المنهاج التربويّ اللّبنانيّ بين التجديد والمُراوَحَة

Views: 184

د. حسن زين الدّين*

يُشكّل إنجاز “المركز التربويّ للبحوث والإنماء” في لبنان للمسودّة الأخيرة لـ “الإطار الوطنيّ اللّبنانيّ لمنهاج التعليم العامّ ما قبل الجامعيّ” خطوة أساسيّة على طريق إعادة البناء الوطنيّ، الذي نعيش تصدّعاته المُخيفة اليوم. كما يدلّ إطلاقه في احتفاليّةٍ في السرايا الحكوميّة بحضور رئيس الحكومة ووزير التربية والتعليم العالي، وعدد من الوزراء والنوّاب والشخصيّات التربويّة والأكاديميّة، ومسؤولين من منظّمة اليونيسكو والبنك الدوليّ، على الأهميّة الكبيرة التي توليها الدولة اللّبنانيّة وبعض الدول المانحة لهذا الموضوع الحيويّ، الذي يطال الأجيال المُقبلة، ويرسم خطَّ سَيرها نحو بناء وطن تعيش فيه بسلام ورخاء. كما يساعد على تثبيت ركائز المُجتمع وتحديثه وتوفير فرص العمل المُناسبة لأبنائه.

اعتُبِر الإطار دستوراً تربويّاً يتماهى مع دستور البلاد ولا يخرج عن ثوابتها الوطنيّة. لذا يتطلّب إقراره التمحيصَ والدَّرسَ والتوضيح، ولاسيّما العناوين التي تكون موضع خلاف عميق بين مكوّنات المجتمع. ولطالما كانت الطبقة السياسيّة – الطائفيّة تتعمّد إهمال تلك الخلافات أو تُخضعها لتسوياتٍ سرعان ما كانت تسقط، فيحصد الناسُ الأهوالَ ويدفعون الأثمان الباهظة.

إنّه لَمن دواعي الأسف أن نستمرّ في سلوك الطريق التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه من انهيارٍ وتفتّت اليوم. فالدولة والأحزاب والناس بمُجملهم، يعتمدون الخطاب الوطني نظريّاً، بينما هُم في الواقع يعيشون الطائفيّة والمذهبيّة في أصغر تفاصيل حياتهم السياسيّة والاجتماعيّة. ولا نُجافي الحقيقةَ البتّة عندما نقول إنّ معظمَ المدارس القائمة، المتعدّدة المناهج، والمُختلفة الأهواء والمشارب، قد أَسهَمت في تعميق الانقسام، وإن كنّا في الوقت نفسه، لا نرى سبيلاً غيرها لإعادة البناء والنهوض وتقديم هويّة موحِّدة، يفتخر المواطن بحملها كونها ترسِّخ الانتماء للوطن، وتحلّ محلّ الهويّات الطائفيّة والمذهبيّة. “بالتربية نبني معاً”، شعارٌ جميل هذا الذي أُعطي لمنهج العام ١٩٩٧. لكن وبعد ربع قرنٍ من تطبيقه، نتساءل إن كنّا وصلنا عبره إلى الإسهام في بناء وطنٍ مستقرّ متقدّم نعتزّ بالانتماء إليه. أوَ لا بدّ من إعادة النَّظر في ذلك المنهج، ولاسيّما لجهة الأهداف الوطنيّة التي رسمها، والمرونة التي قيل إنّه تمتَّع بها، والتي يجب أن توفِّر للمدرسة وللمعلِّم أدوات ترجمة تلك الاهداف؟

وزير التربية نفسه أعطى جواباً مُختصراً بقوله “إنّ لبنان في كبوة وتخلّف”، وإنّه “بالتربية والتعليم والثقافة يُمكننا انتشال لبنان من كبوته وإعادته إلى الازدهار والتقدُّم”.

يعني ذلك أنّ ما حصّلناه من عِلمٍ وتربية وثقافة طوال ربع القرن الماضي، لم يكُن كافياً. وحسناً جاءت إعادة النَّظر بالهيكليّة التربويّة في البلد، انطلاقاً من المناهج. فالبناء الوطني يبدأ في المدرسة، والمنهج هو الوسيلة التي ترتّب أولويّاته وتتدرَّج بها بحسب عُمر المتلقّي ومهاراته. والبناء المعرفي للطفل يبدأ ويتطوَّر انطلاقاً من مساعدته على اكتشاف شخصيّته وهويّته ولغته، والتعرُّف إلى بلده، إلى تاريخه وجغرافيّته، وحضارته والقيَم الجامعة لأهله. ومن هنا يبدأ تشخيص الانقسام الذي نعانيه والذي ينبغي الاعتراف به لنتمكَّن من علاج الآفات التي تنتج عنه والتي تفتك بالشعب والدولة.

كما تجتهد المدرسة لاكتشاف مهارات التلميذ وتنميتها. ولا خلاف على ذلك بين مكوّنات (التعبير المُلطّف للطوائف) الشعب اللّبناني. فالمناهج توظِّف تجارب الآخرين وتقدُّمهم وما تحمله النظريّات التربويّة الحديثة ليتعرّف المتعلِّم إلى مهاراته وينمّيها بعد أن تُفتح مسارات العلوم أمامه؛ فيتكامل ذلك مع تعريفه على حقوقه وواجباته، ويتمّ إغناؤه بمجمل الفضائل السامية التي تُظهِّر شخصيّته وتجعل منه مواطناً صالحاً يسلك طريقه إلى الاندماج الهادف، والمُفترض أن يكون بعيداً عن التشوّهات الطائفيّة والمذهبيّة والطبقيّة وغيرها من الآفات التي تفتك بالمُجتمع.

يبدأ المتعلِّم في سنواته الأولى في المدرسة بالتعرُّف إلى ذاته كفردٍ وكمواطِن. يتلمّس ذلك من خلال التفاعُل الإيجابي مع أمثاله في نشاطاتٍ مختلفة كالرياضة والرحلات المدرسيّة والكشّافة… إلخ، والتعرّف على الهوايات المحبَّبة من موسيقى ورسم وغناء وأعمال يدويّة وما شابه. يتعلّم كيف أنّ هويّته وانتماءه الوطني لا يكتملان لأنّه مواطن بالولادة فحسب، بل عليه استكمالهما بالمواطنة التي هي شأن وجداني يكتسبه، بل يتشرّبه بدءاً من المدرسة ومناهجها. ومن هناك ينطلق إلى الهدف المنشود بعناوينه الوطنيّة السامية، وهو أولويّة الانتماء للوطن والاعتزاز بالولاء الحصري له والتعلُّق به والدّفاع عنه.

لذا يترتّب على كلّ صاحب دَور أو رأي بالشأنَيْن السياسي والتربوي، ويعي أهميّة وخطورة دَور المناهج التربويّة في نحْتِ الشخصيّة الوطنيّة، ألّا يتردّد في العمل والمساعدة على ترسيخ تربية وطنيّة وثقافة عصريّة مُوحِّدة وبنائها. الساحة زاخرة، ويا للأسف، بالعديد من أصحاب الأجندات الساعية لاختطاف مستقبلنا، وقد وجدوا في المدرسة ضالّتهم. فمنها يبدأ التشظّي، وخصوصاً لدى تنكُّب أكثر من اتّجاه في التربية وفي اعتماد أكثر من ثقافة في لبنان. فالتعامُل القائم مع التنوُّع (تعدُّد الطوائف) على أنّه غنىً ونموذجٌ حضاريٌّأَثبت مع الأيّام عقمه ولم يوصلنا إلّا إلى أزمات؛ إذ إنّ الطوائف السياسيّة لم تستمدّ من الدّين روحيّته السامية بما يُساعد على رسْمِ الملامح السياديّة والثقافيّة والفكريّة والقيَميّة للمواطن؛ بل شكَّل لها الدّين غطاءً لتحقيق مصالح ومآرب سياسيّة كانت تنتهي غالباً بحروبٍ أهليّة، ساخنة حيناً وباردة أحياناً، وسهَّل لها فَتْحَ النوافذ على مختلف رياح المصالح الإقليميّة المُتناقضة التي كانت تهبّ بين الفينة والأخرى، فتُحوِّل الوطنَ إلى ساحةٍ وخراب.

المناهج نقطة الانطلاق لبناء المُواطن الإنسان، لذا ينبغي أن توضَع بأيدي أشخاص يتمتّعون بمؤهّلات تخوّلهم نَحْتَ الشخصيّة الوطنيّة السياديّة والثقافيّة والفكريّة والقيميّة. مؤهّلات قد لا يتمتّع بها الكثيرون من حَمَلَةِ الشهادات العليا، وإن واكبت عملَهم هيئاتٌ دوليّة.

فالكلام المنمَّق لا يُكوِّن مفاهيم وطنيّة جديرة أن تدخل في صلب المَنهج، ومنه إلى وجدان المعلّم أوّلاً، ومن ثمّ المتعلِّم او المتلقّي. لقد بدا ذلك جليّاً في المناهج السابقة، التي وبعد ربع قرن من تطبيقها لم تُعطِ ما هو مطلوب منها على الصعيد الوطني، بل وفي بعض المواقع أَعطت عكس المُرتجى. وطننا يغرق أكثر فأكثر في وحولِ الطائفيّة، والمتعلّمون أصحاب الكفاءات العلميّة وحَمَلَة الشهادات العليا يبحثون عن فُرص عمل وحياة خارجه. والانهيار الأخلاقي بَلَغَ أوجّه، حتّى صار لبنان في طليعة البلدان الغارقة في الفساد والفقر والمديونيّة والتعصُّب والتزمّت. وامتدّ الانهيارُ ليطالَ البيئةَ فيُدمّرها، وانتشرت الأوبئة، وبلغت سمعة بلدنا الحضيض، وهذا ما يؤثِّر سلباً على كلّ لبناني يسافر إلى الخارج.

الواجب الوطني يدفعنا لمُواكَبة الجهود التي تقوم بها وزارة التربية والمركز التربوي، لوضْعِ صيغة مَرِنَة ومتطوِّرة لمناهج تكون قادرة على الانتقال بالنّاشئة من الموقع الخطأ الذي لا يوصل لبناء مستقبل زاهر إلى الموقع الصحيح وطنيّاً وعِلميّاً وأخلاقيّاً. إعادة البناء يجب أن تتمّ على قواعد جديدة أكثر ثباتاً. والابتعاد عن المألوف لإقرارها، أي عبر إرضاء الطوائف السياسيّة ومُمثِّليها في مختلف المواقع. وقد تلمسّنا شيئاً من ذلك في مسودّة الإطار الوطني الأخيرة، على الرّغم من المحاولات الجادّة للتفلُّت من شِباك الطائفيّة التي حملتها تلك الصيغة.

لقد اعترى مسودّة الإطار الوطني الأخيرة بعض الغموض المقصود، والإرباك الواضح. قد يكون السبب هو عدم إزعاج الأعراف المكوِّنة للجنةِ الصياغة. فالجميع أدلى بأدبيّاته السياسيّة ومفرداته، وحَشَرَها بين السطور ليُحقِّق ما يراه انتصاراً. ولم تكُن الفروقات العميقة بين المُجتمعين خفيّةً، ولم يُقنِع أحدٌ أحداً بأنّ تغليف التنوُّع الطائفي السياسي وتزيينه بألفاظٍ جميلة سيُنتِج وحدةً فعليّة. لقد غدا الإطار الوطني ببعض وجوهه، وكأنّه بيانٌ وزاريّ كُتب ليُقرأ في جلسة الثقة بالحكومة وينتهي كلّ شيء بعد ذلك.

أمّا الخارج الذي تعوَّدنا حضورَه في مختلف مناحي حياتنا، فرأيناه حاضراً في صلب صناعة المَنهج والتربية، من باب المِنَح والقروض، وعبر توجيهاتٍ ونصائح وحثٍّ على إنجاز المهمّة من ضمن مهلٍ مُحدَّدة، حفاظاً على القرض المخصَّص لذلك، كما كان يوحي ممثّلو الهيئات المانحة. كان ذلك يُثير حفيظة العديد من المُشاركين في ورش العمل التي ناقشت مسودّات المنهج قبل إقرارها، وكانوا يرفضون تلك المُشاركة شكلاً ومضموناً، ويعتبرون أن لا حاجة تربويّة أو علميّة تستدعي إسهامَ هيئاتٍ دوليّة ذات توجُّهاتٍ عالَميّة فوقيّة. ولو كان الأمر بالعكس، لرفضت تلك الدول تدخُّلَ أيّ أجنبي للمسّ بالمقدَّس الذي هو الدستور التربوي.

حسناً تحصَّنَ النصُّ بإمكانيّة إعادة النّظر فيه ومُراجعة بنوده بشكلٍ دوري. لكنّ هذا لا يُبدِّد الخشيةَ من إمكانيّة السير به من دون مراجعة عقوداً أخرى كما حَصَلَ مع مناهج العام ١٩٩٧. لكنّ الأمل يبقى بمُعالَجةٍ سريعة، إذا سمحت الظروف، للموضوعات الخلافيّة، والاتّفاق على مضامينها وتوضيحها، بعيداً من الدوران حولها، وبما يُسهّل على المعلِّمين فَهْمَها والاقتناع بها، وبالتالي شَرْحَها للناشئة بشكلٍ صريح وواضح. فالقول مثلاً إنّ تطوير المنهج أتى على خلفيّة “الاضْطرابات” “والخلافات الداخليّة” والاعتداءات الخارجيّة، يعتبره المعلّمون تسطيحاً وتبسيطاً للسبب العميق للحاجة إلى تحديث المناهج وعَصْرَنَتِها؛ إذ كيف نُغفل ونتناسى أنّ الانقسامَ الداخلي أعمق بكثير ممّا تعني هذه المُرادفات، وأنّ الهوّة عميقة بين المكوّنات؟ فمنهم مَن يرى في بعض الطروحات مسلّمات وطنيّة مطلوبة، ومنهم مَن يجد فيها غشّاً وتعصُّباً وطائفيّة. والاعتراف بالأسباب الحقيقيّة لهشاشة تركيبتنا الوطنيّة هو المدخل لعمليّة الخروج من المستنقعات الطائفيّة والمذهبيّة والعشائريّة والابتعاد عن أهمّ مسبّبات حروبنا الداخليّة العقيمة.

بعد ربع قرن من إطلاق منهج العام ١٩٩٧، نرى أنّ معظم شرائح المجتمع، ولاسيّما في المدرسة أو الجامعة، غارقة في الطائفيّة والمذهبيّة، وهي تتهكَّم على مَن يحكي عن مدنيّة الدولة، أو عن وحدة وطنه وسيادته، لأنّهم يرون كيف، وعلى حسابهم، تُفتح أبواب الفساد الداخلي على مصاريعها وتُشرَّع نوافذ الوطن على رياح المصالح الإقليميّة والدوليّة.

لم يَعُد جيل الشباب في لبنان يعتقد بصدق خطاب الوحدة القائمة على التنوُّع، بل يرى فيه تغليفاً لفدراليّة الطوائف التي يُعاني الوطن من سلبيّاتها، كما كان عليه الأمر دائماً عبر تاريخه المتوسّط والقريب.

إنّ المنهج الموضوع اليوم ينطلق من فرضيّاتٍ تخصّ الدولة، فماذا لو لم تتحقَّق تلك الفرضيّات؟ كالقول “إنّ لبنان يتّخذ مُبادرة وضع إطار وطني لمنهاج التعليم بهدف المؤالَفة بين الرؤية التربويّة والتوجُّهات التنمويّة الكبرى التي يُخطِّط لها لبنان”؟

عن أيّ توجّهات تنمويّة يتحدّثون؟ اقتصاديّة هي، أم ماليّة أم نقديّة أم اجتماعيّة أم أمنيّة؟ لقد خسرنا كلّ ما كنّا ننعم به، لأنّه لم يكُن، وليس للدولة والنّظام الطائفي أيّ خِطط جدّيّة أو توجّهات مستقبليّة. لذا نحن نغرق أكثر فأكثر بأزماتنا الحياتيّة، والحلول ما تزال، كما يبدو، بعيدة.

أخيرا تأتي إشكاليّة التهليل والثناء على الانتشار أو الهجرة وربطها بشجاعة اللّبناني ونجاحاته الباهرة وتحقيقه ثروات طائلة…إلخ. وهذا بحاجةٍ إلى نقاشٍ عميق كي لا نضخّ في عقول الناشئة أفكاراً مُتسرّعة قد ترمي بهم إلى المجهول. الانتشار مقبول في ما لو وَفّر الوطن مقوّمات البقاء والعيش والتقدُّم لبنيه في داخله؛ عندها تستحقّ الهجرة الثناء كخيارٍ نخبوي أو كسلوك ترفيهي. لكن في مثل ظروفنا نرى أنّ الهجرة أقرب إلى التهجير، وهي جريمة بحقّ الوطن وشبابه. تذكّروا أنّه مقابل كلّ ناجح في بلاد الاغتراب، هناك العشرات أو أكثر بكثير ممَّن يعانون، وبالكاد يحصّلون لقمة عيشهم.

نأمل أن تكون هذه النقاط وغيرها مَدار نقاش، وأن تؤخَذ بعَين الاعتبار عندما نذهب إلى ترجمة التصوُّر والإطار النظري بتأليف الكُتب وتدريب المعلّمين والتقيُّد بأنظمة الجودة والتقييم المُستمرّ.وبكلّ أسف، الرّهان ما زال مبكّراً على إمكانيّة إلزام المدارس الخاصّة اعتماد المناهج المدنيّة اللّبنانيّة دون غيرها.

في الختام لا بدّ من التأكيد على وطنيّة وإخلاص ومثابرة مَن عمل على هذا المشروع وأَنجز صيغته النهائيّة. وأعرف أنّ أكثرهم يؤيّد الملاحظات الواردة أعلاه، لكنّهم يعتبرون أنّ ما توصّلوا إليه هو أفضل المُمكن، ولن نستطيع في هذه المرحلة الوصول إلى أحسن ممّا أُنجز. دعونا نتأمّل نصف الكوب الملآن، إنّها فرصة يُمكن أن تفتح لنا نافذةَ نورٍ على المستقبل، هل سنتمكَّن من فتحها؟ وبعيداً عن الإحباط السائد واليأس والمَلَل من المُبادرات أخشى أن أُردِّد مع الكثيرين: بلدنا ما زال بعيداً عن سلوك طريق الخلاص والتحوُّل إلى مصافّ الأمم الراقية.

***

*عضو الهيئة العليا لتطوير منهاج التعليم العامّ ما قبل الجامعي- لبنان

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *