“الدروب” حين ترصد الرواية جغرافيا القتال وترسم معالم  الشهيد

Views: 188

زينب إسماعيل

يمكن وصف رواية “الدروب” للكاتب عبد القدوس الأمين بالرواية المكانية، وإن كان المراد منها توثيق سيرة وحياة الشهيد”ابراهيم الحاج، أبومحمد سلمان”، بحسب ما ورد على غلافها، والمكان فيها،هو ضابط الصراع الدائر بين مكونات النص السردي، وهو جزء لصيق بمكنونات الشخصية الرئيسية التي تدور حولها الرواية، تخاله يرسم ظلها، ويُحدّد ملامحها ويُعلن معالمَ انتمائها وخلفيتها الأيديولوجية. الرواية الصادرة حديثًا عن دار المودة، يقدّمها الكاتب بأسلوب الوثب السردي يمزج فيه بين التحقيق الميداني والقصة التوثيقية، تراه يعاين فيها عدة مناطق وأماكن كانت مدار الحدث الروائي. هذا اللون من الكتابات الأدبية قد يُحاكي نماذجَ روائية قدّمها الروائي الجزائري الراحل”مولود فرعون” (1913-1962)، الذي تقّصد كتابة رواياته باللغة الفرنسية، لكي يقول للمستعمر الفرنسي”لا” بلغته.

وإذا كان مولود فرعون قد مزج في روايته”الدروب الوعرة”، بين الحقيقة والخيال، موثقًا معاناة الجزائريين في زمن الاستعمار الفرنسي، في محاولة للخروج من منزلقات الأمكنة، والنهوض بها إلى ما هو أسمى وأرقى، في عالم اتسم بالدناءة والانحطاط والخيانة والفقر، فإنّ عبد القدوس قد انحاز إلى اللغة الوصفية في رسم المكان، مستغنيًا عن عالم الخيال تمامًا، مفسحًا المجال  للأحداث الروائية أن تتدفق كما هي في الواقع، فبدت الأمكنةعلى تنوعها وكثرتها جسر عبور نحو المطلق.

يتخذ الراوي زمنًا تصاعديًا في عملية السرد، يأخذنا فيها إلى طفولة الشهيد “ابراهيم الحاج أبو محمد سلمان”، لاسيما في الفصلين الأول والثاني من الرواية، مسلطًا الضوء على البنية الاجتماعية والظروف السياسية والأمنية أثناء الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان،وانعكاس هذه الأحداث على بناء تلك الشخصية الواعدة منذ الصغر، مخصصًا الفصلين الآخرين للحديث عن منجزات هذه الشخصية على المستويين الأمني والعسكري في كل من لبنان في الفترة الممتدة بين مواجهته للاحتلال الاسرائيلي، ودوره الأسطوري في حرب تموز، وفي مواجهة التكفيريين في سوريا والعراق.

من مشغرة تفرّ الحكاية، ترسم لنا ملامح ذاك الطفل القادم إليها من عالم الغيب. “بدت مشغرة كلها بأشجارها وحجارتها وعصافيرها سعيدة بحضور إبراهيم. حتى دروب مشغرة أصبحت طويلة..هذا الصغير الأشقر ذو الضحكة الحلوة أعاد رسم كل شيء” (ص 11و12).

ومن ساحات مشغرة ودروبها الضيقة يتسع المكان ليكبر ذاك الطفل، يتخرّج من مدرسة الراهبات التي أحبها كثيرًا، ويعاين التحولات السياسية والاجتماعية في وطنه، يشهد على قساوة الاحتلال الاسرائيلي،  وتعسف العملاء،يعاين فظاعة التهجير والحصار والاعتقالات، يشارك في الانتفاضة ضد الظلم والتعسف، وهو في كل ذلك يجمع بين خيارين اثنين “حب المدرسة وحب القدس”، العلم والجهاد.

يجيد الراوي فن المسح الطبوغرافي حين يُحدّثنا عن تلك المهام الأمنية الدقيقة التي يتولاها بطل الرواية فيما بعد، لجهة الرصد والاستطلاع  لمواقع العدو، فتبدو اللغة السردية، لغةً توثيقية بامتياز ينحاز فيها الكاتب إلى الرسم الدقيق لتلك العمليات بكل تفاصيلها، فتغدو عمليات الرصد والاستطلاع هي الحكاية وهي الرواية، وإبراهيم يزداد تألقًا في عمليات الرصد، “يعرف تمامًا أفضل النقاط للرصد في الاتجاه الذي يكشف مواقع العدو ودروبه”(ص44). في موقع الجبور والرهايات وغيرها من المواقع يعرفها كباطن كفيه. والسؤال المطروح هنا لماذا يعمد عبد القدوس إلى ذاك التعداد المفرط لتلك العمليات الأمنية؟ بدءًا من بركة الجبور، تلال أبو راشد والرهايات في البقاع الغربي، وصولًا إلى مواقع كفرحونة جبل الريحان، والعيشية وجزين وغيرهاعلى صعيد الساحة اللبنانية، وتاليًا في “الساحات الصعبة” كما يسميها الراوي، في كلٍ من القلمون، دير يعقوب، قارة، النبك دير عطية، ويبرود أم المعارك في سوريا، ثم تتسع الأمكنة وتتشعب لتصل إلى محور سامراء ديالا ومحور بغداد في العراق. ولماذا تتحول لغته السردية إلى لغة المحلل العسكري الذي يقوم بالمسح الميداني لكل تلك المواقع، يقف على أهمية كل منها بمواجهة العدو.”أيّ عسكري ما كان ليوافق على نصب كمين في النقطة التي اختارها إبراهيم للمواجهة فهي تحت العين الإسرائيلية مباشرة من موقعي جزين وعين الطغرى.. هذا الاختيار كان خارج المنطق العسكري..كان يتبّع أسلوب الضربات المتتابعة…لايدعهم يلتقطون الأنفاس..”(ص56). ” أخذ ما يوازي نصف ساعة ألقى نظرة على سور مطار حلب ومحيطه ..أنشأ دشمة لمدفع 122 حدّد شكل الدشم والسواتر .. خلال يومين عدّل ميزان الحرب النفسية.. لم تتعد الأيام عدد الأصابع حتى استطاع تحرير قارة..”.(123،130) أما في الساحة العراقية فقد استطاع أن يغيّر مسار الحرب تمامًا.

المساحة السردية المخصصة لتوثيق تلك العمليات الأمنية والعسكرية على اختلافها بين لبنان وسوريا والعراق، تشكل القسم الأكبر من الرواية، وكأنها هي البؤرة السردية لكل الرواية. أو المطرقة التي أراد لها الكاتب أن تكشف عن فظاعة الاحتلال ملتحفًا بمقولة الكاتب الألماني “برتولت بريخت”: “إذا أصبح الظلم حقًا فإن المقاومة تصبح واجبًا”.هذا الواجب ربما هو الذي دفع عبد القدوس لاستخدام تقنية الرصد لكي يصير الوعي (بفن المقاومة) وعيًا جماعيًا، فالفن بحسب بريخت: “لا يولد جماعيًا إنما يصير جماعيًا حين يمتزج بالواقع”.

اللغة التوثيقية التي طغت على الرواية، لم تخلو من شحنة أدبية ورهافة شعرية في وصف الدروب التي مشاها بطل الرواية، ولعلّ أشدها رهافة ما ختم به الكاتب روايته” تعطلت السيارة على جسر الشيخ عامر، نزل إبراهيم يتفقدها، صوت صغير قذيفة هاون، ثم ظلام مطبق…ثم انجلى الظلام دفعة واحدة بنور مختلف.. لم تكن دروبًا، قد تجمعت في درب واحد.. نظر إلى حيث تكثف النور.. نظر إلى جسده المشظى ممدًا إلى جانب السيارة.أفٍ.. لكم كنت ثقيلًا أيها الجسد..”.

ثمة مفارقة شعرية لانفكاك الروح عن الجسد في لحظة روائية ممتعة أجادها الكاتب. هكذا فتح بطل الرواية كل الدروب المفضية إلى الحرية.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *