وليد نجم شاعر يطرق أبواب الفلسفة بعنف!
أنطوان يزبك
يقول وليد نجم :
كسٓرت اسمي والحرف شرشر قصيد
شلٓعت قلبي والعرق قسٓم نهيد
لما رحت اعصر حناني عالسطور
صارت قوافي مزهزهة ترشح نبيد
في هذا النوع الشعري السلس والنقي نقاء شعريا بامتياز ، نعثر على مزج المادة بالروح في تجسيد لمفهوم فلسفي عتيق بدأ مع افلاطون ولم ينته الى الآن .
في هذه الابيات نصادف كيف تتعمق التجربة الشعرية لدى الشاعر و يتماهى مع شعره لدرجة الذوبان فيه ، قد تكون هذه ملامح الصوفية حيث يذوب المتصوف في الربّ المعبود ، كما هي حال الشعر التجاوزي الذي خطا اول خطوة فيه الشاعر الأميركي رالف والدو اميرسون ،نحو الانفلات من ربقة عبودية المادة والانعتاق الكلي من عقدة التواجد على هذه الأرض _ السجن ، ومن ثم الهجرة إلى عوالم اخرى ،و وليد نجم ارتضى الهجرة والتحوٓل إلى قصيدة يسكنها وتسكنه، ويتحول كذلك في مرحلة اخرى إلى جزيئات عابرة منها الروحي ومنها المادي ويصير ايضا حنانه نبيذا معتقا على الابيات والسطور ..
هكذا يطرق وليد نجم باب الكلمة الفلسفية والحكمة التأملية ، من باب الوحي الشعري العذب والمتجاوز ، مدركا أن التحولات في القصيدة هي سمات باقية ، وطريق لا عودة منها إلى أشكال ونماذج في الكلام الشعري المعهود، على الاقل في الذي نقرأه ونسمعه يوميا على المنابر وفي الأمسيات ، وقد يقول قائل أن هذا النوع من الصور في الشعر موجود منذ الأزل، ولكن لا يأخذ مداه إلا من خلال طقوسيٓة معيٓنة متجددة يستخدمها كل شاعر في شعره حتى يكوٓن خصوصيته واسلوبه الذي يعرف به ، فيجدٓد ولا يقلٓد ، يطوٓر ولا ينسخ ،يبدع ولا يشوٓه !
لا أعلم من منح البعض صكوكا في تحديد” شعرية” شاعر ما و من بعد ذلك منحه الشهادة … ولا ادري اذا كان يصحٓ العتب واللوم في هذا “البعض ” الهارب من الأقدار إلى الحلقات التلفزيونية ، ولكن حذاري فقد تطاله “صكوك الغفران” بمفعول عكسي فيلحق به “وجاهيا ” التٓجريم ومن ثم التٓحريم فالخلع و من ثم القلع ونجانا الله من القدح والذمٓ و جندلة الرؤوس والقطع !
ما علينا سوى أن نعتدل في كل شيء ولا نساوم واعلموا يا قوم ويا محبي الشعر أن في” الشعر اللبناني المحكي” كما يحلو للبعض أن يطلقوا عليه : تسميات وتصنيفات ، من دون الأخذ بالمدلولات وحتى الإشارات التي يتضمٓنها هذا الشعر ،حتى لا نقول هذا النوع فتغدو أفكارنا فتاوى وتحليلاتنا مزاعمَ ، ففي ذلك ما يثير حفيظة عدد كبير من الشعراء ؛ والمستور غير المعلوم ، فللشعر اللبناني ، تقنيات بارعة في استحداث مناخات شعرية و مدارات تحلو زيارتها و المكوث فيها ليس فقط من أجل الاستمتاع بالقصائد ، ومن ثم تركها والبحث عن قصائد اخرى ، كمن يلهث وراء موضة او تقليعة جديدة ، بل من أجل تحويل الشعر إلى رؤية حديثة أسوة بالعلم والفلسفة واللاهوت فهو على مسافة واحدة من كل هؤلاء .
البعض أرادوا تسويق الشعر في “السوق ” حيث المضاربة، فإذا كان الأمر كذلك دعونا نفتح ” بازارا ” للشعر والشعراء، ونعيد تفعيل سوق “عكاظ شرعي حديث ” بواسطة التقنيات الحديثة فيزدهر الزوم والفايس بوك والتيك توك وتك تك تك يا ام سليمان ، تيك تيك جوزك وين كان ،والجواب على ذلك :
تيك تيك كان بسوق الشعر عم يحوش شعر و قصدان …
لا يا سادة ليست المسألة هكذا، فللشعر حرمة هي بيد الشاعر، وله منها وعي اللحظة الشعرية ولها منه تطوير ذاته واسلوبه ورؤاه وتفكيك عقد السلف من أجل فتح الطريق امام الخلف ، وذلك من خلال شعر معلن صريح ولا حرج من أحد ،طالما يؤخذ بيد الشعر إلى برٓ الأمان…
وبعد … ها هو وليد نجم ، يكتب شعرا قد يظنه البعض وليد صدفة ، بيد انه وليد الفلسفة بامتياز، كيف ؟
اولا من خلال البحث عن عناصر جديدة ذات مدلولات تذهب بالمعنى نحو الماوراء وتجعل من نسبة المعرفة الحسيٓة ترتفع و تتسامى ، ذلك ان الشعر عينه قد ذهب إلى مكان آخر غير ذلك الذي عهدناه فيه قبلا .
و في ذلك يمنح وليد نجم الفلسفة الحيز الاكبر في شعره قائلا :
سَحَبْت النّور مِنْ شَمس المَجرّه
عَصَرْتو خَمر عَتّقْتو بِجرّه
رَسَمْتو لَوْن وصبغتو نبيدي
سقاني شعر من أعمى المعرّه.
واعمى معرة النعمان ابو العلاء كتب فلسفته شعرا او هكذا كانت طريقة التعبير ، ولا غرو لو نستعيد هذه الأساليب و ها هو وليد نجم يقول في قصيدة يسأل فيها الوجود عن ماهيته :
لشو ريح بتحملني
تطيٓرني ..وما تسألني
تزرع روحي بهاك الأرض
بتراباتا تجبلني !
ترجع تخلقني من جديد
زيٓنلا عمري مواعيد
لما تسألني:شو بتريد؟
بقلا كيف تعاملني
بقلا بهالارض انسيني
عطر ترابا يواسيني
غزلتو بتكات سنيني
حباتو عم تغزلني
لو شي ريح بتحملني
تطيرني وما تسألني…
في هذه القصيدة نزهات فلسفية صريحة عن الكون والوجود وعبث الحياة الذي كما الريح يأخذ الإنسان إلى أماكن مجهولة. ريح عاتية تحلق بنا وتأخذنا إلى مطارح واماكن نجهلها، كما السندباد عندما فرٓ من جزيرة المتوحشين بواسطة طير العنقاء ، وما جزيرة المتوحشين سوى هذا الوجود الذي يأسرنا، ونسعى إلى الفرار منه ومن عبوديٓته وقسوته و ضغوطه على ارواحنا التي خلقت للحريٓة .
يقول وليد نجم ايضا، في وصف قدرات الشاعر :
الشاعر اذا سافر على جناح الخيال
بإيدو القلم بوشوش الورقة جمال
بيخلق دني بلوحة حروف ملوٓنة
بيغزل خيوط الموهبة للشمس شال !
لم يكن الشاعر يوما سوى كائن من روح وجسد حيث الروح هي الغالبة وما الشعر سوى وسيلة التعبير والتحرر لديه من أجل ابتكار عالم آخر جميل ،عالم من خيال يتسامى ويلوح له في أفق الوجود مثل مدينة الله الذهبية التي يطمح أن يصل إليها مدينة تلمع سطوح منازلها المذهبة تحت نور الشمس المتشحة بشال من خيوط الموهبة ! …
ولكن ماذا تقول فلسفة الشاعر في موضوع الموت والفناء والرحيل عن هذا العالم والأفول من الوجود ،هاكم الجواب في شعر وليد نجم :
سامع حديث العشب و وراق الغصون
حتى سكون الأرض عم يهدر حكي
مين قال انو الموت عالم من سكون
يمكن حياة ما يكون فيها بكي ….
على أمل أن تكون لنا هذه الحياة ، وأن لا نبكي بعد اليوم ….