ندوة حول “مي زيادة أتمنى أن يأتي بعد موتي من ينصفني” في المعهد الأنطوني-بعبدا

Views: 87

نظمت إدارة المعهد  الأنطوني-الحدث-بعبدا  والمسرح الآخر- أكاديميّة المُمثل ندوة في عنوان “مي زيادة أتمنى أن يأتي بعد موتي من ينصفني”، في أوديتوريوم الأب يوسف الشدياق، شارك فيها: د. إلهام كلّاب، الدكتور طلال درجاني، د. واسيني الأعرج (عبر Zoom)، د. ماريا كريستي باخوس، الممثل عاطف العلم.

افتتحت الندوة بمقتطف من مسرحيّة “مي زيادة، ليالي العصفورية” عن رواية واسيني الأعرج، إعداد وإخراج وسينوغرافيا طلال درجاني لعبت فيها د. ماريا كريستي باخوس دور مي.

بعد ذلك ألقت د. إلهام كلّاب كلمة في عنوان “مي وعصرها” ركزت فيها على أهمية مي كامرأة أديبة في مطلع القرن العشرين وريادتها في الوقوف على المنابر وإلقاء الخطب، وفي الكتابة في الصحف تحت أسماء مستعارة، بالإضافة إلى تأسيسها صالونًا أدبيًّا في القاهرة ارتاده كبار الأدباء والشعراء من مصر ولبنان… وتوقفت  د. كلّاب عند مأساة حياتها  بعدما تآمر بعض الأقرباء عليها واتهموها بالجنون وأدخلوها العصفورية، وكيف تعاطف الفيلسوف اللبناني أمين الريحاني معها واستضافها في قريته في الفريكه بعد خروجها من العصفوريّة، وأخيرًا عودتها إلى مصر ووفاتها فيها بعيدًا عن وطنها.

من ثم قدم كل من الممثل عاطف العلم و د. ماريا كريستي باخوس حوارًا متخيلًا بين مي وأمين الرحاني كتبه الدكتور أمين ألبرت الريحاني.

في الختام كانت مداخلة (عبر Zoom)  للروائي واسيني الأعرج.

د. إلهام كلّاب

 

د. إلهام كلّاب: مي وعصرُها (1886-1941)

-لم تكُن النهضةُ العربيّةُ، ما بين نهايةِ القرنِ التاسع عشر وبدايةِ القرن العشرين، نهضةَ رجالٍ مفكّرين ومُبدعين ومُصلحين فقط، بل كانت أيضًا لحظةَ تحفيزٍ ويقظةٍ وانطلاقٍ لنساءٍ لبنانيّات أسهمن بجُرأةٍ وريادةٍ في الإبداع الثقافي والفكري، والنتاجِ الصحافي، والتطوير الاجتماعي والنضالِ السياسي المُتحرّرِ من أسوارِ المُجتمع والحُكمِ والتقاليدِ واللّغةِ.

-من أهمّ سيّداتِ ورائداتِ هذه المرحلةِ المتوهّجةِ كانت مي زياده التي نحتفي بها هذا المساء بفخرٍ وأسى.

              هي ماري زياده أو مي أو الآنسة مي أو إيزيس كوبيا، أو عايده أو كنار… وحتى خالِد رأفت.

              أسماءٌ متنوعةٌ أو مُستعارةٌ، كانت أديباتُ تلك المرحلةِ يوقّعن كتاباتِهن بها، قبل أن تستعيدَ المرأةُ في بداية القرن العشرين، حريّةَ إصدارِ صحيفةٍ أو نشرِ كتابٍ أو إمضاءِ نصّ باسمها الحقيقي، وكأنها تنزعُ عن عقلِها ووجهِها وإبداعِها وبوحِها، غلالةً رسميّةً كانت تفرِض عليها السُكوتَ والسترَ والغيابَ.

-مي زياده هي من سلسلة جيلٍ ثائرٍ ومِقدامٍ من نساء لبنانيّات رائدات أو مُهاجرات، هي من جيل سلمى صائغ وزينب فواز وعفيفه كرم وجوليا طعمه دمشقيه وروز أنطون ولبيبة هاشم وغيرِهن…

-إنما كانت مي من أشهر كاتبات عصرِها، وأكثرِهن إنتاجًا، واغزرِهن كتابةً. احتلّت أعمدةَ الصُحفِ وصفحاتِ المجلّات، فالتمعت في سماء مصر والعالم العربي متميّزةً بإضفائها على اللّغةِ العربيّةِ جزالة وإحساسًا وانسيابًا.

              انجدلت في شخصيّةِ مي الثقافةُ العميقةُ، وقوّةُ الشخصيّةِ، والعواطفُ الجيّاشةُ، والشعورُ المُرهف، وإتقانُ اللغات، والتساؤل الوجودي الدائم، والتوقُ إلى اليقين.

              تميّزت مي بحريّة التحوّل بين آفاق المعرفة وبحريّة التعبيرِ وقوّةِ الحُجّةِ وعُمقِ الفكرةِ وصِدق المعنى في لُطفٍ وسهولةٍ، وكانت لها الحياةُ الخصبةُ المثيرة والأسرارُ الموزّعةُ والمكتومة. عايشت العزَّ والتألّقَ والتقديرَ والشُهرةَ وعانت من القهر والإهانة والظُلم، نُسجت حولها الحكاياتُ، وتحوّلت إلى أيقونةٍ نسائيّةٍ فريدةٍ في تألّقِها وأفولِها، وليس فقط  في تاريخ النهضةِ العربيّةِ.

-ولدت مي ابنةُ قرية شحتول اللبنانيّة في الناصرة سنة 1886 قبل أن تنتقلَ عائلتُها إلى بيروت ثم إلى عينطوره، وتُهاجرَ سنة 1908 إلى القاهرة حيث التحقت مي بالجامِعة المصريّة، وأتقنت، عدا العربيّة، اللغاتِ الفرنسيّة والإنكليزيّة والإيطاليّة والألمانيّة. وعلى منبر هذه الجامِعة بالذات حاضرت سنة 1921 عن أهميّة تعليم النساء وعملهنّ وحريّة اختيار حياتهنّ.

              أُتيح لها السفرُ إلى إيطاليا وفرنسا وإنكلترا وألمانيا، وعندما زارت لبنان سنة 1922، تبارى الأُدباءُ والخُطباءُ في مدحِها والترحيبِ بها، ونذكُر هنا مطلع قصيدة لشبلي الملّاط في منزل السيدة جوليا طعمه دمشقيه:

ألا حملوا إليك حديثَ مي        كأزهارِ الخمائلِ في شذاها

 

-آثارُها

              بدأت مي الكتابةَ في السادسةَ عشرةَ من عُمرها، وأُطلق عليها العديدُ من الألقابِ احتفاءً بقيمتِها الأدبيّةِ، مثل نابغةِ العرب أو فريدةِ العصر.

              تميّز نتاجُها بغزارتِه وتنوّعه واتساع آفاقه بين شرق وغرب .

              لقد كتبت المقالاتِ (وأسهمت في تطوير فنّ المقالة) والأبحاثَ (الأدبيّةَ والسياسيّةَ والفلسفيّةَ) والخُطبَ (وهي عديدة وكانت أول خُطبة لها أمام الكوخ الأخضر في ضهور الشوير-1911 وآخر خُطبة في الجامعة الأميركيّة في بيروت 1940)، والسيرةَ (عن أديبات مُعاصرات باحثة البادية، ورده اليازجي، وعن برغسون وبيتهوفن ومايكل أنجلو)، والأقاصيصَ، والتمثيليّاتِ (الشمعة تحترق، مساجلة الرمال)، والتأملاتِ، والمذكّراتِ(عن أسفارِها ومراحل حياتها)، والقصائدَ (أولُ نتاجٍ لها كان ديوانًا شعريًّا باللغة الفرنسية Fleurs de Rêve الذي نُشر في القاهرة وترجمه جميل جبر إلى العربيّة تحت عنوان “أزاهيرُ حُلم” ).

              وقامت بترجماتٍ عديدة في الشعر والمسرح، وتبادلت المُراسلاتِ الخصبةَ مع العديد من أَعلام الفِكر والأدبِ العاطفية والفكرية بينها وبين جبران، في إيحاءِ عِشق مكسور  بين الأطلسي والمتوسط ودون أن يلتقيا.

              أفردت بعض الصحف الصفحةَ الأولى لمقالاتِها التي نُشر العديد منها في “الرسالة” و”المحروسة” و”المكشوف” و”الهلال” و”المقتطف” و”البلاغ”.

              عندما نذكر جبران يعود إلى الذهن اسم “النبي” وعندما نذكر ميخائيل نعيمه يعود إلى الذهن “مرداد”، لكن مي التي اعتبرها الناس عامة من أدباء العاطِفة تكوّنت كُتبها من مجموعات غزيرة من أبحاثها ومقالاتها وخُطبها وتجاربها المتنوّعة واتساع ثقافتها وعُمق مُعاناتها. هذا التنوّع الذي لم يحظَ حتى الآن بدراسة شامِلة عدا بعض الكُتب والأبحاث التي تناولت مراحل هذه الشخصيّة الرائدة بين التوهّج والأفول.

              ومن بعض عناوين كتبها:

 -“سوانحُ فتاة”، “الرسالة”، “كلمات وإشارات”، “بين المدّ والجزر”،”المساواة”، “الصحائف”، “مذكّرات عائدة”، “باحثةُ البادية”، “ورده اليازجي“، وكلّها مجموعة المقالات القصص والدراسات الخُطَب والسبر في اللّغة والأدبِ والحضارة  وتطوير أوضاع النساء وتحرير الفِكر واللغة.

صالون مي

              أرست مي  لها في القاهرة مكانةً ثقافيّةً رفيعةً في أجواء الأدب والفكر والرقي والحداثة، إذ أنشأت سنة 1914، صالونَها الأدبي في شارع عدلي، صالون الثلاثاء من كلّ أسبوع، الذي امتدحَه أحمد شوقي (أُسائل خاطري عما سيأتي/ أَحُسنُ الخلق أم حُسنُ البيان) وارتادَه أهمُّ رجالِ الفِكر والأدب والصحافة: عباس محمود العقاد، سلامه موسى، طه حسين، شبلي الشميّل، زكي مبارك، ولي الدين يكن، أحمد لطفي السيّد، يتلون قصائدَهم ويناقشون نتاجَهم، ويدورون حول مي كما في أبيات إسماعيل صبري:

روحي عَلى دورِ بعضِ الحَيِّ حائمةٌ    كظامىءِ الطَيرِ تَوّاقًا إلى الماءِ

إن لم أُمَتِّع بَميٍّ ناظرَيَّ غدًا           أَنكَرتُ صُبحكَ يا يومَ الثُلاثاءِ

              ومع وفاة والدِها أغلقت مي الصالون، وقد أحزنها غيابُ أهلها، فعانت من الوَحشة والاغتراب،  وعذبتها الوَحدة بعد التألّق، وطعنها الكيد والغدر والظُلم من أقرب أهلها.

وكتبت مي:

*”عندما تمرّ بك يا هذا لحظةُ سعادةِ وهناء، الا تراها تتعجّلُ التفلّتَ والانصرافَ وأنت تستنفدُ مجهودك عبثًا في التشبث بها”.

*”أيامك شبيهة بالليل الجارف، والموج منه يسحق الموجَ السابق.

*لقد أحرقت قدمي الرمالُ الحارة ومزّقت يدي أشواكُ الحياة… وخالط اليأسُ صفائي

              وعندما أرادت العودةَ إلى جذورِها، إلى وطنِها لبنان، حلُمت وأملَت لكنّها عُذّبت وتألّمت ولم تعد تقوى على الدفاع عن نفسِها، فأدخلها بعض الأقرباءُ قسرًا إلى العصفوريّة وأقاموا حجرًا على أموالها، حيث عانت حوالى ثمانيةِ أشهر من العذابِ والقهرِ والإحساسِ بالظُلم، وانفضّ الناسُ عنها بعد مِحنةِ تُهمة الجنون.

خرجت مي من ليالي العصفوريّة مُمزّقةَ الوِجدانِ، مُنكسرةً، أسيرةَ الوَحدةِ والانزواءِ، ولم يحتضنِ موهبتَها وألمَها وانكسَارَها وما اعتادته من منابرَ أدبيّةٍ وما خطته عن لياليها في العصفوريّة، سوى أديبٍ لبناني كبير هو أمين الريحاني، فاستضافها في بيتِ للعائلة في الفريكه قرب بيته الذي تحوّل اليوم إلى متحفه.

تقول:

*لقد أحرقت قدمي الرمالُ الحارةُ، ومزّقت يدي أشواكُ الحياة، وخالط اليأس صفائي.

*خذوني إلى قريتي الراقدة تحت حنايا الأُفقِ على هدهدة الناي، لستُ أطلب من أرضي إلا القليلَ من التُراب… إن المساءَ يرجعُ بالكلّ إلى البيت”.

لكن مي التي عادت إلى القاهرة توفت بعيدةً ووحيدةً (1946) ودُفنت بعيدًا… بعيدًا عن هذا البيت.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *