الحب في قصائد أنسي الحاج

Views: 812

د. رفيق أبوغوش

 أنسي الحاج المتألم بنبل، والعاشق بصمت الكبارشرّع أبوابه للحبّ، وغرف من ينابيعه، وأيقظ شياطينه، فكانت كلماته شرهة، صادمة، ولاهبة في بعض الأحايين. والذي يقع في الحبّ يفتح صدره للأعاصير والأنسام والأمواج ترجُّ شطآن كيانه.

   المرأة علّةُ وجوده؛ أمًّا كانت أو حبيبة؛ هي سبب إبداعاته، يتماهى معها، يتقمّصها ولا يستحوذ عليها. هي النّصّ الأصلي في شعره، وليست وسيلةً لتزيين النّصوص، يهرعُ إليها، مرتميًا عند قدميها في لحظات اضطرابه وضعفه، ويرجمها حين يعصف به الجنون، وفي كلا الحالين لا يعرف أن يفعل غير الحب، فيعيش صراعًا نفسيًا مريرًا، ولكنّه مع ذلك لا يخطئ ولا يصيب إلا بالحبّ. يقول أنسي:

  ” لو غرقت في الأحراج

   وتصيّدتُ في الغيوم

   لما استطعت أن أفعلَ غيرَ الحب

   فإني لا أُخطئ ولا أُصيب إلا فيه”.([1])

 

مصهر التّجربة الثّائرة

   ولكي نقارب أنسي في حبّه وتوتّره الشّعوري، لا بدَّ من المرور بمصهر التّجربة الثّائرة التي عاشها، وحمّلها كلّ شيطناته، وبخاصّةً في مجموعته”لن” التي قدّمها على أنها هديّة لزوجته؛ تلك الزوجة التي لم تظهر إلا من خلال الضمير المخاطب”التاء”. فهل التاء التي قصدها هي أمه؟ أم زوجته؟ أم امرأة أخرى؟ أم مجموع المكبوتات القيميّة والعاطفية التي عاشها، أم مروحة التّقلّبات التي رافقت شطرًا من حياته.

   الحبّ عند الحاج يترافق مع الجنس، والنَفَس الشهرياريّ يتوزّع في مفاصل كلماته. إنّه انتقامٌ وإدانةٌ للذكوريّة المتسلّطة التي يصوّرها وكأنها إرهابٌ يمارسه الرجل في أجواء ألف ليلة وليلة. وهو بذلك “يطلب  التّوبة، حيث التّحلّل من الذّنوب والأخطاء، والتّخلص من اللعنة الموروثة، والتّوبة عن كل الرجال منذ آدم”([2]). فيثأر، وتتصاعد رغبته المقموعة، وهو غير قادرٍ على لجمها؛ يأخذه الجنس إلى أماكن سرّية، يمارس شهوته بأسلوب العاشق الشّبق، يسيطر على المشهد، ويملأ المربّعات الماثلة في جسد المرأة التي تتمدّدُ باختيارها، ولكنّها حين تصحو من لذّتها، تصيح وكأنها قدّيسة، تتلو فعل النّدامة، ثمَّ تنتشي صامتة صمت العاهرات اللواتي يمارسن  فعلتهن باختيارهن.

   ” يمدّدك الجنس على أعشابي …

     تعانقين فقط أعشابي

     وبدأت وأنا مضطجعٌ عليك أفقد عادة الفراغ

     ولمّا صرتُ في لذّتي، وصار جسدي

     ملأت المربّعات

     فخرجتِ تصيحين كقدّيسة،

     وتصمتين كعاهرة”.([3])

 

توتّرٌ وشهوانيّة ملتهبة

الحبّ بنظره توتّرٌ وشهوانيّة ملتهبة، لهذا تبدو لغته قاتلة، شبقة، تعبّر عن اهتياجٍ جسديّ في طقسٍ شيطانيّ، وشراهة واضحة (نهداك، المَنيّ، عريك، أعضّك، أمصّها، تضاجعين…) ([4]). ومع هذه الشّهوانية المفرطة تراه لا يرتوي، فهو أبدًا ظامئٌ، وحبّهُ لا يتوقّف. ” لا تتوقّف أيّها العدّو يا حبّي”.([5])

   هذا العداء هو عداءٌ إيجابي، يمكرُ ولا يسبّبّ له إزعاجًا، فالحبّ، إذا لم يكن عاصفًا لا طعم له. حبّه جنون مجبول بالشّرر، وحبيبته هذه المرّة إلهة، وحوريّة يحملها الموج إليه عذراء، لينجبَ منها كل ما ينجب، ويلقيها على الشّاطئ عذراء.

   ” غيره لا طريق له إلى داناي

    الإلهة العشيقة الحوريّة الزّائلة

    التي حملها الموج إليّ عذراء

    فأنجبتُ كل ما أنجبتُ منها

    وألقيتها

    على الموج إلى المستقبل عذراء.”([6])

   إن حبيبته انبثقت من الموج عارية، أنجب منها، وعندما تركها في البحر عادت عذراء. إنه يحاكي بذلك أسطورة زوس وابنته أفروديت إلهة الحبّ والجمال عند اليونان والتي تمثّل عند أنسي ” نار الرّغبة الضامئة أبدًا، وأبدًا غير المرتوية”([7]).

ويوظّف الأسطورة في سياقٍ شعري شخصيّ يرمز به إلى حبيبته داناي العذراء التي لم يمسسها أحد. إنها امرأتهُ المستعصية على اللذّة الجسديّة، والتي جسدُها لا يتجسّد. فالمرأة خلاص الشّاعر لا خطيئته؛ هي خالقة، ولا وجود له إلا بوجودها، خلَقتْ الله في سريرها. هي مريم العذراء التي يسجدّ العالم عند قدميها. إنها والدة الإله، البتول، المنزّهة. ومن شغفه بها، خلق الله في سريرها، ووُلد من تلقائه، من جسده، وليس من جسدٍ آخر. أهو الإبن الذي وُلد من الروح القُدُس!؟ أم الله الذي خلقَ نفسه؟ أم هو كلاهما!؟ 

   ” مَن أنتِ التي أحبّها

     أيتها التي يسجد العالم لها كالبنفسجة وقديمًا خلقني الله،

     لذلك لم أُوجَد.

 

مرجعية الصّدم والبتر واللاإنتماء

ولمّا أنتِ، خلقتُ الله في سريرك، وولدتُ من جسديّ على جسديّ”([8]).

   هي نصوصٌ متوتّرة، نصوص أنسي الحاج، بلا مرجعيّات سوى مرجعية الصّدم والبتر واللاإنتماء، وكسر السّياقات المفتوحة على التّشظّي والدوران المرهق، فكأن الكرة الأرضية معه كرةٌ تتقاذفها أقدام الشّياطين، وهو يحاول الخروج منها متخفّفًا نيّئًا قبل أن تثقلهُ الذنوب والشّكليات والشّؤون الصّغيرة.

   ” آه، لو أطلع من توتّري كقارّةٍ من البحر

    ونيّئًا أصبُّ في عينيك”([9]).

   ومع هذا التوتّر، وذاك المروق، يهوي بلسانه القاسي على المرأة، يخاطبها بلهجةٍ جنسيّةٍ خشنة، ويصوّب على الأماكن الحميمة في جسدها، ولا يتأخر عن ملامستها بلسانه، فيقول:

   “نهداك يا زلِقة، محتاجٌ إلى الرّيق.”([10])

   “أنا جرثومةٌ مدلّلة بين نهديكِ.”([11])

   وهي أفعى تبحث عن لذّتها، ولا تترك رجلاً إلا لتبحثَ عن آخر. الخيانة دأبها، والعهر عندها أسلوب حياة.

   ” عريقٌ في لاهوت الأفعى

     إنها تفترقُ عنّي لتركع عندك، وسنكون معًا

     تبحثُ عن سرير”([12]).

     وهي سلعةٌ للمقايضة والمتعة، ولا قيمة لها إلا بذلك.

   ” عرّها، وألصقها بك، وارجعها إليّ.”([13]

   هذه الصّور الحركيّة تنمُّ عن توتّرٍ نفسي، وسخطٍ ورفض ” اتّسمت بها مرحلته الشّعرية الأولى المشدودة إلى توتّرها اللحظويّ الآتي”([14]). فغاص فيها قبل أن يبدأ التّحوّل الكبير في مسيرته الشّعرية، ونظرته إلى الحبّ والمرأة بعين المتأمّل الخاطئ الذي يفتّشُ من خلالهما عن رجاء. فقصائد الحبّ التي ضمّنها مجموعتي الرّسولة وماذا صنعت بالذهب يجتاحها البّوح والمناجاة، والتّضرّع إلى الله، وإلى المرأة بأسلوبٍ يحاكي “نشيد الأناشيد”، وإن خالطه أحيانًا تهكّمٌ فنيّ على صلةٍ بالأصوات “البودليرية” في شعره.

 

الطمأنينة والسلام وطلب الغفران

هذه الأناشيد البارزة والمقطّرة نوتةً إثر أخرى، هي محاولة للعبور من الرّفض والاحتجاج إلى الطمأنينة والسلام وطلب الغفران. فبعكس“لن”و”الرأس المقطوع”، تبدو “الرسولة” قصيدة حبّ طويلة يبحثُ من خلالها عن المرأة المتعدّدة الأبعاد والوظائف، إلى استبطان الذات من خلالها، واكتناه اللحظة الغرامية كباعثة على السّلام والأمان. إنّها قصيدة تفكيك الخطيئة، والفناء في المعشوق، والتّقرب إلى الله عن طريق المرأة  بنَفَسٍ صوفيّ خافت. وما اللغة الأنيقة التي ترجم بها “الكتاب المقدّس” إلا دليلًا على رقّة عباراته، وتأثّره بهذه اللغة، ونبرته الإنجيليّة التي تتردّد في زوايا جملته.

   إن المرأة العاهرة التي صوّرها في لن والرأس المقطوع تحوّلت إلى امرأة قدّيسة في الرسولة، والشّاعر الملعون النّافخ في مزمار الشّيطان، الجامح كحصان لا يهدأ، سرعان ما استكان، وهدأ، وعاد إلى صفائه، وتحوّلت معه المرأة إلى رسولة وإلهة، ومخلّصة، وطريق إلى تطهير الذّات، وصارت المرأة ” جوهرًا كونيًّا، وليست موضوع غزليّات ذكوريّةٍ مكبوتة”.([15])

   لقد آمنَ الشّاعر بها إيمانه بربّه، وبكل الأشياء الجميلة في الكون، فقطع كلّ صلةٍ له بالناس، وصارت وجهته التي يذهب إليها، وقِبلته حيث يدير وجهه، وحبّه الذي يُريه الله، وشمسه التي تنير حياته، وطريقه إلى التوبة والخلاص.

   ” يذهب الناس إلى أعمالهم

     ومن حبّها أذهب إليك

     هي تنظر فأراك

     آمنتُ منها يا ربّ

     هي تشرق فأستنير بك”.([16])

 

سهر وغيرة وجنون

   يرتمي العصفور على الشّوك، فيجرحه الشّوك، ويحبّ الرّجل المرأة، فيجرحه حبّها. هي حالُ المحبّ مع المحبوب: سهر وغيرة وأحيانًا جنون. هذه حالُ أنسي مع المرأة الجديدة التي سلبت كيانه، ورمته وحيدًا؛ يغار وينتابه الحزن والجنون. إنه جنون الحبّ الذي اختبره بصدق، ولحظة ضعف الرّجل أمام مَن يحبّ، أمام المرأة التي يناجيها بكل خوالج ذاته، يغشاه العشق فيتركه نهبًا للغيرة والشّك والخوف، ويفقد توازنه أمامها، ويصبح وجوده رهنًا بوجودها، يقول الشّاعر:

          ” أغار عليك من صوتك، من نومك من وضع يدك في يدي

            من وجودك عبدة

            من وجودك لحظة

            من ورق الخريف الذي قد يسقط عليكِ

            من الماء الذي يُتوقّع أن تشربيه

            أغارُ عليك أجنُّ أجن “([17]).

   المرأة عنده أرض الكلمات وفضاؤها وغيومها، وكل جميلٍ في حياته. وحين وجدها، وجد الطّريق، وأهدته إلى الله، فظهر له الرّب، فأحبّه وآمن به لأنه خالقها وصانعها. لقد وجد حبيبته وعيناه مغمضتان، فهو استغنى عن الطّريق، لأنها باتت طريقه وهدايته. ومعها، ما أجمل الهاوية والسّقوط فيها.

” كل امرأةٍ هاوية، وكل حبّ سقوطٌ فيها،

هذه قصّة الوجه الأول من التكوين. وجدتها وعيناي مغمضتان. فالطّريق حبيبتي.”([18])

   وها هي تغمر قلبه وأسراره، وتمسح هامته، فيصبح قدوة الأحرار. وتنفتح أمامه نافذة الأمل، البشارة، فتحرّره، وتحرّر العالم، ويدخلُ قلبَهُ نورُ الإله، ويشفى بملامسة يديها.

   ” أنت لي:

     شتاء نجوم وشمس وينابيع وشعاعًا يخرقني من زجاج الكنيسة

     ويدين شافيتين

     تمسحين هامة الخائف فيصبح قدوة الأحرار

     تفتحين نافذةً الريح بالبشارة

     أحبك فكيف لا أحبّ صانعكِ”([19]).

  بالحبّ تقصر المسافات، وتعشب الصّحارى، ويصبح حملُ الجّبل أخفّ على العاشق من مكابدة الشّوق والغيرة، وتصبح الأرض مكانًا ضيّقًا وقصيرًا.

   ” الجبل أخفّ حملاً من الشّوق

     والأرض أقصر من الغيرة”.([20])

 

غرامه بالحوريّة ذات العينين النّاعمتين

  ويلتقي الشّاعر في هذا مع بودلير في غرامه بالحوريّة ذات العينين النّاعمتين كالمخمل، تلك التي تجعل الأرض على كثافتها أخفَّ عبئًا، والعالم أقلّ مشقّة، والحياة أكثر عذوبة.

 يقول بودلير في أزهار الشّر([21]) في ذات العينين النّاعمتين.

   لقد كرّسَ الشّاعر كثيرًا من شعره للمرأة المجدليّة التي يشتهيها ويفتدي خطاياها، فهي مولودة لتصحّح الحياة، ولتعطي معنى جديدًا للطهارة، لتدمّر وتحرق بنار الغواية، فلها مجد العصور المجيدة، ومن خلالها يرى المسيح. فيقول:

   ” ساقاك حميمتان كنهدي

    وأنت مولودة لتصحّحي الحياة،

 مولودة لتصحّحي الطّهارة

    دمّري دمّري

    وسّعي وسّعي الآفاق

    ولترتفع القداسة من نارِ ساقيك”([22]).

   لكنَّبودلير سبقه إلى هذه الحال عندما خاطب فتاةً أثارت فيه شعورًا بالحسد والرّغبة، فإذا هي خالقة، فيها رقّة الماء، وروح القداسة، وصنع الإله. يقول بودلير: ([23]). ويربط الشّاعر بين الحبّ والموت، كلاهما واسع ورحبّ، إلا أن الحبّ أوسع من الموت، وبإمكانه أن ينسينا كل الخسارات والتفاهات، وأن يحمينا من الموت، وأن يكون قدرًا واحدًا. ويتقاطع هذا الموقف مع رامبو في ربطه بين الحبّ والموت،  يقولأنسي:

   ” الحبّ واسعٌ جدًا

     خلقنا الحبّ

     ضدّ الهلع والموت

     ضدّ التّفاهة، الغيرة، البكاء، السّماء، المنفى، العذاب

     ضدّ الموت الموت الموت”([24]).

   وهذا الحبّ يعيد إلى البلاد الله، ويعيدنا إلى ملكوته على امتداد هذه المعمورة على الرغم من كلّ الارتكابات والحماقات والتجديف. لا شيء يعيد مجد الله غير الحب، هذا الذي طبقت شهرته الآفاق، وأتى بالمجد والرّعشة والمسرّة.

   ” وأنا وأنت والحب

     حبٌ يعيد إلى البلاد الله الذي كان قتيلاً في ضمائرنا الحيّة

     الذي يُولدُ من حريق حبّي القديم

     الذي يُولدُ على سريرك، وتجيء العصور ومجد العصور”([25]).

في رحاب الحضرة الإلهية

   وفي ديوانه الرسولة يدخل الشّاعر رحاب الحضرة الإلهية، والوسيلة إلى ذلك هي الحبيبة التي عبّدت له الطّريق، وأنارت كيانه الضّائع بنور الحب، تلك التي ” تكتسبُ بعدًا إلهاميًا يقود الشّاعر إلى معرفة الكون وسرّ تكوينه”([26]). فـ” الرسولة كتاب حبّ هيولى يمسح الحنين عن مرايا الفردوس المفقود ليدخل في الحضرة الإلهيّة مطهّرًا حتى الجذبة الصّوفية في تعانقٍ مع الكون، أو مع المرأة/ الذات، المرأة/ الحبّ، المرأة الغيبوبة”([27]). في تراتيل طوباوية اقترب في خلالها من خشبة الفداء، وراح يقدّم القرابين على مذبح الفردوس المطهّر من كلّ دنس، والسّاعي إلى مكاشفة النّور الإلهي، والسّير في دروب الحقيقة.

   والحبيبة واسطة، وشفيعة، ومخلّصة في آن، وخالقة، بعكس الرّجل الذي هو مخلوقٌ فقط. وهي التّاج الذي يكلّل رأسه. وإذا كان هو رأسها، والرّجل رأس المرأة مثلما المسيح رأس الكنيسة، فهي الهالة حول رأسه، والتّاج فوقه، ومن دون الهالة لا قيمة للنور.

   ” إذا أنا رأسك يا حبيبتي فأنت الهالة حول رأسي

      أنا رأسك وأنت التّاج على رأسي

      حبّك خلّصني،

     صفّاني وأبدعني

هللويا”([28])

   وهي عصفورة بيضاء تنأى به عن الإثم، وتفتح له أبواب السّماء بلا مقدّمات، حتى صار يتلوّن تبعًا لحالاتها النفسية والجمالية؛ فالمدى ملكُ جناحيه، والأزرق الواسع طريقه إلى السّلام والهدوء والتوبة، إلى الصّفاء والتّطهّر من دون عوائق.

   ” يا حبيبتي أنت عصفورةٌ بيضاء وأنا عصفورٌ أبيض

    أنت عصفورةٌ زرقاء وأنا عصفورٌ أزرق”([29]).

 

خاطئة في ملكوت الحبّ

   إذًا، هذه هي المرأة مع أنسي الحاج، عاهرة وراسفة في قيود الغواية، خاطئة في ملكوت الحبّ، مجدليّة في دروب الإغواء من أجل التطهّر. لقد صعّدَ الشّاعر من لهجته القاسية، كي يرتقي من دنس العالم الأرضي، ويعبر بها نقيّة لتصبح المرأة أمًّا مخلّصة، وزوجة يسمّيها الأم الثّانية، ويعبر بها تخوم الخطيئة والندم لتصبح المالكة والخالقة التي خلقت العالم وكانت خليفة الله في الخلق المنفعل، في مقابل خلق الله الفاعل. فيقسم أن يكون لعبتها وعبدها راكعًا تحت قدميها، وسجّانًا عند بابها، وإذا لاحت غفرت له كلَّ الآثام، وحفظته بطهر الصّلاة.

   ” ولاحت حبيبتي فأصبحت صلاة

    وحفظتني فظهرت لي يا ربّ

    أقسم أن أركض وراء حبّي أقسم أن أكون باب سجنك

    أقسم أن أكون فريسة ظلّك

    أقسم كلّما عثرتُ على قلبي بين السّطور أن أهتف

    وجدتك! وجدتك!

    أقسم أن أنحني من قمم آسيا لأعبدكِ كثيرًا”([30]).

   وهذا هو الحبّ عند أنسي الحاج؛ هو وجوده وكيانه، خلاصه الذي كان يبحث عنه بعد العاصفة. لذا، تراه يتحسّر، ويقطع الصّلة مع ماضي لن، وينحاز إلى المرأة الرسولة بكل كيانه محمّلاً الرجل مسؤولية السّقوط من الجنّة. فيتلو فعل النّدامة عن” آدم” الذي لم يسمع كلام الله الذي أدار للجبان صمته، وظنّ الرجل إنه هزم امرأته، ولكنّه توهّم ذلك، وبدا ضعيفًا مغلوبًا على أمره. وهي القويّة لأن الله وضعها وأبدعها لكي تُحَبّ، لا لكي تُنفّذ أوامر آدم الّذي اتّهمها بالفجور، بينما في الحقيقة هو الفاجر العاصي.

   ” ونادى الله الرّجل: ماذا فعلت؟

    فشكاها: يا الله فرّقتني أغوتني جرّتني إلى الشّر

   ولم يسمع جواب الله الذي أدار للجبان صمته

   وحزن الله وقرّر أن يكون للرّجل خلاص رغم ذنبه

   في الحبّ وضعها الله،

  وعريسها وضعها على الصّليب

   ظنّ هزمها وما هزمها بل تركته يفرح بإوهامه

   لأنه الضّعيف ولأنها القويّة”([31]).

   الحبّ هو خلاصهُ وشقاؤه، يقدّمه نقيضًا للبؤس والموت، وخلاصًا من الإثم.” إنه مضادّ حيوي للموت، وانتصارٌ على الخطايا لكونه يحمل قوّة الحياة والقدرة الإلهيّة على اجتراح المعجزات، وغسل الذّنوب”([32]). والشّاعر يؤمن بعبارة بروتون “ليس من حلّ خارج الحبّ”.

***

[1]– أنسي الحاج: ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة، ص 109.

[2]– فوزي يمين: أنسي الحاج، التّحولات الشّعرية من” لن” إلى “الرّسولة”،ص138.

[3]– أنسي الحاج: ماضي الأيام الآتية، ص17-18.

[4]– من مجموعة “لن” لأنسي الحاج.

[5]–  المصدر نفسه، ص 91.

[6]– أنسي الحاج: ماضي الأيام الآتية، المصدر نفسه، ص 26.

[7]– عبد الكريم حسن: قصيدة النّثر وإنتاج الدّلالة، ص 111.

[8]– أنسي الحاج: ماذا صنعت بالذّهب ماذا فعلت بالوردة، ص 49-50.

[9]– أنسي الحاج: لن، ص 95.

[10]– أنسي الحاج: لن،المصدر نفسه، ص 101.

[11]– المصدر نفسه، ص60.

[12]-المصدر نفسه، ص 77.

[13]-أنسي الحاج:المصدر نفسه، ص 78.

[14]– فوزي يمين: التحولات الشعرية، المرجع نفسه، ص 271.

[15]– عبد القادر الجنابي: من قصيدة النّثر إلى شقائق النّثر، ص 12.

[16]– أنسي الحاج: الرسولة بشعرها الطّويل حتى الينابيع،ص 32- 33.

[17]– أنسي الحاج: ماذا صنعت بالذهب، المصدر نفسه، ص94-96.

[18]– أنسي الحاج: الرّسولة، المصدر نفسه، ص 11.

[19]– المصدر نفسه، ص 34-35.

[20]– أنسي الحاج: الرسولة، المصدر نفسه، ص 38.

[21]– “تجعلين العالم أقلّ مشقّة والأيام أخف عبئًا

    يا لحني، يا عطري، يا ضيائي، يا مليكتي الوحيدة” أزهار الشّر، ص 86.

[22]– أنسي الحاج: ماذا صنعت بالذهب، المصدر نفسه، ص 98-99.

[23]– قدماك جميلتان كنهديك وفخذاكِ بحجمهما يثيران الحسد في نفس كل بيضاء جميلة،وعيناك مصنوعتان من المخمل.           

لقد كان عملك أن تملأي الجرار بالماء والعطر، وأن تسبحي في أحلام عامرة بالطّيور” أزهار الشر، ص153.

[24]– أنسي الحاج: ماذا صنعت بالذّهب، المصدر نفسه، ص 100.

[25]– أنسي الحاج: ماذا صنعت بالذهب:  المصدر نفسه، ص 102-103.

[26]– فوزي يمين: التّحولات الشّعرية: المرجع نفسه، ص 244.

[27]– جورج طراد (لا ت) مسيرة التّحولات في تجربة أنسي الحاج، الأدب اللبناني الحيّ، بيروت، دار النّهار للنشر، ص 146.

[28]– أنسي الحاج:الرسولة، المصدر نفسه، ص 22-23.

[29]– المصدر نفسه، ص 36.

[30]– أنسي الحاج: الرسولة، المصدر نفسه، ص 47-48.

[31]-الرسولة: المصدر نفسه، ص 17-18.

[32]– عائشة شكر: جماليات كشف الدّلالة، ص 42.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *