“المنفرد” لـ وفيق غريزي كتاب للأجيال المتنورة التي لم تولد بعد

Views: 197

د. قصي الحسين 

” نهض كالمذعور من سريره، ونظر يمنة ويسرى، علّه يدرك مصدر الصوت 

وبعد ان استرد هدوءه، خاطب نفسه قائلا:  

سأجتاز السهول والجبال، والروابط التي تمنعني من المعرفة والاستنارة.

زفّت الساعة لسلوك حياة الوحدة، بغية بلوغ طريق الخلاص “. 

طلب الحكمة قديم قدم الدهر، يشعر طالبوها بضيق، بتضايق، بانهم يعيشون في المضائق، ويعانون من المضايقات، فينفرون إلى عزلة الجزر، كما فعل روبنسون كروزو، أو الى قنن أو قمم الجبال، كما فعل الانبياء والمتوحدون المتحدون مع الله والطبيعة، أو كما فعل الفلاسفة والمفكرون حين ساحوا في البراري، يلبسون المسوح وينشدون الحرية، يلتقطون الحكمة والمقالة النادرة، والفلسفة والفكرة في مظانها، يحملونها على اكتافهم مثل اكياس القمح، وينثرونها في البراري لتكون اغراسا، ولتكون في بطون الطير، ينشأ الجيل بعد الجيل عليها، هكذا كانوا يأملون، هكذا كان مأمل الكتاب الرائد (“المنفرد”) الذي لا يخذله أهله. 

 

يقول وفيق غريزي:  

” آه، اشجار نفسي تنحني أغصانها تحت ثقل ثمارها الناضجة، فأين الجوعى لا يجدون

هذه الثمار الشهية ويسدون بها افواههم وأفواه الجوع الصارخة في الصحراء؟ إنها كالشمس تسطع على الجميع “. 

مجموعة الأوراق التي دبّج بها غريزي تجربته، وجعلها بين ايدينا، انما تنطوي على الحكمة والفلسفة والأفكار التي تسبق عصرها، فقد ارادها أن تكون للأجيال التي لم تولد بعد، على حد قوله:  

” كتاب للأجيال المتنورة التي لم تولد بعد. أخطر الطرق أيها الأحبة، هي الطرق بين القطعان. فحدسي يقودني إلى مسلك الحق والحقيقة، المزيّن بأكاليل السلام وأزاهير السكينة.”

هذه العينات الملتقطة بعفوية من فهرست الكتاب، انما تشي بإصرار غريزي على المكاشفة والمفاتحة والمناقشة، في جميع العناوين والموضوعات الميتافيزيقية والفيزيقية التي تهم الإنسان وتحيا بها الإنسانية. 

” كلماتي تسقط عليكم من شجرة افكاري لتنقلوا رحيق معانيها ومضامينها المختزنة، وتغدق على عقولكم وأرواحكم الغبطة والمعرفة “. 

يهتم الشاعر والمفكر وفيق غريزي بتسليط الأضواء على المعاني الإنسانية النبيلة. يريد النأي بها عن التشوهات المرضية، التي ترضي اصحاب الغايات. يريد الحكمة الزلال من ينابيعها الصافية، يخبئها في الجرار المعتقة في كهف الروح، ثم ينتظر النضوج في المواسم التالية. فكل ما يكنزه في أعماقه، هو للأجيال الآتية لا للأجيال الحاضرة. كأنه يريد الخمرة المعتقة، لا الخمرة من الكروم المعتصرة.

” من رحم المرأة يولد الإنسان 

يعيش ايام عمره بألم.. وعذاب.. وقلق 

كالنبتة ما ان تتفتح براعمها حتى تذبل وتذوي. وتتناثر اوراقها مع الريح 

وكالظل يكبر ثم يتلاشى ويختفي “. 

***

وفيق غريزي شاعر وفيلسوف ومفكّر تصفه مجموعتهً الجديد والقديمة: “المستنيرة – والتالي:  المستنيرة في المطلق”، بأنه الإنسان المنفرد، المتفرد، الذي يعيش البرهة المقبلة في برهته الحاضرة. إنه استطلاعي، بقدر ما هو رجل المختبر اليومي، بقدر ما هو رجل الحكمة اليومية، يعرف السر واخفى. 

“تمتزج في داخلي كل العناصر 

النار.. الهواء.. التراب.. والماء 

أنا ذاتا واسما يختزل الأسماء والأشكال 

أنا الوعي الذي يستوعب الوجود، 

ويفك طلاسم الألغاز “.

وفيق غريزي ليس الرجل المناسب للمهادنات، ولا للمهل المسترخية على حوافي الزمن. إنه الرجل المتقد، كل كلمة يقولها، يجب أن تكون نافذة، يجب أن تكون البحر والشراع، والنسمة والغيمة الحالمة بالمطرة الآتية.

“لتنهار الأبنية المزعزعة تحت اقدام الحقيقة 

فعلى أنقاضها سيعلو بناء متينا شامخا 

مزدانا بالأنوار الايمانية الساطعة “. 

 

في كتابه ” المنفرد ” يظهر علينا وفيق غريزي الحالم برسالة، وقد وصلت إلى ايدي اصحابها، يتخذونها بوصلة لتربية الأجيال القادمة، بعدما عانت البشرية كلها من أمراض العصر، ها هو يكتب اليوم ما يقرأ غدا، لأنه لم يعد واثقا بالأجيال الملوثة.

” يجب على الكائن الإنسان الراقي

أن يلجم شياطين الشهوات 

ويوقف جموحها، تجنبا لوقوعه في 

الدناءة والمجون 

وليظل عقله متوهجا “. 

وفيق غريزي النقي، يطالب بالتطهرية، وينتظر ولو ملء السنين، حتى يفقه المتأدبون، معنى مأدبته، فيهرعون، إلى كتابه ( المنفرد ) ياتدبون به، وينفرون متفردين في دنيا التبشير بالإنسان المنفرد، بالإنسان المتوحد، بإنسان الوحدانية الصافية، يقدم حكمة المنفرد للاجيال التي تستحقها !

” اه، ايها الاحباء ما احقر الرجال الذين 

يظنون ان لهم عقلين، 

في حين انهم يعلمون ضمنا 

انهم لا يملكون عقلا “…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *