قراءةٌ في كتابِ “قصيدة الاعتراف” للناقد رحمن غركَان

Views: 211

إبراهيم رسول

يأخذُ الناقدُ في قراءتهِ هذه عيّنة إبداعية للشاعر العراقي وهاب شريف ومجموعته التي تحملُ العنوان “الشاعر مضروبًا في نفسه”، هذه العيّنة الشعرية لمْ تكن كلّها محور القراءة النقدّية، بلْ جاءتِ القصيدة الأولى بعنوانها “أنا وهاب” هي المحور المركزي والعيّنة التي سيتناولها الناقد في قراءته، هذه القصيدة هي قصيدة اعترافية ولأنّها مكتملةُ عناصر الفنّ والجمال، إذ تجلّت فيها المعايير الإبداعية التي اشترطها الناقد في قراءاته التي واظب عليها في سلسلتهِ الشّعرية “سلسلة نقد الشعر الآن”، هذه العيّنة هي مشروطة باشتراطات وضعها الناقد على نفسهِ، منها التميّز، الاستثنائية، الجمال، وهذه الصفات تجعل القراءة تشتغلُ تنظيرًا وتطبيقًا في ثيمةٍ مهمةٍ كانت هذه القصيدة “أنا وهاب” نموذجها الواضح والكامل.

الطريقةُ التي التزمَ بها الناقد د. رحمن غركَان في عمومِ سلسلتهِ التي وصلت حتّى هذا الكاتب إلى الرقم 24، هذه الإصداراتُ المستمرّة، بدأ بها بمشروعٍ أعدّه من خيرة المشاريع التي تقدم فائدة إلى المتلقي الباحث في الدّرس النقدي الذي يروم أن يقرأ قراءة غير نمطية ولا مُستهلكة.

هذه الطريقة تتلخص بأنْ يقرأ العيّنة مرّة ومرّة ومرّات حتّى يجد المهيمن الأبرز والأكثر أهمية مركزية تجلّت عنده فيأخذها ويخضعها إلى درسه النقدّي، وكانت المهيمنة المكتملة العناصر الفنّية هي موضوعة “قصيدة الاعتراف”، نجدها عند الشاعر وهاب شريف قدْ اكتملت صورتها الفنّية والإبداعية فجعلها تكون عيّنة نوّعية للقراءة النقدّية، وبالفعلِ جاء العنوان من بنية الإبداع أي أنّ النقدَ خرج من النصّ الإبداعي، فصار التنظير والتطبيق يقتربان من بعضهما البعض بلْ يمتزجان في نصٍّ قريبٍ واحدٍ.

 

التنظير النظري

كعادتهِ في القراءة يبدأ بالتنظير النظري الذي يقدّمهُ على الفصول التالية، أي الفصول التطبيقية، فالتنظيرُ هو الرأيّ والآلية التي سيقرأ الناقد بها هذه العيّنة، وأما التطبيق فيأتي كإجراءٍ نقدّيٍ لما نَظَّرَ له، وبهذا نلمحُ لمحات تأصيلة كثيرة في نقودهِ.

الاعترافُ هو نصٌّ مكاشفٌ أي يعني بأنّ الشاعر يصارح ويعترف للمتلقي بأشياءَ مضمرة وهذه المكاشفة تأخذ صورًا عديدة فصّلها الناقد في كتابهِ هذا. 

يبدأ الكتاب بالتعريف اللغوي لمادة عرف التي تشكلت منها كلمة الاعتراف، ويستعين بقاموسٍ واحدٍ وهو لسان العرب لابن منظور كأنّه لا يريدُ أنْ يُرهقَ المتلقي بالبحثِ في جذور الكلمة التي اكتمل معناها في المرجع القاموسي لسان العرب، ولكنه في تعريفه لها إصطلاحيًا يقرأ آراء غيره ممن بحثوا وكتبوا في موضوعة قصيدة الاعتراف ومنهم الناقد العراقي الدكتور علي متعب جاسم في كتابه شعراء ما بعد الحداثة، فهو يتفق مع الناقد ولكنه يعرّف المصطلح وفق رؤاه الخاصّة، فيقول في اتفاقه: وأذهب إلى ما التفت إليه الناقد الدكتور علي متعب جاسم من أن أدب الاعترافات شأن شائعٌ في الشعر، ولكن القصيدة الاعترافية من تجلياته في الشعر، ومن تحولاته في الكيفية والخلق الشعريين.(الكتاب: 15)، في هذا الاقتباس يتفق الناقد مع ناقدٍ آخر في شيوع وشهرة أدب الاعترافات، ويسرد بعض الآراء في أدب الاعترافات ويخلص إلى تعريفٍ خاصٍ به فيقول: نخلص إلى تعريف إجرائي لقصيدة الاعتراف؛ على أنها: نص شعري يصدر الشاعر فيه عن كشفٍ مضمرٍ شخصي والبوح به شعريًا بوصفهِ اعترافًا ذاتيًا؛ بما كان مكتومًا من لدنه، مجهولاً من الآخر. (الكتاب: 19)، فالناقدُ بعد أن قرأ الآراء الأخرى فخلصَ إلى رأيهِ وهنا فهو يمارسُ الطريقة المنهجية في القراءة التي تعتمد علة الخبرات الأسبق حتّى يأتي إلى رأيهِ في الموضوع وهنا نقرأ تأصيلًا للمصطلح وهذا التعريف يعدّ جامعًا مانعًا كافيًا،

ثلاثة فصّول قرأت فيها قصيدة الاعتراف، فكان الأوّل تنظيريًا وهو أكثر من الفصلين الآخرين، لأنّ فصلُ التأسيس وهو أهم الفصول إذ يستطيع القارئ أن يقرأ هذا الفصل ويمارس التطبيق بنفسه على عيناتٍ أخرى وهكذا صار النقد مادة علمية تعطي الفائدة والثمر للقارئ الذي يروم أن ينتفعَ مما يقرأ وليس ذلك النقد الغامض الجامد الذي لا روح فيه، فنحن نقرأ في هذه النقود تنظيرًا مع التطبيق النوذجي.

 

جاء عنوان الفصل الأوّل: قصيدة الاعتراف؛ المفهوم ومعطياته ووضع له ثلاث عناوين فرعية تسلسلها كالآتي:

أولًا-مفهومها:

تناول في هذا العنوان التعريف اللغوي والاصطلاحي ورأيه في القصيدة الاعترافية، وخلص إلى تعريفٍ خاصٍ لها، استمد التعريف من قراءاته المكثفة ووعيه النقدّي ومن قراءاته لهذه العيّنة فهنا نستطيع أن نصنّف النقد بأنّه المادةُ النافعةُ المهمةُ.

ثانيًا-مقوماتها:

أي المقومات الأساسية التي قامت عليها القصيدة وهذه المقومات هي أشبه بالشروط الواجب توفرها حتّى تكون قصيدة الاعتراف، فالمرتكزاتُ التي استندت عليها القصيدة هي مقومات منفردة انفردت بها قصيدة الاعتراف.

ثالثًا-أنواعها:

لقصيدة الاعتراف أنواع وليس نوعًا واحدًا، وهذه الأنواع فصلها الناقد واختصرها في قسمين:

القسمُ الأوّل بحسب المكوّنات وقسمه إلى أربعة أنواع، والقسم الثاني بحسب البواعث إذ قال: وأما أنواعها بحسب البواعث أو ما يرد فيه الاعتراف واقعًا في أفق من ذلك الباعث أو هذا فهي كثيرة منها: قصيدة الاعتراف الديني، وقصيدة الاعتراف السياسي، وقصيدة الاعتراف الاجتماعي وهكذا مع ما هو أسري أو عائلي أو اعترافات أخرى. (الكتاب: 36).

ويأتي الفصّلُ الثاني بعنوان “بنية قصيدة الاعتراف لدى وهاب شريف”، يتناول فيها المعجم والإيقاع والتصوير والتراكيب الدّلالية، هذا الفصلُ يكون فيه المجال الكبير للتطبيق على التتنظير الذي غلبَ على الفصّل الأوّل، فنحن أمام تجربة وهاب شريف التجربة النوّعية التي تعتبر النموذج لتنظير الناقد، ولأنّها مكتملةُ البنّاء الشعري، جاءت القراءة النقدّية تشتغلُ عليها بصورةٍ مفصّلةٍ، في هذا الفصّل تناول البنية الداخلية للقصيدة الممثلة عند الشّاعر العيّنة، هذه القصيدة المميزة الاستثنائية هي التي تمثلُ وجهة النظّر النقدّية التي يروم الناقد ثراءتها، فنحن بإزاءِ قراءة تستوعب النصّ الإبداعي وتهضمه بحيث أنّها لا تدع شاردة أو واردة تخصّ القصيدة إلا وتناولتها التناول النقدّي الذي يُغني المتلقي عن قراءةٍ آخرى غيرها.

أما الفصلُ الأخير وهو الثالث، الذي عنونه بالعنوان “بناء قصيدة الاعتراف عند وهاب شريف”، فقد تناول فيه البناء القصير، البناء الوصفي، البناء السيري الاعترافي، والبناء الاعتراضي. 

في هذا الفصّل نجد التشابه بينه وبين الفصل الثاني، إلا أنّ ذكاء الناقد يُزيل هذا اللبس في وهم التشابه، فالفصلُ الثالثُ يعني أن قصيدة الاعتراف قد عُدت مهيمنة من المهيمنات حتّى وضع لها الناقد فصلًا مستقلًا، وهنا يدلُ على حنكة الناقد وإبداع الشاعر، إذ تجلّت عنده القصيدة بصورةٍ فنّيّةٍ بديعةٍ وأنّها في شعر وهاب شريف ثيمة وردت كثيرًا في شعرهِ وإلا فأنت لا تقرأ تجربة عادية، بلْ هي تجربة طويلة خاضت غمار الشعر منذ خمسة عقود.

هذا الفصّل كأنّه تأسيسٌ وكشفٌ لجماليات قصيدة الاعتراف في تجربة وهاب شريف مثيمة مهيمنة في شعرهِ، وإلا فالعيّنة لمْ تكن وحدها ممثلة كنموذج في شعر المبدع، إلا أنّ هذا يدّل أيضًا على براعة العين الكاشفة والعقل الذي يُجيد القراءة والتحليل وينظّر، فالآن في هذا الفصّل الأخير أنت تقرأ لناقدٍ مبدعٍ مع شاعرٍ مبدع، وطريقةُ الحفر النقدّي التأسيسي والتأصيلي هي الطريقة المُثلى في الدّرس النقدي اليوم.

 

وخلاصات الختام التي ترد في نهاية كل دراسة هي النتيجة المثمرة التي يقدمها بأوجز عبارة ليقول قولته مذّكرًا المتلقي بالنتيجة التي سينتفعُ منها بعد قراءاته لهذا الكتاب النقدّي النافع، نافعٌ لأنّه يعتمدُ على التنظّير والتطبيق في الوقتِ عينه، وإلا بقي النقد عبارة عن نظريات جامدة لا حياة فيها، فنقود رحمن غركَان تجد الحياة مبثوثة فيها، وتدرك طاقتها على الانفتاح والتجدد في كلّ قراءةٍ كشفيةٍ نقدّيةٍ، والمحصّلة التي يخرج منه المتلقي من قراءة الكتاب نوجزها بما يلي:

قصيدة الاعتراف التي وردت كثيرًا في الأدب العربي تجلّت عند عيّنة نوّعية لشاعرٍ تجربة يدعى وهاب شريف وتدعى قصيدته “أنا وهاب” نموذج للقراءة النقدّية التي قرأ فيها الناقد موضوعة قصيدة الاعتراف، فالتناولُ النقدّي هنا استمد رؤاه من بنية القصيدة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *