الأسرة في عصر العزل الصحي

Views: 697

محمد إقبال حرب

قُرِع الناقوس فارتج الصدى نواقيس خطر أنذرت المشرقين والمغربين بموت يخطف البشر زرافتًا ووحدانا.

إنه فيروس كوفيد-19 الذي نال وسام جائحة الخباثة التي عصفت بكوكب الأرض. حمل معه الموت كعاصفة من حميم، والقى الرعب والهلع في قلوب ظنّت بأنها جبّارة. استُنزفت المشاعر الإنسانية وهُدمت المنظومة الاقتصادية المتهالكة أصلًا بين ليلة وضحاها.

رجيف قلوب المصابين تستغيث ترياقًا دون مجيب، تبتهل معجزة من الأرض أو السماء دون جدوى.

هل الموت نصيب؟

هل الكورونا سخط أم مؤامرة؟

كل الأجوبة خاطئة، لأننا محدودي المعرفة رغم عصر التكنولوجيا. لكن مع قدراتنا العلمية واصرارنا على الحياة قبلنا التحدي بإصرار على الحياة. تكاتف البشر إلى حد كبير لمواجهة عدو مجهري. لا يقتصر وجود الفيروس على إزهاق الأرواح وتدمير الاقتصادات، بل قد يترك آثارًا اجتماعية إيجابية ما كان يحلم بها العالم. لم يكن في حسبان الفيروس اللعين أن يقدم لنا خدمة جليلة على الأقل في لبنان حيث أنا، رغم اعتقادي بأن نفس الآثار الإيجابية غزت العالم.

في البداية لم يؤخذ الموضوع بصورة جدية في لبنان وغيره من البلدان، فهناك من قلل من خطر الفيروس وهناك من سخر منه نتيجة الجهل. استعاذ كثيرون بالثوم والليمون والرقيا كعلاج، وردد كثيرون مقولة “اللي مكتوب عالجبين لازم تشوفوا العين”. لكن بعض العيون خطفها الردى فلم تحظَ برؤية ما كُتب لها. تفشى المرض بسرعة وخطف آلاف الأرواح خاصة في الصين وإيطاليا وإيران. أطلق ناقوس الحظر وفُرض العزل الوقائي، بل الطوارئ الصحية تحت طائلة العقاب.

لسنوات مضت كنت أتحسر على شبابنا العاطل عن العمل، الذي يتخذ من المقاهي ملاذًا. يخرجون من منازلهم ولا يعودون إلا في ساعة متأخرة. شباب فقد الأمل في وظيفة لا يملك ثمنها، إذ أن للوظائف في لبنان أسعار مادية إضافة إلى الولاء لزعيم الطائفة أو أحد متنفذيه. الأراجيل ولعب الورق أقل الأوبئة الاجتماعية التي يمارسها الشباب بعيدًا عن جو المنزل المشحون بالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية. مقاهي “الأراجيل” بؤرة الضياع القاتل إضافة إلى أشياء أخرى أكثر خطورة أنهكت الأسر خاصة الفقيرة وقضت على براعم نسيها الأمل في ظل الموت الاجتماعي البطيء. لذلك تمرد الشباب على قانون الحظر الذي يسلب منهم فرصة التنفيس عما بداخلهم ولو بطريقة خاطئة. كما تمرد أصحاب الأعمال الحرة البسيطة والمياومين، كونهم يتحصلون على رزقهم يومًا بيوم. الشباب العاطل عن العمل تعود على الهرب من واقعه بتجمعات أشبه بالقنابل الموقوتة.

فقدان الأمل والضائقة الاقتصادية فرّقا الأسر حتى أضحى أفرادها غرباء عن بعضهم. لم يكن بمقدور رب الأسرة لمّ الشمل لأنه يعمل ليلًا نهارًا لتأمين مستلزمات المنزل. وهوت ربّات المنازل في معاناة ضيق ذات اليد التي فرقت أفراد الأسرة، فسكتت على مضض تحت شعار “الله بيفرجها”. أما الأطفال فتقبلوا الوضع على مضض، إذ أن ثورات الأطفال واحتجاجاتهم تخبو بسرعة تحت وابل من التهديد والوعيد المتزامن مع عنف أسري تتراوح قسوته كما تتراوح أحجام اليد التي تصفع وخشونتها.

فجأة اضطر الجميع أن يجتمعوا تحت سقف واحد كما لم يفعلوا منذ سنوات استجابة لقانون الطوارئ الصحي. اضطر الشاب أن يستغني عن “شلّة الأنس”. استغرب رب البيت من وجود هذا العدد من أفراد الأسرة الذين لم يرهم مجتمعين لفترة طويلة. يا إلهي، من هؤلاء! تصرخ ربة البيت التي لم ترَ أفراد أسرتها مجتمعين منذ سنوات. عليها أن تؤمن طلباتهم اليومية من دخل كان محدودًا قبل ن يختفي. المنزل ضيق، بالكاد يستوعبها لوحدها. لم يعد بمقدور الشباب والشابات الهرب إلى أترابهم في تجمعات التيه الضبابي. الحجر الصحي أجبرهم على استعادة عضويتهم في أسرة كانوا قد هربوا منها كما هربوا من أنفسهم. الجميع في المنزل، كبيرهم وصغيرهم خامدون في حيز تمت السيطرة عليه بأقدمية الحضور. حتى رب المنزل أضحى فردًا لا يتزحزح عن كرسيه المشرف على أركان المنزل.

خبا صوت الأراجيل، تلاشت طاولات لعب الورق، ولم يعد لأروقة النميمة جدران من لحم ودم. الحالة الاقتصادية العامة وضعت حدًا لتناول الطعام الجاهز، أو بعثرت المال الشحيح. الجميع يتشارك طبقًا واحدًا أنجزته ربة المنزل من موارد محدودة رغمًا عن تذمر البعض. التوتر النفسي في أوجه، يتجلّى ضحكًا وبكاءً، تدافعًا وغضبًا. الصراع على أماكن الجلوس أو الاسترخاء بدت ضيقة مهما كان حجم المنزل. الأطفال ينثرون جوًا من البهجة بين الفينة والأخرى بعد فورات الملل والضجر المتتالية. لقد أُجبر الجميع على أن يتفرسوا وجوه بعضهم البعض ويطلعوا على تعابيرها. ضعف الحالة النفسية أفضت إلى البوح، الذي فتح أبواب الألم فتشارك الجميع آلامهم وهواجسهم. قراءة الوجوه واستشفاف مغازيها ملكة طمسها البشر بين خيوط الشبكة العنكبوتية. لكن الشبكة أضحت موئلًا للإشاعات والترهيب فتضاربت الإشاعات والتعليقات التي تثير الخوف والهلع فهجرها كثير.  لكن الفراسة تشرق من جديد في ظروف استثنائية تحت راية خطر الموت الجماعي.

تجاوز الجميع مراحل الشكوى، فالأسر الميسورة أصابها الملل والإحباط لإدراكهم أن المادة في عصر الأوبئة لا تساوي نفحة صحة مهددة بالانقراض. أما الفئة الأقل يسرًا والفقراء فقد سئمت الشكوى من أوبئة الفقر والعوز تحت سياط التهديد بالمعاناة والفناء. تناسى أفراد الأسرة ضائقة الشح في مصادر الدخل فاستغنوا عما يحتاجون تحت بند “كماليات”.

من يُطعم الأفواه الجائعة في زمن العزل الصحي؟

من يُملأ البطون الخاوية بما تحب وتشتهي؟

من يعيد سلام الروح في زمن الموت الانتقائي من كائن يتسلل إلى كينونتنا متسلحًا بزعاف الموت؟

يسكت الجميع، حجاب النسيان يُسكت ذكرى العالم الذي كان. تبوح السرائر، تتبادل همومهما، تتمازج الأسرة في بوتقة واحدة. كلٌ يسرّي عن الآخر همومه، يقارنها بما لديه، يشعر بالخزي كونه لم يستشف روح أسرته من قبل. يتمازج الصوت الأجش مع ضحكة الأطفال، تختلط أنغام الصبايا مع أصوات الفوضى الجامحة وأوامر سيدة المنزل. ويهدر صوت رب البيت بين الفينة والأخرى بأوامر لا يستجيب لها أحد رغم سكوتهم لبرهة وجيزة احترامًا لوالدهم. الفوضى العارمة والضجر القاتل أجبر الجميع للتقرب من شركاء المنزل الذين يجمعهم رباط الدم بمحبة خبا وجودها في خضم الصراع الوجودي.

بعد أيام أو أسابيع، ربما أشهر، ستنتهي تصفيات موسم الكوفيد-19، وستفتح أبواب المنازل من جديد. لن يغادرها من عاش بداخلها آمنًا عصر الخوف إلا بعد تردد. رباط الوجود الإنساني الذي نشأ في ظرف استثنائي لن يتحلل كما تحلل الفيروس. سيدرك الجميع قيمة ما لديهم من حب واهتمام وترابط أسري كانوا قد تخلوا عنه في عصر الضياع. اقتناص ابتسامة من أب أو أم بمثابة ترياق اجتماعي، همس الأخ أو الأخت مشاركة وجودية في عصر الفناء. تلك الطاولة المتواضعة التي جمعت الجميع على حساء يملأ البطون أثرت العقل الجماعي لتلك الأسرة بالحب والانتماء. اعتقد بأن معظم الأسر تعلمت خلال هذه الفترة أن مقومات الحياة لا تعتمد على الشكليات والكماليات والاسراف بأنواعه. كما تعلمت بأن مأساة أي فرد من أفراد الأسرة هي مأساة جماعية على الجميع التكاتف والتضامن لمواجهتها.

لم يكن بمقدوري أو مقدور أي كان أن يجمع هذه الأسر ويعيد الشباب إلى منازلهم من بؤر الفساد. ولم يكن أي رب أسرة يحلم بلقاء اسرته لمدة طويلة والتفاعل معها كما حدث. لن أقول رب ضارة نافعة فالذين قضوا تركوا ندبات لا تزول في قلوب ذويهم وضمير المجتمع، بل أقول إن ظروف الجائحة جمعتنا لنتكاتف جميعًا بعد أن راجعنا أنفسنا وعرفنا موقعنا الحقيقي في هذا الوجود خاصة في الدائرة الصغيرة التي نسميها اسرة. أعتقد أن مفهوم الأسرة قد تمت إعادة صياغته في عصر العزل الصحي.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *