سجلوا عندكم

يوميّات نصف مهجّر في بيروت…

Views: 283

زياد كاج

في سنة 2006 كنت نصف مهجر من الضاحية، واليوم أنا نصف مهجر وأكثر في بيروت، حيث عشت المراهقة وايام تفتّح الوعي الجميلة. البلد اليوم يمر في أكثر مراحل تاريخه سوادًا وضبابية وحزن. الفقدان كثير والنزوح مخيف إلى عاصمة تكاد تختنق والمصاب كبير حتى بات في العيش حرج وخجل.

من حسنات التهجير أن علاقتنا بالمكان تتغير وتتشظى وتنفتح أمامنا نوافذ علاقات وآفاق أمكنة لنا فيها ذكريات وصداقات وحب.

بعد تركنا للمنزل، بقي القط جنجر وحده هناك. غامرت مرة وزودته بوجبة من طون وفتات الخبز والكثير من الماء. عاش المسكين ليالي قصف عدواني لا يرحم البشر والحجر. وتحت إلحاح ابنتي، غامرنا في صبيحة يوم هادئ وقصدنا حينا في الضاحية. خفت أكثر لأن ابنتي كانت برفقتي.

 اكتشفنا مدينة اشباح، وتجنبنا الاحياء المدمرة، وهرعنا إلى شقتنا. كانت معركة مع جنجر قبل أن نتمكن من إدخاله إلى القفص. هكذا مهمة تصبح اصعب ونحن نتوجس حدوث انفجار في أي لحظة. في الشارع الذي خرجنا منه في اقل من عشرين دقيقة، غابت الزحمة والسيارات والموتوسيكلات والقبضايات الذين كانوا يتمترسون على الارصفة، يدخنون، ويعرضون عضلاتهم وبطولاتهم الافتراضية. الشهداء والشهيدات، والحمد لله، ليسوا من هؤلاء. وفي الأمر خسارة لمجتمع ما بعد الحرب. عدت وابنتي سالمَين إلى بيروت ومعنا جنجر وقد ارتفعت اسهمنا في الأوساط المدافعة عن حقوق الحيوان.

 

توفى خالي ميخائيل رحمه الله بعد رحلة طويلة من العلاج والآلام. خالي كان عصاميًّا ، أسس عائلة وبنى وعمّر من عرق جبينه وقوة جسده. مدمن شغل كان غارو كما يسمونه  في شبابه في منصورية بحمدون. لم نخبر أمي برحيله نظرًا إلى حالتها الصحية، توجهت إلى بحمدون ومعي شقيقتي للمشاركة بواجب التعزية.

أحب قرية أمي وأحب ناسها رغم حزن المناسبة. التقيت بأبناء المرحوم بعد طول فراق، والتقيت بخالتي الساكنة في تنورين البعيدة جغرافيًّا والقريبة قلبيًّا. فرحي الكبير أنني التقيت ابن خالي المرحوم يوسف، جندي متقاعد في الجيش اللبناني. الياس بدأ كأبيه على شيء من الدروشة والطيبة. لولا جهود ابن خالتي الياس الحبيب لما تعرفت على بقية الحضور.

هكذا رحل خالي غارو في زمن كثر فيه الرحيل. خالي الذي أنزلنا انا والياس بسيارته مرّة إلى منطقة تطل على جرف حيث سمعت لأول مرة خرير مياه نهر عين حلزون.

رحم الله خالي مخول الذي بنى منزله من جنى عمره خارج ضيعته التي عرفت التهجير خلال حرب الجبل بفضل نفس العدو.

عذرا مخول لم أتمكن من زيارتك في المستشفى.

اليوم قصدت شارع الحمرا باكرًا لتغيير المزاج. جلست احتسي قهوة الصبح في مقهى على الرصيف متسلّحًا بجريدة النهار والورقية. رأيت في الجهة المقابلة الشاعر بول شاوول وبين شفتيه سيجارته وهو غارق في تدوين كتاباته ووجدانياته. جميل بل مدهش مشهد بول وهو يمارس طقسه اليومي كأنه في صلاة، في صومعة،على كوكب آخر. شاب وليس كهلًا. مبدع وليس مدعيًا. كل شيء فيه جميل ومغرٍ للتأمل: شعره الابيض، تعابير وجهه التي عايشت كلّ أزمنة البلد وتحولاته، قميصه وبنطلونه وحذاؤه من دون جوارب.

وأجمل ما في بول أن قلة من جيل اليوم لا يعرفون من يكون، وهذا آخر همه.

بول شاوول رمز وأيقونة شارع الحمرا.

 

ثم كانت لي جلسة روتين يومية في مكتب دار نلسن مع الناشر سليمان بختي والجار الحبيب الاستاذ حليم والصديق توفيق عكو. جلسة نقاش وحوار حول الوضع وأحوال البلد وشارع الحمرا الذي يشبه شارع صبرا…حسب وصف إحدى العاملات البنغلاديشيات. بهدف ترطيب الجو، أخبرتهم عن معاناتي الجديدة مع البيئة الحاضنة السنية في عائشة بكار مقارنة مع البيئة الحاضنة الشيعية في الضاحية. فزاروب حمود معروف بتناقضاته الطائفية والسياسية بكل وافد متهم حتى يثبت العكس.

مسك الختام كانت جلسة اركيلة مع كوب شاي في مقهى الروضة.  يا الله….كم احب هذا المكان الأخضر حيث خضار الشجر وزرقة البحر. الرواد قلة، وكان من حظي لقاء سريع مع المسرحي عبيدو باشا الغارق في الشغل والكتابة. ألقيت التحية وانسحبت فهو صاحب عبسة بيروتية تعرف متى تقول…مشغول.

جلست في زاوية كان يجلس فيها الشاعر عصام العبد الله وشلته. كنت مكانه وما كنت. تأملت الأشجار والناس ومياه الحمام العسكري وما تأملت. وعي اللحظة هو أن نكون ولا نكون في الوقت نفسه.

أعادني مشهد إلى وعيي الحاضر. المنارة القديمة بالاسود والابيض محاصرة ومخنوقة بين أربع بنايات عملاقة. سكانها لا يحبون الشمس. في الجهة المقابلة، بدت المنارة الجديدة المخططة بالاحمر، خالية من الروح، وبدا المنزل الزهري الذي اشتراه أحد رؤساء النادي الرياضي من عائلة الجارودي ليحوله إلى معلم تراثي يحفظ روح رأس بيروت.

احترق رأس النرجيلة بسرعة كما حال البلد. لون الأشجار الخضراء والكراسي البنية التي تنتظر رواد بعد الظهر، ومشهد عدد من الرواد يلعبون طاولة الزهر…أدخلت البهجة إلى قلبي وانستني ولو إلى أحين بأنني نصف مهجر حتى وقف التنفيذ.

فهل أصبح مهجّرًا كامل الأوصاف؟

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *