلهم الحزن، ويُدرِّب الندّابات على هذا الفنّ.

وتطوُّر الفنون يكون بتفرُّعها؛ فالمسؤول عن الريح صار له أبناء يُشرف كلّ واحد على نَوعٍ من الريح. وكثُرت مُلهمات الفنون، فصرْنَ تسعاً، ثمّ أُضيف إليهنّ أبّولو، رئيساً، وهو، على زعمهم، مَن علّمهنّ كلّ أنواع الفنون، من موسيقى ورقص وغناء وتمثيل… إلى جانب التاريخ والجغرافيا والفلك والكوميديا والتراجيديا… إلخ. ووَضَعَ الإغريقُ فضائل لا بدّ أن يتحلّى بها المرء، وخصوصاً الفنّان، صَوناً للتماسُك الاجتماعي، كالحكمة والعدالة والشجاعة والعفّة. فمن دون هذه الفضائل تكون القيَم المُطلَقة، الحقّ والخير والجمال، متسيّبة، ولا تفعل فعلها المنشود، وتضلّ عن الهدف الذي وُضعت له. فالفنّ (الذي يعني لديهم الصناعة المبتكرة، وهذا ما أخذه عنهم العرب، أو ربّما أخذوه هُم عن العرب)، بعيداً عن تلك الفضائل، لا قيمة له، بل هو على النقيض، ينقلب من سبب للتقدّم إلى سبب للانكفاء والتدمير. وكلّ نظرة إلى الفنّ، بعيداً عمّا أحاطه به الإغريق من شروطٍ لازمة وضروريّة جدّاً، يعني أنّ التسيُّب لا يقتصر على الفنّ، بل يشمل كلّ ما في المجتمع، فالفنّ بلا فضائل عمليّة، وبلا قيَم معنويّة، لا يقلّ ضرراً عن أيّ شيء مفسدٍ في المُجتمع، وهذا ما سيؤكّد عليه تولستوي، في العصر الحديث، كأنّما يُعيد علينا ما جاء في كتاب الفيلسوف الحمصي لونجينوس “الجليل في الأدب” Sublime من أنّ المستوى الرفيع في الأدب والفنّ، هو ذاته المستوى الرفيع في المُجتمع، فالجليل في الأدب هو ذاته الجليل في الحياة.

في العصور الوسطى هَيْمنتِ العواطف الدينيّة، شرقاً وغرباً، هَيْمَنَةً شبه كاملة على المُجتمعات. تصوّروا، مثلاً، أنّ حرب الأيقونات، بين المُعارِضين والموالين، استمرّت زهاء ثلاثة أرباع القرن، فقد رَفَضَ الشرقيّون صنع الأيقونات، بينما إيطاليا، عاصمة الفنّ في عصر النهضة، ومعها العديد من الأقطار الأوروبيّة، أصرّت على صناعة الأيقونات. وبعد جهدٍ جهيد اتَّفق الطرفان على إنهاء الحرب، برسم الوجوه في الأيقونة مشوّهة، حتى لا تُعبد، وحتّى لا تُثير شيئاً من غرائز الإنسان سوى غريزة التقوى، والتوجُّه إلى الملكوت السماوي. وبعد بضعة قرون ثار البروتستانت رافضين الأيقونات واللّوحات الإيطاليّة (كان فنّ اللّوحات قد ظَهَرَ في إيطاليا، وأخذ يُنافِس الجداريّات والسقفيّات القديمة).

وتصوّروا، كمثالٍ آخر، أنّ المسرح بات محرَّماً، مثل الحمّامات العامّة، وأنّ الزوجة مُرتادةٌ المسرح، تُطلَّق مثل مرتادة حمّام السوق. وللتعويض عن المسرح الممنوع، تأسَّست في معظم المُدن “جمعيّات الآلام”. كلّ مسرحيّة تُعيد إلى الذاكرة الآلام التي كابدها المتديّنون في العصور السابقة. وكانت المسرحيّات المقدَّمة خالية من أيّ فنّ، فيتّجه الممثّلون، والأرجح أن يكون معظمهم من أعضاء الجمعيّات، إلى الجمهور داعين إلى التوبة والبُعد عن الخطايا السبع، وتنتهي المسرحيّة باللّطم على الوجه، ودقّ الصدر بقبضتَيْ اليد، أو بما يسمّى “بكاء الندم” أو بكاء التوبة.

لم تكُن العصور الوسطى كلّها في هذا الاتّجاه، بل كانت ثمّة بدايات مُعارِضة، وبخاصّة للإكليروس، كما في “الكوميديا الإلهيّة” و”الديكاميرون” و”حكايات كانتربري“. وفي القرن الخامس عشر ظهرت الرسومات والأيقونات الكنسيّة المُبهِجة والمُفرِحة، حتّى أنّ رجال الإكليروس احتجّوا بأنّ العذراء في هذه اللّوحات أشبه بربّة الجمال الرومانيّة “فينوس” التي تُثير الشهوة لا التقوى.

بقي الاتّجاه المُعادي للفنون سائداً حتّى أواخر القرون الوسطى، ولا يزال أنصار هذا التيّار، حتّى في هذه الأيّام يتّخذون الموقف ذاته من الفنون، وبخاصّة البروتستانت، الذين يرون في هذه الفنون انحرافاً عن الأخلاق الدينيّة النقيّة، فخَلَت كنائسهم من كلّ فنّ جاءت به النهضة. ويبني “ماكس فيبر” نظريّته الشهيرة بأنّ هؤلاء الأتقياء دينيّاً، هُم الذين صنعوا الرأسماليّة، فكان واحدهم جاهلاً بالفنّ، فلا يدخل إلى مسرح، ولا يغشى مواطن اللّهو، كالخمّارات والملاهي… بل حَرموا أولادهم من الذهاب إلى السيرك، ما أدّى، بحسب نظريّة “فيبر”، إلى تراكُم الأموال في خزائن أولئك الذين لا يعرفون إلّا العمل والمنزل. وأكّد أنّ ما تراكَم لديهم من مال، كان البدايات الأولى للرأسماليّة، وبذلك قلّل من دَور فتْح أميركا واستعمار أفريقيا وآسيا وتراكُم رأس المال نتيجة تدفُّق الكميّات الكبيرة من الذهب والمعادن والسلع المتعدّدة.

مَسارٌ جديد

في القرن الثامن عشر رأى جماعة الموسوعيّين من أمثال “ديدرو” و”فولتير” أنّ الفنون تخدمهم خدمةً كبرى في دحض الفكر الإكليركيّ المتشدّد، فأعادوا النَّظر فيها وجَعلوها ستّة فنون وليس تسعة: فنون مكانيّة: العمارة والنحت والرسم، وفنون زمانيّة: الغناء (بالمعنى القديم، حيث يشمل الملحمة والمسرح والشعر، وكانت الجوقة تقوم بدور الغناء) والرقص والموسيقى، وفيما بعد أُضيفت السينما، وأُطلق عليها “الفنّ السابع” الذي جُوبه باعتراضاتٍ شديدة وتظاهراتٍ دمويّة قامت بها الفِرق الدينيّة المتشدّدة. إنّ نزعة الموسوعيّين الماديّة جعلتهم يستغنون عن ربّات الفنون، فهنّ لسن المُلهِمات، وإنّما الإلهام عمل محض، صادر عن الوعي الإنسانيّ.

الفنون عند الموسوعيّين حِرف ومهارة، وربّما كانوا المسؤولين عن إطلاق كلمة فنّ على كلّ حِرفة، مهما كانت: فنّ اللّباس والمشي والمكياج والطهي والزراعة والحدادة… فتُفهَم كما يُفهَم فنّ الرقص والموسيقى… ما جَعَلَ “كانط” يضع حدّاً بين الحِرفة والفنّ: الحِرفة للعيش والكَسب والفنّ للهواية ورضى النفس.

لم تتغيّر المواقف، لا من هذا الطرف ولا من ذاك، وظلَّ الصراع قائماً حتّى هذه الأيّام، بل اشتدَّ ضراوةً، حتّى أنّ أصحاب الأموال الموسرين حوّلوا بعض مسارح برودواي إلى دُورِ استعراضٍ جنسيّ تحت ذريعة “الفنّ الحديث”.

مَن يقرأ تاريخ العالَم الجديد، يُلاحظ أنّه بُني على مُعاداة الفنون، فمعظم المهاجرين إلى أميركا، هُم من المُناوئين للفنون. لكن في ما بعد طغى “فنّ الإعلام والدعاية” خدمةً للشركات الكبرى، بينما تراجعتِ الفنونُ الجماليّة الصِرف.

أسباب الصراع التاريخيّ

ما أكثر أنواع الصراع في التاريخ؛ لكن هنا نلتزم بالصراع الذي أحدثته الفنون في المُجتمعات. ويُمكن صَوغ قانون بسبب هذا الصراع كما يلي: “حين لا يكون الفنُّ وسيلةً لتسهيل العمل، أو جزءاً منه، يصبح تطوّره خاضعاً للأهواء، وليس للأداء، وبذلك تكون له قوانينه الخاصّة”. وهذا قانون ينطبق على الكثير من مفرزات الأبنية العليا، كاللّغة والدّين والعِلم والأخلاق والقيَم… فالانخلاع عن العمل يعني الضياع، مسيرته التعثُّر وحصاده الأذى.

الأصل في الفنون أن تساعد على العمل، وقد ظهر هذا في مرحلة الصيد، حيث كان الرَّسم والنَّحت والتلوين والرقص جزءاً لا يتجزَّأ من العمل، المادّيّ والمعنويّ. فهناك مئات الأنواع من الرقصات يؤدّيها الصيّادون قَبل الذهاب إلى الصيد، بحسب الحيوان الموجود في المنطقة. كما هناك رسوماتٌ وأغانٍ أو قلْ تراتيل وضراعة، حتّى يكون الصيد موفَّقاً. فكان الصيّادون يؤمنون بأنّ هذه الفنون ضرورة من ضرورات العمل، ومدرسة يتعلّم فيها الصغار من الكبار كيف يجري التحضير للصيد. ومعظم التراتيل كانت تُقدَّم للكائنات الغيبيّة التي تُهيمِن على منطقة الصيد هذه أو تلك.

وعندما نربط الفنّ بالدّين، لا يعني أنّه منفصل عن الحياة، بل على النقيض من ذلك، إنّ الدّافع إلى الحياة أَوْصَلَ الإنسانَ إلى الدّين، كي يكون له سَنداً ومُعيناً، خشية أن تقف القوى الغيبيّة ضدّه.

وعندما ظهرتِ الثورةُ الزراعيّة، نشبَ صراعٌ جديد بين الصيّادين والمُزارعين، وبالتالي حوَّل المزارعون كلّ فنون الصيد إلى فنونٍ زراعيّة، فظهرت أربابٌ زراعيّة جديدة، أو أُوكلت لإله الصيد نفسه مهمّات زراعيّة، بالإضافة إلى مهمّات الصيد، فقد كان أبولو صيّاداً مع أخته ديانا، ولكنْ مع ظهور الزراعة، صار راعياً ورَبَّ خصب، وصارت أخته ربّة غابات. واستعرتِ الحروب بين الصيّادين والمُزارعين، بين الهائمين بحثاً عن الطرائد، والمستقرّين سعياً لجني المحاصيل، فتغيَّر الكثير من منحى الفنون، وصار المزارعون، إن قبضوا على صيّاد في مزارعهم، اعتبروه مُعتدياً على ملكيّة مقدّسة، وأراقوا دمه لتخصيب التربة.

ما دامت الفنون ملتصقة بالعمل، فإنّ تطوُّرها واضح، ولكن حين تغادر العمل إلى الأخيلة والتفكير الفرديّ، تغدو مثل اللّغة، تتطوّر بحسب استخدام بنيتها الداخليّة. ويُطلِق هيغل وسواه من الفلاسفة على هذه الظاهرة، ظاهرة الانخلاع، إلى درجة القول إنّ الفنون، غبّ انخلاعها عن أساسها، تكون لها سيرورتها الخاصّة، وتتطوَّر وفق قوانينها الداخليّة، فتُنتِج أشكالاً جديدة من غير أن يكون لها أساسٌ مادّيّ. وقد تحمّس لهذه الفكرة الزعيمُ المَنفيُّ “تروتسكي”.

في الثورة الصناعيّة جرى الاستغناءُ عن الإلهام، وفي الثورة التكنولوجيّة ارتبط الفنُّ بالفرد، حتّى أنّ بعضهم اعتبره من مفرزات ساعات اللّهو والتسلية، بعدما كان مُقدّساً كلّ التقديس، ويُسهم في صُلب طقوس العمل والدّين.

وفي العصر الحديث يرى المتشدّدون أنّ الفنون باتت خطراً داهماً، لا يقتصر تشويهها وأذاها على الفرد، بل يشمل الهيئات الاجتماعيّة بأسرها، وقد أيَّد هذا الموقف العديدُ من أعلام الأدب الحديث، ربّما كان “تولستوي” في طليعتهم، وخصوصاً في روايته المخيفة “سوناتة لكرويتزر“؛ فالموسيقار القادم يستأثر بقلب الزوجة، بفنّه الموسيقيّ. وفي بقيّة رواياته تبدو ملامح معارضته. ففي روايته “موت إيفان إيليتش” يستدرج القارئ إلى حياة إيفان الهادئة، حتّى إذا شارفت الرواية على نهايتها، أُصيب الرجل المُحترَم بمرضٍ عضال لا براء منه، فعانى الكثير من الآلام، ولكن أشدّ الآلام جاءت من زوجته التي بعدما تأكدت ألّا سبيل إلى الشفاء، راحت تتفنّن في المكياج، وتتبرّج أمام عوّاد زوجها.

خاتمة موجزة جدّاً

في كلّ هذا الصراع العالَميّ الذي لم ينقطع يوماً من الأيّام، لا نَجِدُ أثراً للصراع الطبقيّ، ولا للاقتتال لإعادة “الحقوق المسلوبة” و”العدالة المغلوبة”، فقد كان الفريقُ الواحد يضمّ كلّ الطبقات مع العديد من أطيافها، وربّما كان المُعدم أعتى في النضال من المُتخم. يبدو أنّ الحياة الاجتماعيّة أعقد من أنّ تفسّرها أو تحلّ قضاياها أيديولوجيا واحدة.

للتوسُّع

ثمّة ثلاثة اتّجاهات تكاد تمثِّل المواقف من الفنّ:

  • بليخانوف، الذي لا يفصل الفنّ عن الصراع الطبقيّ.
  • بنيديتو كروتشه، الذي يفصل الفنّ عن أيّ شيء، ويرى أنّه إلهام.
  • تولستوي، الذي يرفض الفنّ القائم، ويرى فيه إيلاماً وأذىً وإفساداً، ما لم تُوضَع له القواعد والضوابط والزواجر، كما في جمهوريّة أفلاطون.

***

*كاتب وناقد من سوريا

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *