كما الدروب

Views: 169

د. جان توما

كما يجري الماءُ سِرًّا في الأرضِ، فيطلعُ شجرًا وبيوتات. يسقي بلابل الشدو فيحلو صوتُها ، وتزدادُ أجنحتُها تصفيقًا لحضورِ النسيمِ لتطيرَ، كذلك تصيرُ الدروبُ القادومياتُ مسالكَ عمرِ الإنسان،

يكتبُ المرءُ اسمَه على رملِ المفارقِ فتحوّلُهُ الريحُ غبارًا، ويحفرُ اسمَ من أحبَّ على أطرافِ الغصونِ، فتتمايلُ بذكرِها الأطايبُ، فلا يلتهبُ الجرحُ المفتوحُ بالسكين، بل يثمرُ شوقًا وحنينًا وأطرافَ حديثٍ مُشتهى بين اثنين لم يتمّ، فيما عطشُهُ أبدًا لأوّل منزلِ، وأوّل بَكْوةٍ من وَقْعَةٍ، وشتوةٍ وصيفيّةٍ، ووجعةٍ وابتسامةِ وَجْهِ أمِّهِ. 

يقفُ القرميدُ حارسًا الأفقَِ. يرقُبُ العائدينَ من بعدِ غياب. تنقلُ له السنونو حين تغُلُّ في شقائقه أخبارَ المسافرينَ. تسهرُ مع خوائه منشدةً حكاياتِهم في غربتهم، تنسجُ من أعوادِ الحشائشِ إرثَ خبرياتِ سَمَرِ  ذكرياتِ مَنْ سَرَى في ساحة البيت، وحكى عن تلالِ الجوار، وبكى من وجع الاغتراب، وتاه في وسعِ المدى، وهو لا يتّسعُ لحكاياتٍ أكثرَ من ضيقِ مصطبةِ  بيت ِالطفولةِ وشجرِ الحورِ ِالعتيق.

يا البيتُ الطالعُ كشلالٍ بين أغصانِ شَجَرٍ، تمهّل في غسلِ وجهِكَ عند ضفافِ النهرِ، ولا تتسرّع في العربشةِ على صخورِ السهلِ، ولا تتسابق صعودًا على التلّة لتُمْسِكَ القمرَ المرتاحَ على جبين الهضبة. دَعِ العمر جاريًا كجدول، وابقَ أنتَ كالماء رقراق القلب، صفيّ الدمع، مزهرًا في الفصول كلّها؛ ورقًا متطايرًا، مطرًا، نبتًا، وحلمَ ليلة صيف.

غدًا حينَ تَفتحُ نوافذَ الدار، وتنزلُ الشمسُ ضيفةً عندَك، تلمَّسْ الجدرانَ الباردةَ، ردّ إليها الروحَ، تفرحُ غابةُ الصنوبرِ بإيقاعِ صوتِك، تخرجُ العصافيرُ من أوكارِها جذلى، تكتبُ قصائدَ العودة، تخلعُ أجنحةَ الرحيلِ، تمزّقُ جوازاتِ السفر، وتعودُ معك إلى حفافي الوادي، تحاكي الجدولَ في مجراه، تُعيدُ غسلَ وجهِها لتحيا وتعودُ أنتَ، بعد سني الغربةِ، تُبَرِّدُ كطفلٍ رجليكَ في دفءِ فرحِ الحضور، بعد البردِ في رتبةِ الغيابْ.

***

*اللوحة للفنان حبيب ياغي

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *